التاريخ: 7/محرم/1436
المكان: أحد مساجد حلب.
الخطيب: محمد أبو النصر.
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى:
1- إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ.
2- سبب نزول الآية السابقة واسقاطها على واقع الثورة السورية.
3- لا تنقل تحليلاتك واستنتاجاتك للنّاس، بل انقل الحوادث بتجرُّد.
4- كيف يكون موقف القائد الحكيم ممّا يُنقل له.
5- وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.
6- شعر: (5 أبيات): احذر لسانك أيها الإنسان.
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
7- تفاقم خطر النميمة ونشر الشائعات في زمن انتشر فيه السلاح بين الناس بلا ضابط.
8- من هم مروِّجو الشائعات عادةً.
9- التحذير من دور وسائل الإعلام الخبيث.
10- الضوابط الشرعية للتعامل مع ما يُلقى لأسماعنا.
11- من دلائل فسق الرجل طعنه بالمجاهدين.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3
– ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذكر الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكفار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمّا بعد عباد الله:
قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]
إخوة الإيمان سبب نزول هذه الآيات الكريمة ما روى الإمام أحمد والطبراني بسند جيد عن الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَأَقْرَرْتُ بِهِ، فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ، فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا [أي لموعدٍ محدد] لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ. فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، فَلَمْ يَأْتِهِ، [أي تأخر عليه مندوب رسول الله الموكّل بجمع الزكاة]
فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ [أي غضب الله ورسوله عليه فلم يقبلا زكاته]، فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ [أي أشراف قومه]، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْخُلْفُ [أي ليس من عادته خُلفُ الميعاد]، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ، فَانْطَلِقُوا، فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ، فَرِقَ [أي خاف]، فَرَجَعَ [ولعلّه قد رآهم من بعيد خارجين بجمعهم، فظنّ وتوهّم أنّهم قد خرجوا يطلُبونه يريدون قتاله]، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ، وَأَرَادَ قَتْلِي.
[حلّل من عنده واستنتج وتكلّم، وبالتأكيد فقد وجَدَ صاحب القصّة بعض الصغار المتحمِّسين من الصحابة وبعض المنافقين الذين يفرحون حين تدبّ الخلافات في صفوف الموَحِّدين، فطلبوا من رسول الله أن يذهبوا لقتال الحارث …. لاحظ أخا الإسلام خطورة أن تُحلِّل وتستنتِج وتنقل للناس تحليلاتك واستنتاجاتك بدلًا من أن تنقل الوقائع والأحداثِ كما هي، فالوليد يظنّ نفسه صادقًا لا يكذب، فهو حلّل واستنتج وبنى تحليلاته على الظن وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا… فما كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد القادات إمام المرسلين الرحمة المهداة للعالمين يُخبرنا راوي الحديث:] فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ [لا حظ أخا الإسلام كيف يكون موقف القائد الحكيم لم يسارع بشتم خزاعة ولا باستعدائهم، ولا بتخوينهم ولم يبدأ بكيل الاتهامات إليهم ولا بنشر التهديد والوعيد، فضلًا عن أن يرسل لقتالهم، طالما أنّه يعلم أنّ الأصل فيهم الإسلام، ولكنّه أرسل مبعوثيه يستفهم الأمر ويتثبّت حقيقة الخبر…. ويُكمل لنا راوي الحديث:]فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذْ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ. قَالَ [أي الحارث]: لَا، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً، وَلَا أَتَانِي فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: “مَنَعْتَ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟”
[لاحظ معي أخا الإسلام أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولُطفه وحِكمته وكيفية خطابه للمتهم قبل التثبُّت من القصّة] قَالَ [أي الحارث]: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ، وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ [بقوله تعالى]:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الحجرات: 6-8]
• إخوة الإيمان هل من كفرٍ وفسوقٍ وعِصيان أشدُّ من اقتتال المؤمنين؟
• هل من كفر وفسوق وعصيان أشدُّ من تخوين المجاهدين لبعضهم بعضًا بتعميمٍ دون تخصيص؟
• هل من كفر وفسوقٍ وعصيان أشدُّ من أن نطيع الفسقة الفجرة وأن ننساق خلف كلّ فاسق مغرض يأتينا بنبأ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري ومسلم- يقول لنا معلّما: (( سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ ))
• أين هم الراشدون؟ أين هم الحكماء؟ أين هم العاقلون الذين يعرفون حقيقة المرض ومقدار علاجه؟
• كم يكون ومتى وأين؟
إخوة الإيمان والله لولا خطورةُ الموضوعِ وعظيم أثره على المجتمع أفرادً وأسرا بل وعلى الأمَّةِ قاطبة ما أثبتَهُ الله تعالى في كتابه قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة.
إن كان هذا جرى بين الصحابة، فكيف بمن دونهم من المسلمين، ألم يسمع هذه الآيات من يدّعي الإسلام ثمّ ينشر القصص والأخبار والتحليلات التافهة والاستنتاجات المغرضة بين عوام الناس؟ والله تعالى يقول:
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)
• أين نحن من أمر الله بالتثبت والتيقن؟ بل أين القادة المُتصدِّرون من أمر الله وهم يستمعون كلام كل صعلوكٍ نمّام ثمّ يسلطون سفهاءهم مستهترين بدماء المسلمين.. أين هم من أمر الله لهم.
• أين نحن في حياتنا من قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ *هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:12] ؟
• ما موقفنا أمام الله وأمام خَلقِه فيما لو تبيّن كذِبُ الكاذبين، وبهتان المغرضين؟؟؟ بعد أن تسفك الدماء وتبنى العداوات … بعد أن ساهمنا بنشر الشائعات والبهتان والضلالات … وحسبنا الله ونعم الوكيل.
احذر لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تهاب لقاءه الشجعان
بل ما يَكُبُّ الناسَ في قعرٍ لظى *** إلا حصائده فهل يقظان
يُصغي لما يُلقى إليه فيحذَرن *** من قبل ما يستهوه الشيطان
من كان يؤمن بالإله فلا يقل *** إلا الذي يرضى به الرحمن
أيقظني الله وإيّاكم من رقدة الغافلين وحشرني وإيّاكم في زمرة عباده الصالحين قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن.
إخوة الإيمان:
إنّ موضوعَ نشرِ الشائعات وترويجها وتداول كلِّ ما يُسمع من غير تثبّتٍ منه ومن غير حاجةٍ حقيقية لذكره، لهو من عادات أراذل الناس ممن يطلقون ألسنتهم فيما سمعوا وفيما لم يسمعوا، أولئك الذين ينسَونَ أن الإنسان مسؤول أمام الله عزّ وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل ينطق به، فالله سبحانه القائل:
(مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، وهو القائل سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) [الإسراء:36].
إخوة الإيمان: ونحن في هذه الأوقات العصيبات إذ نحذّر من خطر النميمة ونشر الشائعات إنّما نحذِّر في وقت كثر فيه الجهل وقلت الحكمة وانتشر السلاح بين الناس بلا ضابط حتى وصل إلى أيدي السفهاء والصغار ممن لا يُقدِّر عواقب الأمور ولا يزينها بميزان العقل، ممّن قد يندفع بما يتناقله الناس عن هذا وذاك أو يدفعه غضبه فيقترفَ جريمةً يكون على النمّام المفتري كِفلٌ من وزرها، ولات ساعة مندم.
عباد الله صونًا للأمة المحمدية وحماية للمجتمع المسلم فقد حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، والكذب والبهتان والنميمة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟!
ألا ينطوي معظم حديث الناس فيما يروجونه عن خلقِ الله عامّة وعن المجاهدين خاصة على الكذب والزور والبهتان، ألم تكن كثير من الشائعات سببا رئيسًا لكثير من المفاسد والنزاعات.
عباد الله ونحن نتحدّث عن الشائعات ومروجيها أقول لكم حقًّا بأن السواد الأعظم من مروِّجي الشائعات لا يخلو أن يكونوا من محبي الرياء والسمعة الذين يحبون تصدُّر المجالس فينقلون كلّ ما يسمعون أو أنّهم من مروجي الفاحشة أو من الفسقة الذين يمشون بالنميمة بين الناس ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء أو من عملاء العدو الكافر الذين يريدون إضعاف جبهتِنا الداخلية وزرع الشقاق فيما بيننا، أو من القاعدين المُدبِرين الذين ينظرون للنّاس بغير عمل ويكتفون باللوم والتنظير.
لذلك إخوة الإيمان فقد حـث الشرع على التثبت والتبيّن في نقل الأخبـار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، وقرأ حمـزة والكسـَائي: (فتثبَّتوا).
وقد نهى الإسلام عن سوء الظن بالمؤمنين فمعظم الشائعات مبنيّة على سوء الظن بهم، والله عزّ وجلّ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات:12]، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن، فإنّ الظنّ أكذب الحديث))
فما بالكم بمن تسوقه حميّته وتهوره لقتال المؤمنين على الظن، وما بالكم بمن يروّج لكلِّ ما يسمع.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول –فيما رواه الإمام مُسلم-: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً)).
لذلك فقد توعّد الله محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم، فقال عزّ من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النور:19].
وسدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربّصين بالمؤمنين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إنَّ أبغضكم إليَّ المشاؤون بالنميمةِ المفرِّقونَ بين الأحبَّة الملتمسونَ للبُرَآءِ العيب” والحديث حسن بشواهده.
وهنا إخوة الإيمان لا بدّ ونحن في عصر التقنية والأقمار الصناعية من أن نحذّر من خطورة ما تقوم به وسائل الإعلام -وجلُّها بيد أعدائنا- من نشر أخبارٍ مكذوبة مُلفَّقة تطعن بالمؤمنين وتخذِّل فيما بينهم، فترى تلك المنابر الإعلامية كُلّ فينة وأخرى تطلق حملةً تستهدف ثوابت أمّة الإسلام وعقيدتها ومبادئها ومجاهديها، وكثيرٌ من الناس يتلقى ويسمع هذا الكلام ويسلِّمُ له، بل ولعلّ بعضهم إن راجعتَه يقول لك: ويحك سمعتها أو قرأتُها على القناة الفلانية. وكأنّه سمعها من كتاب الله أو قرأها في صحيح البخاري ويا ليت كلَّ من سَمِع وقرأ، فهِمَ ودرى!
ويكفينا لنعلم خطورة الشائعات الكاذبة أن نعلم أنّها كانت في زمن الصحابة والتابعين سببًا في مقتل عثمان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين، وسببًا في معظم الفتن التي جرت بعده وسفك بسببها كثير من الدماء بغير حق. وذلك في قرونٍ شهد رسول الله لأهلها بالخيرية، فما بالنا بزمن قلَّت فيه الأمانة وخفّت الديانة، فإيّاك أن تكون أخا الإسلام سببًا في الترويج لما لا تعلم صِدقه فينطبق عليك الحديث الذي رواه البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري في المنام [ورُؤيا الأنبياء حق] رجُلًا (يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، ومِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ) فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفاقَ) أي يتداولها الناس حتى تنتشر.
لذلك وجب علينا كمسلمين أن نلتزم ضوابط الشرع في التعامل مع ما يُلقى لأسماعنا ويكون ذلك بخمسة ضوابط:
أولها: أن نربي أنفسنا -ومن نعولُ- على تقوى الله والخوف منه فهو يعلم السرّ وأخفى.
وثانيها: أن نتثبت عند سماع الأخبار كما أمر تعالى (فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة)
وثالثها: عدم نقل الأخبار وإشاعتها وبالذات فيما يتعلق بمفاسد كبيرة قد تلحق بالبلد والجهاد والمجاهدين، فالواجب أن نردَّ هذه الأمور إلى أهل الاختصاص من العلماء والقادة والأعيان وأن نشتغل بما يعنينا، قال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:83]
ورابع الضوابط: تحسين الظن بالمسلمين وعدم المسارعة في التصديق أو الحكم عليهم بناء على تلك الإشاعات، فلما اتُهِمَت أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالزنا وتلقَّفَ تلك الفرية من تلقفها، أدَّبَ الله المسلمين فقال سبحانه: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:12] فغلِّبْ حسن الظن وأحب لإخوانك ما تحب لنفسك.
خامسًا: لا تنشر الكلام ولا تقل على ذمّة الراوي ففي سنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (بئس مطيةُ الرجلِ زَعموا)
وثبت عن علي رضي الله عنه في الأدب المفرد أنّه قال: “لا تكونوا عُجُلاً مذاييعَ بُذُرا” . أي لا تكونوا مسارعين في نشر الأخبار وإفشاء الأسرار بل كونوا أحرص شيء على خزن ألسنتكم وعدم الكلام بها إلا في خير..
سادسًا: أذكِّرُكم إخواني جميعًا بقول العلماء: الذي رُوي عن الإمام ابن كثير وغيره:
(من دلائل فسق الرجل طعنه بالمجاهدين) فلنعن إخواننا على الحق ولنقدّم لهم النصح ولنقل جميعًا لكلِّ من يعيب إخوانه المجاهدين: (أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم أو سدُّوا المكان الذي سدُّوا)
اللهم سددّ رأي ورمي المجاهدين في سبيلك واجمعهم على ما تحبُّ وترضى
اللهم ألهمنا رشدنا وأعِذنا من شرور أنفسنا
إني داع فأمِّنوا