الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمُده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه. وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في النّاس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:
قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) (الكهف:55-57)
يحدثنا المولى تبارك وتعالى عن سننه مع القرى الظالمة المكذِّبة العاتية عن أمره، ويخبرنا عن عناد البشر وكيف أنّ كثيرًا منهم لا يتوبون ولا يرتجعون حتى يأتيهم عذاب الله حتى (يرو العذاب قُبلا) بل وعندما يبعث الله لهم من ينذرهم ويحذّرهم إذا بهم يتخذون آياتِ الله سخرية وهزوا وقد أكملت الآيات: الكريمة واصفة لهم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) فهم والعياذ بالله لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم أغلِقت قلوبهم فلم تعد تتوجّه إلى الله الملك الحق حتى في زمن الشدائد. ثمّ تكمل الآيات تصف رحمته تبارك وتعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) (الكهف:57-58)
فالله عزّ وجل أخّر البشر لقيام الساعة حيث العدل المطلق والجزاء الحق ولكن ذلك لا يعني أنّه لا حساب ولا عقاب في الدنيا كيف لا؟ والله يمهل ولا يهمل لذا تُكمِل الآيات الكريمة: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف:59)
وقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) (الطلاق:8-9)
فالله عزّ وجلّ لا يظلم عباده (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102-101) ما أغنى الكفرة عن أتباعهم؟ ما أغنى الطواغيت عن أزلامهم؟ ما أغنى الظلمة عن جلاوزتهم؟ ما أغنى السكوت عن الساكتين؟ ما أغنى الخنوع عن الخانعين، ما زادوهم جميعًا غير خسارةٍ وندامة عندما أتى عذاب الله وعمّ القرى الظالمة.
وقد صحّ عنه صلوات ربي وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم عن أَبي موسى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ” ثُمَّ قَرَأَ –روحي فداه- : (وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) [ هود : 102]
فالله تعالى يمهل الظالم الذي يظلم نفسه ويظلم غيره يظلم نفسه فيخوض في المعاصي والذنوب ولا يتوب عنها ولا يستتر منها بل يجاهر متحديا المولى تبارك وتعالى بها أو يظلم غيره بالتعدي على حقوق خلق الله وحرماتهم. ثمّ يظن أن الله يغفل عنه والله تعالى يمهله ويمهله عسى أن يتوب ويرتجع فإن أبى وجاء عذاب الله أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدرٍ لا إفلات منه ولا مفر
(وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
اللهم إنا نسألك حسن التوبة والارتجاع وأن لا تأخذنا الأخذ الأليم الشديد إنّك القادر على كل شيء وأنت الغفور الرحيم
أيقظني الله وإيّاكم من رقدَةِ الغافلين وحشرني وإيّاكم في زمرة عباده المتقين، قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عبده الذي اصطفى.
عباد الله في معرض حديثنا عن القرى الظالمة التي تظلم نفسها وتعادي ربّها نذكر حديثًا رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله رضي الله عنه قال: “إِنَّ الله لَمَا قَضَى الخَلقَ كتبَ عندهُ فوقَ عرشه: إِن رحمَتي سَبقَتْ غضبي”. فرحمة الله للخلق تسبق غضبه فيمهلهم لكي يتوبوا وينوبوا إليه وقد أمهلنا الله في هذه البلاد سنين طويلة يُحارَبُ فيها شرع الله ويعتدى فيها على حرماته ونحن ساكتون خانعون لا ننصُر شرعه ولا نغضب لحرماته، فما زلنا على ذلك حتى أتانا ما نرى من عذاب الله وبطشه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21)
وكم أنذَرنا من أنذرنا من بقيّة الصالحين الذين لم يكن يلتفت لهم أحد أو يسمع منهم قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:58-59 )
فكنّا في بلادنا نحارب الله تعالى ونعادي أولياءه وهو يمدُّنا بنعمه وفضله رحمة منه سبحانه، فما كانت النتيجة بعد طول إمهال قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) أي استخدمت نِعَمَ الله في معصيته ومحاربة شريعته (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
هذا العقاب في الدنيا قبل الآخرة؟ فلا شيء أقسى على الإنسان في الدنيا من الجوع والخوف. ولنستذكر جميعًا ما كنّا عليه بل وما زال (والعياذ بالله) كثيرٌ منّا عليه من بطرٍ للحق وإعراض عنه بل وسخرية من الدين وأهله، وجميعنا يذكر ويرى ما وصلت إليه مُدننا وقرانا من الفجور العلني والرذيلة بكل مظاهرها بدءً من الكاسيات العاريات اللواتي ملأن الشوارع بقلّة النخوة عند أوليائهم آباءً وأزواجًا، وصولاً للتبذير والترف الفاحش عند البعض على حساب الفقراء المُعدمين الذين لم يكونوا أحسن حالًا بل قد كانت نفوسهم تتوق لأن يجاروا أولئك المجرمين في فسادهم وانحلالهم: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام: 129)
ولكنّ المصيبة كلّ المصيبة والعارَ كلّ العارِ أنّنا وبعد أن ذقنا من عذاب الله وعرَفنا طعم الجوع والخوف والتشريد بعد كلّ هذا لا نتوب ولا نرجِع.
(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43)
تخيّلوا أننا في هذه الحال و المعارك على أشدّها وأصوات القصف والرصاص نسمعها بآذاننا والنيران والانفجارات نشهدها بأعيننا وترى الناس جالسة على قوارع الطرقات تلتهي بالكلام الفارغ تسمع المؤذّن فلا تجيب وترى النساء كاسيات عاريات بالأثواب الضيقة وبالبناطيل تمشي في الشوارع تفتن الشباب بل ولعلّ البعض يضعون الأراكيل والأغاني الماجنة ويلعبون بالنرد وورق الشدّة على قوارع الطرقات وإخوانهم يبذلون المُهج والأرواح في سبيل الله بل وإذا نصحهم ناصحٌ إذا هم يستهزئون، وما مثلهم إلّا كمثلِ قومِ نوح. إذ قال تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (هود:38-39)
أليس حريٌ بنا أضعف الإيمان أن نستتر من ذنوبنا وأن نتضرع إلى الله العفو الغفور ليكشف عنا البلاء ولينصُر إخواننا ويثبت أقدامهم أكلّ هذا البلاء ولا نتضرّع إلى الله وهو القائل سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)
وقال عزّ من قائل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:94)
اللهم إنا نسألك توبة تردنا بها إليك ردا جميلًا فترضى بها عنّا وتفتح لنا بها بركاتٍ من السماء والأرض
ربنا لا تؤاخذنا بما كسبنا ولا تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
إني داعٍ فأمّنوا