الخطبة الأولى
الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرِجِ الكفارِ بمكرِه الذي قدَّر الأيام دُولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه عل الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبَه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الغُرِّ المحجَّلين الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:عباد الله:
في هذا الأسبوع تتم الثورة السورية المباركة عامها الثالث، تلك الثورة التي لم يشهد تاريخ البشرية مِثلها قط، ثورة المظلومين على الظالمين، ثورة المؤمنين على الكافرين، ثورة المحكومين على الحاكمين الطائفيين المجرمين الذين لم يرقبوا في محكوميهم إلاًّ ولا ذمة. ثورة الشعب المسكين على ملكه المُجرم الذي يمطره بالبراميل المتفجرة، ثورة في بلدٍ أفسد الطغاة دين أهله فلبّسوا عليهم عقيدتهم وشريعتهم بل وأخلاقهم ومزاجهم حتى غدت نسبةٌ لا بأس بها منهم يصدُق عليها قول المولى تبارك وتعالى:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)
أولئك الذين لا يميِّزون بين الحقِّ والباطل أولئك الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال فصُمَّت آذانهم عن سماع الحق وعَميت أبصارهم عن رؤيته، لأولئك جميعاً أردت اليوم أن أكرِّر كلاماً قلته قبل أكثَرَ من عامين، حيث لم تكن هناك براميل متفجرة، ولا صواريخ سكود ولم يتوقع أحدٌ منّا أن يؤول الأمر لما آل إليه في يومنا هذا، في ذاك الوقت سألَنا كثير من الإخوة ذوي المشاعر الصادقة، من ذوي الغيرة والحمية على حرمات الله وحرمات عباده، عن الموقف الشرعي لما بدأ يجري وقتها في بلاد الشام المباركة، فأجبنا عن ذلك امتثالاً لقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ” (المائدة : 8)
وأوّل ما بدأنا به حينها ذكر القاعدة التي توضّح واجب الإمام/ وواجب الرعية(واجب الحاكم/وواجب الشعب): تلك القاعدة التي اختصرها القرآن الكريم في آيتين: فقال تعالى مبيِّناً واجب الحاكم: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ” (النساء :58)
ثمّ بيّن سبحانه واجب الرَّعيَّة فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” (النساء:59) فجعل المولى تبارك وتعالى طاعة أولي الأمر – الذين يجب أن يكونوا منّا أي من أهل الإسلام – تبعاً لطاعة الله ورسوله، وأمر بردِّ النزاعات لكتاب الله وسنّة رسوله لِيُفصَل فيها بالحق (إذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق). فإن هم أطاعوا الله ورسوله وحكّموا الشرع الحنيف، فبها ونِعمَ وإن هم فعلوا خلاف ذلك فلم يحكِّموا شرع الله فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
ولعلّ جاهلا يقول أنتم بدأتم القلاقل بالمظاهرات وما رافقها من نشاطات ودفعتم السُلُطاتِ لاستخدام القوة؟ وهنا كان لابدّ أن نؤكّد بأنّ احتجاجات الرعية لرفع المظالم عمل شرعي لعدّة أسباب:
فهم إنما قاموا طلباً لرفع الظلم ولردِّ الحقوق لأصحابها، ولإنهاء الأثرة والاستبداد في إدارة البلاد وثرواتها، وإسقاطاً للربوبية التي اصطنعها حكام البلاد لأنفسهم وتسلطوا بها على عامَّة الناس.
وهذه الاحتجاجات إنّما تستمد شرعيتها من كتاب الله وسنّة رسوله، فهي مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” رواه أبو داود.
وقد يقول قائل المرجفين، المنافقين أنتم لم تنصحوا السلطان بل لقد جاهرتم بمطالباتكم ومظاهراتكم. فلأولئك نقول: لمّا كانت مظالم الحكّام علنيةً يعرفها الجميع فإن المجاهرة بطلب الحقِّ علانية أمر مشروع كذلك، والدليل على هذا قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء:148) ومن ذاق في بلاد المسلمين ظلماً أكثر مِنّا؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيت أُمَّتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تــُودِّع منهم” رواه الحاكم وقال عنه صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقد كان الرجل منّا يُسجَن ويعذّب إن انتقص شيئا من ربوبية الظلمة أو لأنّه يصلي في أثناء الخدمة في جيش الكفر والرِّدة.
ولقد شهد القاصي والداني كيف كانت مظاهراتنا لا عنف فيها، بل لقد كانت تجسيداً لأمر الله تعالى: “كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ” فوالله لم يبدأ الشباب بعنفٍ ولا قَتل، وبدلاً من أن يتَّعظ البُغاة ويرتدعوا مما جرى مع جيرانهم، ويسعوا لحلٍّ سلمي يعيدون به الحق لأصحابه، إذا بهم يزدادون في طُغيانهم وفجورهم حتى بلغ الأمر بهم إلى إكراه المعتقلين على تأليه الملعون بن الملعون، وهذا أمرٌ بات معروفاً للجميع، وقد شهد ذلك العالم كُلُّه. فما زاد ذلك الشباب إلّا إصراراً وثباتاً: “وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا” (الكهف:14)،
زاد ثبات الشباب وزاد تقدُّمهم وازداد إصرارهم على الحقّ والعدل وشهد العالم كلُّه تظاهراتهم المطالبة بالعدل وهي تضجُّ بتوحيد الله تعالى وتكبيره وتهليله والضَّراعة إليه لــتذكـِّـر كلَّ مُنصِفٍ بما فعله الصحابة الأوائل المستضعفون حين خرجوا أول مظاهرة في الإسلام من دار الأرقم
نعم: أول مُظاهرة مُطالبةٍ بالحق في الإسلام خرج فيها كبار الصَّحابة الأوائل هاتفين بكلمة التوحيد يتقدمهم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب – رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين – حيث كان ذلك أمام سمع وبصَر طغاة مكة وأكابِر مجرميها.
ولكن ماذا فعل المشركون؟ وكيف كانت ردَّة فعلهم؟
لقد قام المشركون آنذاك بضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفريقهم.
سبحان الله! سبحان الله! ما أشبه اليوم بالأمس. ما أشبه أفعال الكفرة والمشركين في كلِّ زمان، ينهالون ضرباً وشتما وزجراً لكلِّ من يطالب بالحق وينادي بكلمة التوحيد.
وعليه فإنّ كل من خرج في تلك المظاهرات مطالباً بحقه أو مدافعاً عن نفسه فقُتِل فهو شهيد بإذن الله
كيف لا ورسول صلى الله عليه وسلم يقول: “من قُتل دون مَظلَمةٍ فهو شهيد” رواه أحمد. وهو القائل روحي فداه: “من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد”. رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
اللهم إنّا نسألك شهادةً في سبيلك مُقبلين غير مُدبرين إنّك سميع قريب مُجيب اللَّهم لا تدعنا في غَمرة ولا تأخُذنا على غِرّة واغفر لنا وللمسلمين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخُطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى أما بعد:
إخوة الإيمان والعقيدة بعد أن تحدثنا عن بدايات ثورتنا المباركة وكيف كان سلوك الشباب فيها فقد غدا واجباً أن نُذَكِّرَ كيف كان تعامل المجرمين وردّهم على سلمية الشباب ومطالباتهم لكي تكتمل الصورة في أذهاننا ولنتذكر ما أوصلنا لما نحن عليه: لقد قمع المجرمون كلّ مُطالِبٍ بالإصلاح وأوسعوا الناس ضرباً واعتقالاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم (=جمع بشرة) عليكم حرام”. رواه البخاري
– قتلوا الآلاف ــ انتبه الآلاف! ــ من خيرة أبناء وطننا ممن قاموا يطالبون بإقامة الحق ويأمرون بالقِسط والعدل، فصدق في نظام البعث قول الله تعالى الذي وصف فيه ساداتهم اليهود فقال عزَّ مِن قائل: “وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” (آل عمران:21)
– بل زادوا في إجرامهم حتى استحلُّوا حُرمات بيوت الله فعاثوا فيها فساداً مدَّعين بأنهم يُلاحقون المفسدين. فمنعوا ذاك الوقت الصلاة في كثير من المساجد وأغلقوها كي لا تخرج التظاهرات منها، فصدق فيهم قول المولى تبارك وتعالى:
“ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (البقرة:114).
نعم أولئك الذين تعمدوا تدنيس بيوت الله وأولئك الذين خرّبوا بيوت الله، وقد شهد القاصي والداني كيف تتعمّدُ دباباتهم قصفَ المساجِد وكيف يتعمَّدون خرب بيوت الله أولئك المجرمين الذين كانوا يطؤون المصاحف بأقدامهم ليفضح الله حقيقتهم وحقدهم، ويكشف كُفرهم وكُفر من والاهم، فلو كان غرضهم فقط كما يزعمون ملاحقة من يسمّونهم بالإرهابيين لما فعلوا هذا، ولكن هذا حقدهم وهذه عقيدتهم “ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ” بإذن الله سوف يخزيهم الله بأيدي المجاهدين.
سوف يخزيهم الله ويظهر جُنده ويُعِزُّ دينه وينصُر شريعته في الدنيا “وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”
– بل وترافق هذا كلُّه بإعمال أبواقهم ومنافقيهم ليصِفوا المطالبين بالإصلاح أبشع وأشنع الأوصاف أُسوتهم في ذلك فرعون وسلوكُه مع أتباع نبي الله موسى فشأن الفراعنة واحدٌ في الأصل لايتغيّر وإن اختلف الزمان:
ومن هذا قول فرعون: “إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا” (متآمرون، عملاء، دعاة فتنة ..الخ).
قال تعالى: “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ” (وسائل الإعلام والمتحدّثين، والقنوات، والإذاعات، أبواق النِّظام ..الخ)،
“إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ” (بعض المندسين ..الخ) ، “وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ” (مخربين، وإرهابين، ومجرمين .الخ) “وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ”(يجب الحذر منهم والتبليغ عنهم … )
أعمَلوا كيدَهم وفعَّلوا أبواقهم وضلّلوا الأغبياء وحاربوا العقلاء ولكنّ الله تعالى يُبشِّرنا بمآل أولئك إذ يأتي الأمر الإلهي: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) (الشعراء:57-58)
بعد كل هذا وبعد كل مؤامراتهم وكيدهم يأبى الله إلا أن يُعِزَّ جُنده وينصُرَ حزبه.
وهذا جزاء الظلمة وهذا مصيرهم وإن طال الأمد وقد روى البخاري ومسلم عن أَبي موسى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حتى إِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ” ، ثُمَّ قَرَأَ: { وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102].
“وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ” أي وهي مُسرِفة على نفسها تعادي الله وتحارب شريعته، تعادي الصالحين المصلحين وتنصر الفاسدين المُفسدين { وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
اللهم إنا نسألك أن تأخذ كفار سوريا أخذاً أليما شديدا وأن تخرجهم من جناتها وعيونها إنّك سميع قريب مجيب نعم المولى ونعم النصير.
وللحديث بقيّة نكملها في الأسبوع القادم إن أحيانا الله تعالى
إنّي داعٍ فأمِّنوا