الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه عل الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى وآل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الغُرِّ المحجَّلين الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:
عباد الله:
عَوداً على بَدء في حديثنا وقدّ بيّنا في الأسبوع الماضي كيف انطلقت هذه الثورة المباركة بخروج مظاهرات الشعب المظلوم المُسالِم وكيف قابلها البُغاة الفجرة بوحشيتهم وفجورهم.
في ذاك البيان الذي نشرناه قبل أكثَرَ من عامين أجبنا عمّا يقوله بعض المنافقين والمُرجفين والمُضَلَّلين مِمَّن يتجاهلون قول الله في كتابه العزيز: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون” (المائدة :44) أولئك الذين يدّعون أنّنا خرجنا على أولي الأمر المتظاهرين بالإسلام؟
لأولئك جميعاً قلنا ذاك الوقت ومازلنا نقول: على فرضِ أنَّ من يحكم سوريا مسلمٌ يحكم بشرع الله فإنَّ وِلايته باطلةٌ شرعاً، ولا يجوز الدخول في طاعته ولا دعمُه ولا تأييده – وذلك من قبل ضربِه للناس بالصواريخ والبراميل المتفجرة – للوجوه الشرعية التالية:
– أولاً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن يستحل الحرمات الثلاث: “الدم والمال والعرض”، وقد استحلَّها جميعاً الظَّلَمة في بلادنا، فها هم يستحلُّون الدماء ويقتلون الأنفس البريئة شباباً ورجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، وهاهم يستحلُّون المال فيسرق مسؤولوهم أموال الشعب وينهبون ثرواته ثم يُمنحون الحصانة لِكيلا يُحاسبوا، وهاهم يستحلون العِرض فيضربون ويقمعون ويعتقلون ويشوِّهون سُمعة الأبرياء، وهاهنَّ أخواتنا وبناتنا في السجون والمعتقلات يذُقن ألوان العذاب، فأي انتهاك لحُرمة العِرض أعظم من ذلك؟!
ثم أيُّ طاعة لمن يستحلُّ هذه الحرمات التي قال عنها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعِرضه” رواه مسلم.
وكل عالمٍ أو طالبِ عِلمٍ يعلم أنَّ حفظ الدينِ والنفسِ والمالِ والنسلِ والعقلِ هي الضروريات الخمس التي أتَت كل الشرائع لحفظها. وكلُّنا يعلم أنَّه لم يبقَ من هذه الضروريات واحدةٌ إلا وانتهكها الظلمة المُجرمون في وطننا الجريح.
– ثانياً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لِمن لم يُقِمْ فينا الصلاة، بل حاربها وحارب من يُقيمها، وقد قال صلى الله عليه وسلم : “عليكم بالسمع والطاعة ما أقاموا فيكم الصلاة”، ولنتذكر معاً كم كان يُعاني من يريد الصَّلاة وهو يخدُم مُجبراً في جيش الكُفر والرِّدة!
إذ لم يكن يستطيع أحدٌ أن يُصلِّي إلّا منفرداً مستخفياً خائفاً مُتردداً؟! أيّة صلاةٍ هذه ونحن مسلمون في بلدٍ دخله الإسلام منذُ أربعةَ عشرَ قرناً؟! أليس هذا “صدٌّ عن سبيل الله”؟! أليس هذا مصداق قول الله تعالى: ” أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ؟”
– ثالثاً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن يستحل حرمات بيوت الله فيقصف المساجد بالمدافع ويمنع الصلاة فيها ويعتدي على عُمَّارها ويدنس مصاحفها، ويكفينا من هذا قول الله تعالى: “ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” (البقرة 114).
-رابِعاً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن جعل الحكم ملكاً استبدادياً مخالفا للشورى التي يقيمها أهل الحلِّ والعقد الذين يمثلون هذا الشعب المسلم كما أمر الله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”، “وشاورهم في الأمر”، وقد شهدنا جميعاً انتخاباتهم المزيفة واستفتاءاتهم المزوَّرة محسومة النتائج التي كانوا يتظاهرون بها أمام العالم ويبيعون الأوهام والأكاذيب.
– خامِساً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن صدَّ عن سبيل الله وحارب شعائره، ورأى المُنكرات فلم يغيِّرها، بل سكت عنها ودعمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ) رواه مسلم. كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أمَّة قَبْلِي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأصْحَابٌ يَأخُذُونَ بِسنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلسَانِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَل) رواه مسلم.
– سادِساً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لِمن يفسد رعيته ويرهبهم ويتجسّس عليهم بأجهزة مخابراته وعُملائه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذَا ابْتَغَى الأمِيرُ الرِّيبةَ في النَّاسِ أَفْسَدَهُم”. رواه أبو داود.
– سابعاً: عندما بدأ الجهاد المُسلّح دفعاً لظلم الظالمين ودفعاً لصولة الصائلين زعم الظلمة أنّهم يحاربون “العصابات المسلحة”، فإن كانت هذه العصابات موجودةً حقاً فلا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن لا يحفظ أمن الناس ويلبي حاجاتهم الضرورية ويؤمّن استقرارهم، وإن كانت فكرة “العصابات المسلحة” ذاك الوقت كِذْبةً من أكاذيبهم فلا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن يكذب على الرعية والشعب.
– ثامناً: لا سمع ولا طاعة ولا شرعية لمن غشَّ رعيته فلم يولِّ عليهم “القويَّ الأمين” كما أَمَر الله
تعالى، بل ولَّى شِرار الناس فأهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا البلاد والعباد دون رادِع أو محاسب.
إذ ولّى الفاسدين والخونة فهو وأتباعه هم رعاة الفساد وأئمته، وقد قال عليٌ لعمر رضي الله عنهما: “يا أمير المؤمنين لقد عفَفت فعفَّت الرعية، ولو رتعت لرتعوا”،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن وَليَ من أمر المسلمين شيئاً فولّى رجلاً وهو يجد مَن هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”
هذا ما قلناه وهذا ما أعلناه في سقوط شرعية مجرم هذا العصر وفي ضرورة القيام بهذه الثورة قبل أن يُقصف النّاس بالبراميل والمتفجرات فكيف يكون الحال بعدها.
أيقظني الله وإيّاكم من رقدة الغافلين وحشرني وإياكم في زمرة عباده الصالحين قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أمّا بعد في ذلك الوقت يوم قُلنا هذا الكلام كان المنافقون والمرجفون والمنتفعون كحالهم اليوم يحاولون تثبيط همِم النّاس عن الثورة بالردِّ على كلامنا بِشُبَهٍ لا قيمة لها ولكنّا وقد أخذنا العهد على أنفسنا أن نستجيب لقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) وَجَب علينا أن نردّ على تلك الشُّبه فمنها ما يقوله البعض و يزعُمه بأنَّ الأمر لا يعنيه وأنّه لا يهتم بالسياسة أصلاً، والجواب على هذا هو أن ما نحن فيه ليس تنافساً سياسياً ولا اقتتالاً على السُّلطة كما يريد البعض أن يُروِّج بل هو ظُلم وثورة مظلومين وصولةٌ ودفع للصائل عن المسلمين وأيًا كان الأمر فنبينا صلوات ربِّي وسلامه عليه يقول: ” من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” رواه البيهقي عن أنس.
– ومن الشُّبَه التي يحتج بها بعض الناس ليُبرِّروا تخاذلهم وتقاعُسهم أنّ كثيراً ممن يُسمّون بالمشايخ والعلماء ما زالوا يؤيدون هذا المُجرم، أو هم على الأقل ساكتون عن إجرامه، والجواب على مثل هذا الكلام:
أنّ الحق لا يُعرَف بالرجال بل الرجال يُعرفون بالحق. كما قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه: “اعرف الحق تعرف أهله” ومصدرنا الذي نعرِف به الحق كتاب الله وسُنّة رسوله، وقد حذَّر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم من الأئِمة المُضلّين فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: “إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا”. رؤوساً جُهالاً تخرجوا من مدارس البعث ودخلوا كلية الشريعة على مقاعد الشبيبة بل وكثير منهم لم يتتلمذ على أيدي العُلماء فلا كلامهم كلام عُلماء ولا أفعالهم أفعال المؤمنين وليس فيهم من العلماء إلا مظهرهم وجبَّتهم التي يلبِّسون فيها على النّاس ويُضِلِّلونهم فتراهم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) ويأتون بالآيات والأحاديث فيسوقونها في غير موضِعها ولذلك قالَ صلى الله عليه وسلم: “إنّ أخوفَ ما أخافُ عليكم بَعدي كلُّ منافقٍ عليمِ اللسانِ” رواه الطبراني في الكبير والبزَّار ورواته محتجٌ بهم في الصحيح.
ثُمّ إن الجاهل ممن يحتجُّ بمِثل هذا الكلام لِمَ يتَّبع هؤلاء ولا يرضى أن يتَّبع غيرهم من أهل الحق ممن شهدت الأمَّة بدينهم وقد وقفوا موقف الحقِّ وبيَّنوا ضرورة الجهاد لإسقاط هؤلاء الكفرة الفجرة.
-ومن شبههم أنّهم يخشون على الشباب بطش الظلمة وعسَفهم وأنّهم لا ينكِرون أنّنا على الحق، والجواب: أن لنا بذلك أسوة بأنبياء الله عليهم السلام، قال تعالى: “فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ” يونس
وقال تعالى: ” قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”.(الأعراف:128) ونحن نقول لإخواننا ما قاله موسى لقومه: ” اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ”
– ثمَّ بعد كلِّ هذا يزعم البعض أنَّ الحق لم يتضح له بعد !! فهل بعد هذا البيان المؤيَّد بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أيُّ حقٍّ لم يتضح؟!
قال تعالى: “تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ “؟؟!! ” فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ” اللهم إنا نعوذ بك من أن نكون من الجاهلين اللهم اكتبنا هادين مهديين لا ضالّين ولا مُضلّين إنك سميع قريب مجيب وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النَّصير.