بقلم المعتقل السابق وائل زهراوي
لم يكن الموت هو ما ينتظر ذاك المقدم الطيار المنشق …
لقد كان أفظع عذاب عرفته البشرية كلها… في قسم التحقق في مطار المزة العسكري المخابرات الجوية
يضحكـ الموت حين كنا نراه أمنيةً ما على وجه الأرض أجمل منها..
ورغم أن المساعد بصق في الخبزة الصغيرة وصفعني عشر مرات قبل أن يعطيني إياها إلا أنني التهمتها كما لو أنها أطيب ما ذقته في حياتي .
. مضى يومان وأنا مشبوح في غرفة الموت والأصفاد كانت قد دخلت في لحم يدي عندما أدخلو ذاك الرجلـ الأربعيني بالأمس فجراً عارياً من كل شيء ..
علقوه بالسقف من رجليه على غير عادتهم كان يرتعد بشده لقد أدرك بحكم أنه ضابط مالذي سيفعلونه به …
بعد قليل دخلـ اثنان منهم يحملان كبلان للدبابات وتبعهم واحد منهم يحملـ قطعة من سلك معدني شائكـ من النوع الذي نراه على الحدود بين الدولـ …
أمسكه أحدهم من شعره وقال له :
_ شو سيادة المقدم بحياتك شفتو لـ الله …. هلق بدك تشوفوا شخصي
كانت عيونه تبكي دون أن يحركَ ملامح وجه . يبكي بكبرياء لم أرى مثله في كل لحظات اللقاء مع الموت …
كنت عاجزاً لدرجة أني لم أستطع حتى البكاء معه….
أمسك المساعد السلك الشائك وبدأ يلفهُ حول كبل الدبابة حتى غطى كامل الكبلـ فصار شكل الكبلـ مع الأسلاكـ الشائكة كوجه الموت الزؤام ..
وكنت قد سمعت عن ألة لِحام الحديد ورأيت أناساً أحرقوهم بماكينة لحام الحديد . لكني لم أكن قد رأيتها ابداً قبل تلكـ الليله …
دخل أحدهم وأدخل معه ألة اللِحام .. وصلها بالكهرباء .. بدأت أرتجف .. وكانت حركتي تزيد ألمي لأن الأصفاد كانت تحتك بلحم يديَّ …
كبلوا له يداه للخلف
كانت أولـ ضربةٍ هوت على جسده العاري بالكبل الذي كانوا قد وضعوا عليه السلكـ الشائكـ فصرخ صوتاً كأن الأرض قد صرخت معه
و في كلـ ضربة كانت تقع على ظهره كانت الأشواك الحديدية تنغرس بجسده فيشدها المساعد المسخ مقتلعاً بها كل ما تحمله معها من لحمه الطاهر …
وعندما كان الكبل ذو الأسلاكـ الشائكة يصادف معدته كانت الأشواك الحديدة تغوص بلحمه لدرجة أن المساعد كان يشدها مرتين لتخرج و لتأخذ معها قطعاً من جسده الذين كان كالوطن يعطيهم دمه وأجزاءه وهم يقطّعونه بأيديهم …
اقترب المساعد الثاني وطعنه بألة لحام الحديد فثقب له كتفه كله فبدأ يتقيئ دماً … وكأن مشهد الدم كان يغريهم فزادو عليه بالكبال على كل أنحاء جسده وهو يصرخ يالله يالله مالي سواكـ يالله يالله ساعدني يارب ..ولازلت أسمع صوته حتى هذه اللحظه …
اقترب المسخ بألة اللِحام وطعنه بكتفه الثاني بقضيب اللحام فثقب له كتفه الأخر .. فأغمي عليه وصمت تماماً …
ذهب أحدهم وعاد ومعه عصا الكهرباء … كان المسؤول عن التعذيب هو:
المساعد أول _ نصر اسبر _ قالـ لهم يالله صَحوه بدنا نلعن “ر..” اليوم .. ما بيطلع من هون غير عالقبر .. بدي صوتوا يوصل لعند الله
_ بدي جربها على هادا سيدي .. كنت أقرب معتقل له .. نظر في عيني وقال :
إذا بتراجع وبتوسخ الأرض بعدمك هون فهمت ولا كلب لسا بروح وبرجع بشوفك بخلقتي ما بقى تموت ولا حيوان …
_ كنت أنتفض وأنا معلق وأرجوه أن لا يفعلـ لم أترك شيئاً لم أتوسل به له لكن القدر أبى إلا أن أواجه مصيري في ذاك اليوم ..
ضحك و اقترب مني وصعقني بها في ركبتيّ .. أردت أن أصرخ لكن شيءً ما شَلَّ فمي .. شعرت كأن أحداً ما أدخل سكيناً في نقي عظامي وكأن قلبي قد انفجر وتجمدت عيناي ولم أعد أرى بهما كانت الثواني تمر كأنها سنوات ..
و الألم جاء أقسى من الجوع وأعمق من الطعن وأبعد بكثير من قدرة البكاء …
يا وطناً يحكمه الغرباء ….
شهقت ولم أعد أقوى على التنفس…. فبدأ يصفعني على وجهي …. حتى عدت وشهقت من جديد …
سمعته يقول لي طلع فيني هون ولاك طلع فيني هون لم أكن أراه حتى أنظر إليه كنت ألتفت إلى الجهة الخطأً فيصحح لي جهة رأسي بالكبل الذي أمسكه بيده الأخرى..
سألني شو اسمك شو اسمك ولاك عرصا قلت له:
أنا الرقم 1646 سيدي…
قال بعرف بس شو اسمك ولاك احكي :
قلت له وائل سيدي وائل الزهراوي سيدي فقال أيوه وهي لساك متذكر اسمك …أنا أصلا كل الدارسين حقوق بحبن والله لألعن “ر..” لسا .
.ثم أمسك الكبل الذي يقطر من دم المقدم ومسحه برأسي يريد أن ينظفه وقال لي :
أصلا كلكن دمكن متل بعض دم وسخ ….
وكم كان ما فعله عظيما وكم كان فعلاً جميلاً من مسخ قبيح لا يعي كل ما أشعر به ابداً …. وكم فرحت أني أحملـ بعضاً من دم ذاك الضابط الشهيد …. فقطرات الدم تلكـ تساويهم جميعاً عندي
و في عمق ذاك الألم كنت أتساءل عما يشعر به و ربع لحم جسده قد وقع تحت رأسه..
سكبوا على المقدم وعاءً من الماء .. وما إن بدأ يصحو حتى صعقه المسخ بعصى الكهرباء في ظهره الذي لم يبق فيه جلد يغطي عموده الفقري .. وزادو عليه بكبل الدبابة … وبدأو يضربونه على رأسه والكبل الملفوف بالأسلاك الشائكه اقتلع نصف فروة جمجمته ….
يا كل بقع الدم اصرخي .. يا أيتها الجدران تكلمي أخبري كل هذا العالم ماذا جرى هناكـ وماذا فعلوا بنا …..
يا وطناً سقيتك من دمي وأعطيتك من لحمي وتقاسموك كالغنيمه … يا هتافاتنا التي كنت أرى فيها الحرية والإباء أين اختفيت أين .. أين
وما لن أنساه حتى ما بعد الموت .. كيف حاول في آخر لحظات حياته أن يثني جسده ويصل للأصفاد التي كان معلقا بها كانت عيناه قد عميتا وورمتا لدرجة لا توصف ومع ذاكـ يريد أن ينجو…
بصق نصف أضراسه تحت رأسه .. يحاول أن يقاوم الموت القادم لا محاله ولكن هيهات هيهات …
ولات حين مناص
ثقبوا له فخذه وانغرس قضيب اللحام في عظامه وأثقلوه بالكبل ذو السلك الشائك في أماكن الثقوب و على رأسه حتى غابت كلـ ملامحه …
كما يغيب الوطن خلف أحقاب القهر وكما يغيب الضوء عندما ينتصر الظلام وكما كنت أستسلم للموت وأدعوه أن يأخذني من هناكـ ويأبى ….
ورأيته كيف كان ُيمطر الأرض دماً كأنه ينتقم من ظلمهم بنزفه…وشعرت أن الكون كله يمطر دماً كان صوت تساقط دمه يشبه صوت ارتطام أكداس الجثث حين كانوا يرمونها فوق بعضها … جثث أبناء الوطن …
المقدم الطيار 20/31 … هذارقمه و اسمه وتاريخه وبطولاته وأطفاله وحياته …صرخ بكل قوته ثم أسلم الروح هناك .. هناك حين كنا نحب بعضنا لدرجة أننا ندفن معاً في مقابر جماعيه ..
بعد ساعه كان دمه قد ملئ الغرفة فكوا أصفاده فوقع على الأرض جثة لا يتحركـ .. وسحبوه من رجليه ليكون رقماً بين مئات الأرقام التي هي جبين الوطن وعزته وشرفه ورائحته ..
في صباح اليوم التالي أنزلوني لم اكن اشعر بيدي ولا أستطيع التحكم بكتفيّ مطلقاً لبست سروالي الداخلي بعد سبعة عشر يوماً قضيتها عارياً … أدخلوني للجماعية الرابعة زنزانة المرضى ..
عندما دخلت لغرفة المرضى كان عددنا 98 شاباً سورياً …. بعد عشرة أيام أصبحنا 62
البقية قدموا أرواحهم لكم ورحلوا….. تركوا لكم كلـ أحلامهم وصرخاتهم ورسائلهم ودماءهم ونظراتهم قبلـ الموت
وهبوكم أغلى ما لديهم واستشهدوا تحت التعذيب .. لعلـ الأمل فيكم لا يخيب
ومن كان صاحب حقلـ فلا يتسول حفنة طحين …وبعد كلـ تلك الأرواح كيف يمكن أن نتخيلـ أن هناكـ سورياً حراً يمكن أن يساوم على الدم أو يقايض على العذاب
وبعد أن كنت هناكـ مالذي يمكن أن يبقى من حياتي سوى أن أخلص لأولئك الأحرار في أغلالهم …
سأرتدي ملامحكم يا رفاق العذاب ….. سلامً عليكم أيها الشهداء الأحياء …
سلاماً أيها السوريون الشرفاء ……