الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 3/ ربيع الثاني/1436هـ
الموافق: 23/1/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 40 دقيقة
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- إن لم نغضب لرسول الله فلمن نغضب.
2- دعاوى الحب الكاذب لرسول الله ومظاهرها.
3- هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
4- لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم.
5- اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
6- إذن كيف بني على قبر رسول الله؟!
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
6- أبو لهب في كلِّ زمان.
7- نماذج أبي لهب تغضب لبضعة أحجار ولا تغضب لدماء المسلمين؟!
8- وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ.
9- أيُعابُ فِعل أمر به رسول الله، ونفذه علي ومِن بعده الصحابة والتابعون.
10- ببغاوات بزي العلماء لم يفهموا مقاصد الشريعة.
11- الضوابط الشرعية لإزالة القبور من المساجد والمزارات …
12- حرمة المسلمين بين تفريطِ المُفرِّطين وإفراطِ المُتنطِّعين.
13- الحكمة في اختيار الأوقات المناسبة.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكُفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكُفَّار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضلهِ، وأظهر دينه على الدين كُلِّهِ.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد عباد الله:
قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: ١٥٣].
إخوة الإيمان كنا قد تحثنا في لقائنا الماضي عن الغضبِ لرسول الله، عن نصرة رسول الله الذي قال له ربُّه (إنّا كفيناك المُستهزئين) وقال له ( إنّ شانِئك هو الأبتر) ففهم البعض أنّه إن كان الله قد كفى نبيّه فلم الغضب؟؟
وبالطبع ما هذا مقصودنا!!
ولا هذا ما يفهمه المؤمنون حقًّا !
إن لم نغضب لرسول الله فلمن نغضب؟
إن لم نغضب لرسول الله فلمن نغضب؟
أتغضبُ لو تحدّث أحدهم بالسوء عن أمِّك أو أبيك؟ عن زوجتك أو بنيك؟ ولا تغضب لخاتَمِ الأنبياء وإمام المرسلين ؟ ….
إخوة الإيمان عندما نتحدث عن التمسُّكِ بالسُنَّة وعن إحيائها، وعن نبذِ البِّدَعِ ودثرِها، عندما نتحدّث عن الجهاد في سبيل الله، فنحن نتحدّث عن السبيل الحقيقي لنصرة رسول الله، قال تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال:62) أيّده الله بالمؤمنين، ونصره بالصالحين المُصلحين.
نعم، لا ينصُر رسول الله من يدّعي الغضب له وهو أبعد ما يكون عن سنَّتِه صلى الله عليه وسلم في مظهره وسلوكه وأخلاقه ومعاملاته …
لذلك إخوة الإيمان، عندما نغضب لرسول الله لابدّ لنا من أن نسأل أنفسنا: هل نحن في ذلك صادقين؟ هل نحن من الصادقين في حبهم لرسول الله ؟ أم أنّنا (ممن يقولون ما لا يفعلون)؟
أنحن ممّن يُحبُّون النبيَّ كما أحبّ أن نُحِبَّه بالتزام سُنَّتِه وبعدمِ تجاوز الحدود التي نهانا عنها …
نسمع من البعض : روحي فدا الحبيب.
روحي فدا الحبيب … وهو يستخسر أن يترُكَ شَعراتٍ في وجهه يُظهِرُ بها تمسُّكه بسنّة الحبيب.
روحي فدا الحبيب … وهو على قارِعة الطريق يلهو ويسمع المؤذِّن فلا يُلبِّي ولا يجيبُ.
روحي فدا الحبيب … وهو حتى في عبادته مِن أبعد النّاس عن سنّةِ الحبيب، لا يدعُ بِدعةَ مبتدعٍ ولا ضلالة ضالٍّ إلّا ويتبعها … بل ويغضب لها … وهو يدَّعي محبَّة الحبيب صلى الله عليه وسلم
ذاك الحبيب الذي كان إذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ يَقُولُ: “صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ” وَيَقُولُ: “بُعثت أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ” – يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى- وَيَقُولُ: ” أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ” والحديث رواه مُسلم.
(روحي فدا الحبيب!!) وهو يهجُر كتاب الله، (روحي فدا الحبيب!!) وهو أبعد ما يكون عن هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم في سلوكه ومعاملاته في بيته وفي بيعه وشرائه … (روحي فدا الحبيب!!) ورسول الله يقول له كلُّ بدعةٍ ضلالة وذاك المُدَّعي لا يترك البدع التي نها عنها رسول الله …. أين هذا الكاذب من محبَّةِ الحبيب .. نعم كاذِبٌ دَعي يدَّعي المحبَّ كذِبًا وزورًا
( كلُّهم يدَّعي وصلًا بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بوصلِ)
بل بلغ الحال من بعض أولئك الأدعياء الذين هجروا السنَّة ولزِموا البدع والخرافات أن تجاوزا بدعاويهم إلى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلُوِّ فيه وفي من بعده من الصحابة والتابعين والصالحين (والغلوُّ هو مجاوزة الحدِّ الشرعي)
وقد روى البخاري وأحمد عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ”…. إذا كان الحبيب المصطفى ينهى عن الغلو في شخصه الكريم
فأين نحن ممن يتركون سنّته صلى الله عليه وسلم ويغالون فيمن دونه من الخلق، حالهم حالُ اليهودِ والنصارى: أولئك الذين تركوا أوامر أنبيائهم وخالفوا ما شرعه الله لهم وأخذوا يُغالون في تعظيم أنبيائهم وقدِّسيهم ورهبانهم حتى بلغ المبلغ بهم أن أشركوهم آلهة مع الله ….. والله تَعَالَى خاطبهم بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)[النساء: ١٧١].
أيعقل أن يكون حال البعض فينا كحال أولئك … اسمع معي أخا الإيمان لهذا الحديث الصحيح رواه أحمد وابن حِبَّان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ”
هذا شأن رسول الله، هذا شأن حبيب الله يخشى أن يستزلَّ الشيطانُ أمَّته فيبدؤون بتعظيمه فوق ما المنزلة التي أنزله الله إياها، ومن ثمّ يستزلِّهم لمن دونه من التابعين والصالحين والمشايخ فيصل بهم الأمر إلى ما وصلت له غيرهم من الأمم وفي هذا روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- [يحدِّثُ عن آلهة قومِ نوح (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )(نوح:23)]
يقول ابن عبَّاس: ” أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ [أي حيث كانوا يجلسون ويعلِّمون .. مساجدهم دورهم مدارسِهم …] الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ [مقام الشيخ الفلاني ومزار الوليِّ العلّاني ووو…] فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ”. [أتى أولاد أولئكَ وعقِبُهم على قِلَّةِ علمهم رأوا آبائهم يعظمون هذه المزارات ويعلون شأنها فظنوها آلهة وعبدوها لتقرِّبهم إلى الله زلفى]
أمّا شريعتنا الغرّاء، شريعة الإسلام .. فقد أتت بسدِّ هذه الذرائع فنهينا عن الغُلو في الخلق وتجازِ الحدِّ بتعظيمهم ولو كانوا أنبياء .. فحَرِص الدين القويم على عقائد الناس وتوحيدهم، فسدَّ أبواب الفتنة ومنع ما يؤدي إلى الغلوِّ في القبور أو أصحابها، فنهى عن الصلاة في المقابر، وتشييد البناء والمشاهد والقباب عليها، كما أمر بتسوية القبور المشرفة، وأرسل رسول الله مِن صحابتِه رُسُلًا بذلِك فعَنْ جَابِرٍ _رضي الله عنه_ قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) رواه مسلم.
وعَن عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ _رَضيَ اللهُ عنهما_ قَالَا: (لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [أي لمّا نزلت به سكرات الموت] طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: ” لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ”، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) رواه البخاري. وفي رواية (لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
لاحظ أخا الإسلام اهتمام رسول الله بهذا الموضوع وهو يُعالِجُ سكراتِ الموت … يخشى من أن يأتي من يُعظِّم قبره فيُفسِد على النّاس توحيدهم وإخلاصهم لله … وفي هذا ردٌّ على من يقول بأنّ هذا الأمر مِن التوافِه لا يُهتمُّ له ولو كان تافِهًا لما اهتمّ به رسول الله وهو على سكرات الموت يخشى على أن يدخل الشيطان ويُدلِّسَ على النَّاسِ مِن هذا الباب.
ولعلّ قائلا أن يقول كيف بني على قبر رسول الله؟
فهنا لابدّ أن تعلم أخا الإسلام أن رسول الله قد دفن في بيته لأن الأنبياء تدفن حيث تموت …
ومضى عهد الصحابة ومن بعدهم ولم يبنى على قبره الشريف شيء …
ولم يكن أصلًا في المسجد ..ولمّا وسِّع المسجد دخل بيته الشريف في المسجد زمن توسعةِ الوليد بن عبد الملك بعد أن لم يبقى من الصحابة أحد في المدينة، وكان ذلك على مضضٍ وكراهة من علماء التابعين…
ولم يُبن فوق قبره صلى الله عليه وسلم قبةٌ ولا غير ذلك ، ومضت القرون التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم لناسها بالخيرية: عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى القرن السابع الهجري قرابة سبعمئة عام[678 ه] فأمر السلطان قلوون – من المماليك الذين حكموا مِصر – ببناء القبّة على مضضٍ مِن أهل العِلم في زمانه وكراهة بحجّة حِفظِ الغرفة الشريفة، فكان ذلك في الزمن الذي كثُر فيه الجهل وقلَّ العِلم وانتشرت الخرافات والبدع والضلالات … وإذا كان هذا شأن الصحابة ومن بعدهم مع قبر رسول الله، فكيف بمن هم دونه أيًّا كانوا …
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطِل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم اصرف عنّا تلبيس المُلبِّسين وضلالَ المُضِلِّين …
اللهم اجعلنا ممن يلتزمون أمر الله ورسوله ويسلِّمون له تسليما
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]
فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن. أمّا بعد: إخوة الإيمان:
روى البخاري ومسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتفَ: يَا صَبَاحَاهْ. فَقَالُوا: مَنْ هذَا؟ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَقَالَ: ” أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ” ؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: “فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد” قالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلاَّ لِهذَا ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).
إخوة الإيمان ما إن ينطلق دعاة الإصلاح والخير ما إن ينطلِقَ المُصدَّقون القائلون بسنَّةِ رسول الله حتى ينطلِقَ أمثالُ أبي لهبٍ في كلِّ زمان ومكان، يدافعون عن الباطِل ويدعون له ويضلُّون خلق الله..
أولئك الذين يشعرون بخطورة تحرر الناس عن العبودية لغير الله وحده …
أولئك الذين يخشون على صنميّتهم، على مكانتهم الموهومة التي علّقوا قلوب النّاسِ بها…
أولئك الذين لم يعلموا أنّ (الفتنة أكبر من القتل) كم رأينا منهم في زماننا ؟؟
كم رأينا مِن أولئك الذين نسمع نعيقهم اليوم يدافعون عن أصنامٍ ومزاراتٍ اتخذها النّاس سببا يقرِّبهم إلى الله زُلفى.. فأتى من فعل فيها ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم … نعم فعل الإخوة ما أمر به رسول الله …
ففيما روى الإمام مُسلم عن أَبِى الْهَيَّاجِ الأَسَدِيّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَني عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا [أي مرتفعًا عن الأرض] إِلاَّ سَوَّيْتَهُ” رواه مسلم.
هذا رسول الله الذي أمَر والذي نفّذ علي بن أبي طالب …
أفيُعابُ فِعلٌ أمرَ به رسول الله ونفَّذه علي وفعله من بعده الصحابةُ والتابعين؟؟!!
صحيح أن البعض قد يعترِض على التوقيت أو الأسلوب ولكن ليس لأحدٍ أن يعترِضَ على الفعل…
يقول الإمام الشافعي _رحمه الله_ في كتاب” الأم”: “وقد رأيت من الوُلاة مَن يَهدم بمكَّة ما يُبنى فيها، فلم أَرَ الفقهاءَ يَعيبونَ ذلك”.
أولئك الفقهاء الذين عرَفوا مقاصِد الشريعة الغرّاء وفي أوّلِها الإخلاص لله وحده وتوحيده وحده …
ثمّ نحن في زماننا وقد ابتُلينا بفقهاء ما فهموا الدين ولا عَرفوا مقاصِد الشريعة حفِظوا حفظ الببغاوات، فتراهم يدافعون عن كلِّ منارةٍ للبدع وعن كلِّ منزلقٍ للضلال
ما لنا لا نسمع أصواتهم في تحريض النّاس على الجهاد في سبيل الله ما لنا ونحن نرى كثيرا من مرتديهم ما زالوا يقفون في صفِّ الكفرِ وأهله أين هم من دماء المسلمين أين هم من أعراضِ المسلمات …
كلُّ ذلك لا يدفعهم للغيرة على حرماتِ الله … ونسمع الآن نعيقهم كغربان المقابِر يغارون على مزاراتٍ غدت معالِم للضلال والإضلال
بالطبع فأولئك يخافون على صنميتهم يخافون على عجولِهم التي أشربوها فلم يعودوا قادرين على التخلي عنها ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93) ألم يسمع أولئك الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ – رضي الله عنهن جميعا – : (ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ” إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”
ألم يسمع هذا الحديث من يريدون أن يجعلوا المسلمين كذلِك (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:21)
وهنا ولكي لا نقع كعادتنا في هذا البلد في تفريطِ المُفرِّطين وإفراطِ المتنطِّعين فإنّنا نقول بأن إزالة تلك الضلالات وما شابهها مما روّج له أهل الباطِل سنين طويلة يجب أن يكون مضبوطًا بالضوابِط الشرعية.
فلا يجب الخلطُ بين مكانةِ المسلم وحرمة صاحِب القبر وبين ما ابتدعه وما أحدثه الجهّال مِن بعده
فالمسلم صاحب حرمة حيًّا وميِّت وقد صحّ النهي عن السير والجلوس على القبور لكي لا يتأذَّى أصحابها
وقد أخرج التِّرمذي عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّهُ نظرَ يومًا إِلى الكعبة، فقال: “ما أعْظَمكِ وأَعظمَ حُرمتكِ، والمؤمن أعظمُ حرمةً عند الله منكِ”
فلابدّ من مراعاةِ حرمةِ المسلمِ عند إزالةِ تلك الضلالات فلا يصحُّ تفجيرها تفجيرًا إن غلبَ على الظنِّ بقاء شيء من جسد الميِّت لما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ “كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا”.
فإن كانت في مقبرةٍ تسوَّى القبور ويخرَبُ ما كان فوقها من بناء وتجصيص ولا تُنبش
أمّا إن كانت في مسجِدٍ أو ما شابه فيُنظر في أصل الأرض
فإن كانت قد وقفت مسجدًا هُدِم القبر وأُخرِجَ ما فيه بأدبٍ واحترامٍ وسترٍ وينقلُ ما فيه إلى مقابِر المسلمين
أمّا إن كان أصل الأرضِ مقبرةً وغلب على الظنِّ بقاء شيء في القبور (ولو شيئا من العظام) عندها يُهدمُ المسجِد ويبقى المكان مقبرةً احتراما لحرمةِ من فيها من المسلمين
وهنا إخوتي الكرام لابدّ مِن أن نعلم أن الأصل في المسلم أن يتحرّى الحكمة في أفعاله (والحِكمة فعل ما ينبغي على الشكل الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي)
فلا ينبغي الاستعجال فيما لا تستوعبه عقول النّاس بل الأصل أن نعلِّمهم ونبيِّن لهم ونخرِجَ تلك الأوهام والخرافاتِ من عقولهم وقلوبهم
وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه. أنَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز _رحمه الله_ لما تولى الخلافة لم يتعجَّل في تغيير ما أنكره ممن كان سبقه، فَدَخَلَ عليه ابنه عبد الملك وقال له: “يَا أَبَتِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَمْضِيَ لِـمَا تُرِيدُهُ مِنَ الْعَدْلِ؟ فَوَاللهِ! مَا كُنْتُ أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ! فقَالَ: “يَا بُنَيَّ! إِني إِنَّمَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ، فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أخرجَ مَعَهُ طَمَعاً مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ”
وقد ذكر ابن القيم _رحمه الله_ في “إعلام الموقعين”: “وتأخير الحدّ لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر – أي الحد – عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض. فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى”.
ولكنّ ما نذكرُه لا يعني بحالٍ من الأحوال أن نعترضَ على الفعلِ الشرعي ذاتهِ …
بل وقبل أن نلوم غيرنا لابدّ لنا أن نلوم أنفسنا فكم قصَّرنا في جنب أنفسنا وأهل بيتنا فلم نعِظ ولم ننصح وكم انتشرت الخرافات بين نسائنا وبناتنا بل وبين الرجال أيضًا حتى أصبحوا عند حوائجهم ومُلِمَّاتِهم يدعون مِن دونِ الله من لا يملِك لهم ضرا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورا (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأعراف:194)
أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا ممن يدعونه وحده لا يشركون معه أحدا
إنّي داعٍ فأمِّنوا