الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه. القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمُده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه. وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في النّاس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:
عباد الله يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)
إخوة الإسلام تحدثنا في لقائنا الماضي عن وجوب الحكم بما أنزل الله، وأنّه الشرط الأساس لإقامة دولة الإسلام، تلك الدولة التي يسعى المجاهدون المؤمنون لإقامتها، ويبذلون لإعلاء رايتها النفس والنفيس الغالي والرخيص مجاهدين في سبيل الله سبحانه.
ولكن لو سألنا أنفسنا، ولو اختبرنا فهمنا، وقلنا لهم ولنا: ما هو التطبيق العملي لتحكيم شرع الله ولإقامة سلطانه؟ ما هو فهمك أيّها المسلم لدولةِ الإسلام؟ ما هي أخصُّ خصائصها؟ وعلى ماذا تبني أسُسَها؟
لو سألنا هذا السؤال لعزّ الجواب على جمهور المسلمين، بل على كثير من المجاهدين، ولعلّ أحسنهم حالًا من يقول لنا: إنّ دولة الإسلام هي الدولة التي تُطَبّق فيها الحدود (على السارق والزاني …. مثلًا), ولعلّ هذا المسكين لم يعلم أنّه بهذه الإجابة قد ضيّق واسعًا واجتزأ صغيرًا من عظيم.
فدولة الإسلام دولة لها خصائص ومقوماتٌ لا تقوم إلّا بها، وليس كلّ من ردد الشعارات الرنّانة أو أطلق الخطب الفتّانة، ولا كلّ من رفع علمًا كُتِبَت عليه كلمة التوحيد، يدري كيف السبيل الحقيقي لإقامة دولة الله في الأرض، بل لعلّ كثيرًا من أولئك بجهلهم وقِلّة علمهم يصدّون عن سبيل الله ويحاربون شرع الله وينفّرون الناس عنه من حيث يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.
بل وفوق هذا ترى رائدَهم يجادل فيما لا يدري بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير.
لهذا كان لابدّ لنا معلّمين ومتعلِّمين علماء وعوام من أن نعي بعض أهمِّ خصائص دولة الإسلام التي نريد، لكي نسعى لها حقًا ولنقيس عليها، فنعلم الصادق من الكاذب فننصُرَ الأول ونخذل الثاني.
و لتعلم أخ الإسلام أنّ هذه المقوّمات وهذه الخصائص هي الشرط لنصر دولةِ الإسلام ولتمكينها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)
فكيف يأتي التمكين وكيف تكون دولة الإسلام:
عباد الله ،يقول ربنا سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النحل:90)
قد يظن السامع الشارد أنّ الشيخ قد أنهى خطبته، ولعلّ كثيرًا منّا لم يسأل نفسه لم يُكرر الخطباء هذه الآية في كلّ جُمُعَة؟
هذه الآية التي جمعت بعض أخصِّ خصائص منهج الحكم الإسلامي:
فدولة الإسلام دولة العدل التي لا مكان فيها للظلم. دولةٌ يؤخذ فيها الحق من القوي قبل الضعيف، ويحاسب فيها القادة والوجهاء والزعماء قبل الأتباع والفقراء والضعفاء.
دولة ليس فيها أحد معصومٌ من المحاسبة، ولو كان خليفة المسلمين أو من يلوذ به. وكلُّنا يحفظ حديث النّبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما إذ قال روحي فداه: ( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ [أي من له عزوة تحميه]، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا).
وأخرج البيهقي والسندي والشافعي في مسنده عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ النَّاسَ الدُّورَ[أي وزّع عليهم الأراضي حول المسجد الشريف]، فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ: نَكِّبْ عَنَّا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ [أي اجعل داره بعيدة عنّا فنحن من أشراف القوم وهو من ضِعافهم] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذًا ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يُقَدِّسُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ).
[ولسان حالنا اليوم يقول: لم خرجنا بهذه الثورة المباركة؟ ولم قدّمنا كلّ هذه التضحيات لثورة العدل والكرامة؟ إن كان الضعيف سيبقى فينا لا يؤبه له ولا يجد من ينصُره ]لذلك ففي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه أنّه صلى الله عليه وسلم قال : “إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ” وذكره الحاكم بلفظ “إن الله لا يترحم على أُمّة لا يأخذُ الضعيف مِنهم حقَّه غير متعتع” صحيح. [أي غير خائف ولا متردد]
هذه أمّة الإسلام وهذه الخاصِّية الأولى من خصائص دولة الإسلام، فليست دولة الإسلام مجرّد شعارات تهتف ولا أعلامٍ ترفع بل هي علم وعمل واجتهاد فيما شرع الله وأحل، حتى تتصف الدولة بأنّها دولة الإسلام.
فالعدل والحق هو رسالة الرسل جميعًا (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد:25) أي ليقوم الناس بالعدل.
ولكن إخوة الإيمان: العدل المجرّد قد يكون شديدًا على النفس في بعض الأحيان، لذلك كان من رحمة الله بنا ومن توجيهه لنا، أنّه أتبعه بما يكون عونًا على قبوله والتمسّك به، فقال سبحانه: (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان) فالنفوس جُبِلت على حبِّ من يُحسن إليها والإحسان مع العدل يقرّبه للنفوس ويخفف وطأته، ثمّ أمر سبحانه بصلة الرّحم كنايةً عن اللطف والرحمة التي أودعها الله سبحانه في رسالة نبيه، فربنا القائل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) فمجتمع دولة الإسلام مجتمع الرحمة والتراحم مجتمع الإيثار والمحبّة مجتمع وصفه نبينا صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)
أيقظني الله وإيّاكم من رقدَةِ الغافلين الجاهلين وحشرني وإيّاكم في زمرة عباده العارفين المتقين، قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفرالله
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده أمّا بعد:
في معرض حديثنا عن أوّل خصائص دولة الإسلام وعن معنى الحكم بما أمر الله انطلاقًا من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النحل:90)
يمرُّ بنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمالصحيح الذي أخرجه أبو داود، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّعُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ)
فقد أكد روحي فداه على تكافئ المسلمين وعلى تكافلهم وعلى عدلهم مع النّاس جميعًا.
ولتعلم أخ الإسلام أنّ هذا العدل المنشود بين النّاس لا يكون كما ذكرنا سابقًا إلا بقانون إلهي أمر الله به ليكون جميع النّاس سواسية أمامه، فلا يكون بعضهم آلهةً يشرِّعون وبقيتهم عبيدًا ينفِّذون.
وعودا للآية الكريمة وبعد أمره تعالى بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى أتى أمره تعالى بالنهيِ: (عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) فلا دولة للإسلام ولا حُكم بشرع الله إن انتشرت الفواحش والمنكرات وعمّ البغيُ والظلمُ والفساد وأُكِلَت حقوقِ النّاس بالباطِل، وتسلَّطُ عليهم الفجّار والفسقة.
فلا وجود لدولة الإسلام إن لم يجد أولئك المفسدون من يردّهم عن بغيهم وإن لم يجد الضعفاء والمساكين من ينصرُ مظلمتهم ويعينهم عليهم.
فما بالك لو كانت تلك الدولة هي الفاسدة الظالمة ولتعلم أخ الإسلام أنّ دستورنا قرآننا نورنا المبين الهادي للحقّ والفلاح لم يأت ترتيبه عبثًا. فهو المنزل من ربّ العالمين.
ولهذا قدّم المولى سبحانه ذكر العدل والإحسان وصلة القربى على النهي عن الفحشاء والمنكر فكيف سننهى عن المنكرِ ونحن لا نقيم العدل، وكيف سنحاسب المقصِّر إن كنّا نحن الظلمة. إن كنّا لا ننصف بعضنا البعض فكيف نُنصِفُ الآخرين؟!
إن لم نُقِم ما يعين الناس على ترك المنكر وعلى الالتزام بالمعروف، فكيف سنحاسبهم؟ قال تعالى واصفًا من يُمكِّن الله لهم دولتهم: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
فقدّم سبحانه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر، فقطع يد السارق في دولة الإسلام أتى بعد تعليم المجتمع دين الله وبعد أن غدت الزكاةُ تُجمع وتدفع للفقراء فشبعت بطون الجياع ولم تبقى إلّا النفوس المتمردة التي تحتاج إلى تأديب وردعٍ وزجر فأتت حدود الله بالعدلِ والإحسان لتحفظ المجتمع من فساد الفاسدين ومن إجرام المجرمين.
ولهذا لم يقطع سيدنا عمر يد السارق عام الرمادة عندما عمّت المجاعة جزيرة العرب، وهو لم يكن من الكافرين الجاحدين لشرع الله ولكنّه عطّل نصًا شرعيًا بنصٍّ آخر مؤقتًا لأنّه أحسن فهم شرع الله ومقاصده
أسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم الفهم وأن يعيننا على الحق إنّه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير