الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين
أمّا بعد:
عباد الله يصف الله عباده المؤمنين فيقول وهو أحكم القائلين: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39))
إخوة الإيمان تحدّثنا في لقاءات سابقة عن بعض خصائص دولة الإسلام وأهم مقوماتها واليوم نتحدث عن خاصية خطيرة من أهم خصائص دولة الحكم بما أنزل الله. وهي (خاصية الشورى) تلك التي سميت سورة كاملة في كتاب الله باسمها اشعارا بأهميتها وتأكيدا على خطورتها وتأكيدًا على عظم مكانتها في دولة الإسلام حتى بلغ من شأنها أن الله تعالى أمر بالشورى خيرته من خلقه وصفوته من أنبيائه فقال عزّ من قائل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)
(وشاورهم في الأمر) سيد المرسلين المؤيد بالمعجزات من ربّ العالمين يؤمر بمشورة المؤمنين حتى كان صلوات ربي وسلامه عليه لا يخرج عن مشورة أصحابه وكان هذا دأب من خلَفَه من الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
واليوم إخوة الإيمان ولأن مبحث الشورى مبحث كبير أحببت أن نتذاكر معكم بعض الأحاديث التي وردت في آلية اختيار ولي أمر المسلمين أو ما يسمى منصب الإمامة أو الخلافة أو الرئاسة (سمها ما شئت فلا مشاحة في الاصطلاح) تلك الزعامة وتلك المكانة التي غدت يتنافس عليها المبطلون ويتمناها الجاهلون وهي التي قال فيها رسول الله فيما رواه مسلم في صحيحه: (إنّها أمانةٌ، وَإنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) وروى البخاري عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْألَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا” وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّا وَاللهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا العَمَلَ أحَداً سَألَهُ، أَوْ أحَداً حَرَصَ عَلَيْهِ” ومن ثمّ بعد هذا نتفاجأ بمن يريد أن يسلب هذا المنصب بالقوة والشدة ويريد أن يعيد الأمة لزمن الملك الجبري تلك الأمة التي ما فتئت تقاتل عن حريتها وكرامتها مطالبة بشرع الله حكمًا عدلًا لا يُظلم في ظلِّه أحد فما بالك وقد غدا شرع الله بتحريف كلامه وتأويل نصوصه مطيَّة لسلب كرامة الأمة و لمنع اختيارها، ذلك الاختيار الذي كفله لها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
فغدونا ونحن في القرن الهجري الخامس عشر نرى أناسًا بلغت بهم الجهالة وقلة الدين مبلغ أن يأتوا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه «إذا بُوِيعَ لِخَلِيفَتَيْن فَاقْتُلُوا الآخِرَ منهما» فينتقلون بالحديث من التخويف عن تفريق كلمة المسلمين عن إمامهم الشرعي الذي اختاروه بشوراهم وبطوع ارادتهم إلى أن يكون ذلك وسيلة لسلب كرامة المسلمين فيتوهم أولئك أن لبعض الرعاع ولقلّةٍ من البشر أن يسلبوا حقّ الأمة في اختيار إمامها بأن فيبايع بعضهم أحدهم ثمّ يفرضوا ذلك على المسلمين من غير رأي منهم ولا مشورة بل ويستغلوا هذا متأولين للولوغ في دماء المسلمين وأموالهم ساعين لإجبار النّاس على تأييد ملكهم المزعوم (قاتلهم الله أنّى يؤفكون)
ولعلّ هذا إخوة الإيمان ليس جديدًا، ففي كلِّ زمان ومكان يظهر أمثال هؤلاء الذين يزينون أفعالهم بتحريف كلام الله ورسوله ويستغلوا ذلك مطية يروون بها تعطشهم للسلطة وللمال وللجاه معتمدين على صغار جهلة مغرَّر بهم ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
فبعض النّاس فكّر بمثل هذا من زمن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وكان لسيدنا عمر منهم موقف خطير ودرسٌ مهم لأمة الإسلام نسمعه بإذن الله في الخطبة الثانية بعونه تعالى نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين وحشرني اللهُ وإياكم في زمرة عباده الصالحين، قال الله تعالى وهو أحكم القائلين:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى:
عباد الله روى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قال: إِنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه – في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا – فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه بَايَعْتُ فُلَانًا. [أي سبقنا الناس وصادرنا رأيهم ببيعة فلان وفرضه عليهم] فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :إِنِّي قَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أَمْرَهُمْ.
فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه بَايَعْتُ فُلَانًا. فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَتْ فَلْتَةً، أَلَا وَإِنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ فِيكُمْ الْيَوْمَ مَنْ تُقْطَعُ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه …….
[فبعض الجهلة إخوة الإسلام بلغ بهم الغرور درجة أن يشبهوا أنفسهم بأبي بكررضي الله عنه وبمن معه من كبار الصحابة الذين بايعوا الصدّيق ثم بايعه الناس. ومَن مِنَ الناس كأبي بكر ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن مِنَ الناس اليوم بتقوى الصحابة وبإيمانهم وبرضى ببعض، ومع ذلك سمّى سيدنا عمر بيعة أبي بكرٍ (فلتةٌ وقى الله شرّها)، وهذا تنبيه منه إلى أنّه لا يقاس عليها وبالذات بعد توسع دولة الإسلام وامتداد أرجائها، ثمّ يكمل سيدنا عمر قائلًا:]……. فَمَنْ بَايَعَ أَمِيرًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَيْعَةَ لَهُ وَلَا بَيْعَةَ لِلَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا”. والحديث في البخاري [فالقتل لأولئك الذين يريدون البغي على حقوق المسلمين وليس لمن يخالفهم بزعمهم] لذلك أتت الآية الكريمة التي افتتحنا بها (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) فأتبع السياق القرآني الأمر بالشورى بالانتصار على البغاة فمن صادر حقّنا وبغى علينا لا نسكت عنه ولا نرضى به بل وننتصر عليه بعون العزيز الجبار
نسأل الله أن يرينا الحقّ حقّا وأن يرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابه وَمَنْ لَمْ يَعِهَا فَلَا أُحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ…………..
ختامًا أذكركم إخوة الإيمان وقد انتصف الشهر الفضيل وإذا انتصف الشهر آذن بالرحيل بالحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (( إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ )) متفقٌ عَلَيْهِ .
وعنه رضي الله عنه، قَالَ : قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) رواه البخاري.
فلنغتنم إخوة الإسلام ما بقي من رمضان فلا ندري من يحيا لقابل الأيام ولنتذكر قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (النساء:27))
يريد الله أن يهيأ لنا فرص التوبة والإنابة إليه وتريد القنوات التلفزيونية أن نميل ميلًا عظيمًا فنكون كأنعام لا همّ لنا إلّا شهوة البطن وشهوة الفرج
اللهم بارك لنا فيما تبقى من رمضان وأعنى على الطاعة فيه وتقبله منّا على تقصيرنا إنك سميع قريب بالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير
إني داعٍ فأمِّنوا