الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 10/ ربيع الثاني/1436هـ
الموافق: 30/1/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 30 دقيقة
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- ضرورة تحرّي الحِكمة والصواب، فالإخلاصُ وحده لا يكفي.
2- (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ)
3- فضل العلماءِ ومكانتهم.
4- القمر الصغير القريب من الناس أفضلُ من النجمِ الكبيرِ البعيد عنهم.
5- التحذيرُ من كلِّ منافِقٍ عليم اللِّسان ممّن يكتمون ويُحرِّفون ويُبدِّلون.
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
6- تصدُّرِ الجُهَّال لا يقِلُّ خطورةً عن تصدُّر المنافقين.
7- حضر دورتين وقرأ صفحتين … فغدا مُفتي المشرقين والمغربين!!
8- إنَّ هذا العِلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم.
9- المتصدِّرون الجاهلون الضّالون المُضِلُّون المُعسِّرونَ المنفرون … ساهموا في الحطِّ من قيمة الشرع في نظرِ النّاس
10- أي عدلٍ وأيُّ هيئاتٍ شرعية وقد تصدَّرَ الجهَلةُ لأمرِ العامَّة!
11- نطلبَ مِن كلِّ مُتَصدِّرٍ للقيادة أن ينشُرَ الـ CV الخاصَّة به.
12- شِعر: ….. فعيبُ القومِ لا عيبُ الغرابِ.
رابط الخطبة على صفحة الفيسبوك
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكُفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكُفَّار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضلهِ، وأظهر دينه على الدين كُلِّهِ.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد عباد الله:
قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 43-44)
إخوة الإيمان كنا قد تحدثنا في لقاءاتنا السابقة من وجوب محبَّة النبي صلى الله عليه وسلموعن وجوب نُصرتِه: باتباع سُنَّتِه واحيائها وتعليمها، وبدثر البدع والضلالات والخرافات والتحذير منها وتغييرها، حديثنا يومها ختمناه بضرورة تحرِّي الحكمة في تغيير المنكر بأن يكون ذلك موافقًا للشرع وخالصًا لله، وبحيث يُراعى ما فيه شبهة وخلاف بين الفقهاء المعتبرين لكي لا يفضي ذلك لشرٍّ أكبر، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة:269)
وقد ختمنا حديثنا حينها بضرورة التزام الصفة الشرعية في الأفعال والأقوال، فكم ممن يعرف الفكرة وهو لا يعرف الصفة الشرعية لتطبيقها، تلك الصفة الشرعية التي يقبل الله بها العمل والتي لا تُعرفُ إلا بالعلم وسؤال العلماء العاملين (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
ولهذا أتت الآيات الربانية والأحاديث النبوية في فضل العلم والعلماء، فقال تعالى مبيِّنًا فضلهم:
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادِلة :11).
وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ )) ثُمَّ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ )) . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وفيما روى أبو داود والترمذي عن أَبي الدرداء رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وَفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ)). رواه أَبُو داود والترمذي
ومعلوم لدينا إخوة الإيمان أن النجوم على الحقيقة أكبر حجمًا من القمر ولكنّ الله تعالى شرَّفَ القمر وأعلى قدره وأعظَمَ نفعه: بقربه من الأرض، بقربه من النَّاس، بإنارته الدروب لخلقِ الله، فكان القمرُ على صِغَرِ حجمه أكبرُ فضلًا، وأعظمَ مكانةً، وأشرَفَ قدرًا من كلِّ النجوم، وهذا حال العلماء، فلا يكون منهم شبيهًا بالقمر إلّا من كان قريبًا من النَّاس معهم يعلِّمُهم الخير يأمرهم بالسُنَّة وينهاهم عن الضلالة والخرافة والبِدعة يدلهم على طريق الفلاح في الدنيا والآخِرة فأولئك هم الأقمار التي تنير الدروب
أمَّا من كان بعيدًا عن النَّاس، من تعلَّمَ العِلمَ ولم ينفع به الخَلق، فليس له هذه المكانة…
من كان بعيدًا مُعتزِلًا في برجِه العاجِي، خرج من البلاد وابتعد في هذه الأزمة، ترك النّاس تتخبط في جهلها وسافر إلى أقصى الأرض فذاك ليس من العلماء الربَّانيين المقصودين بهذا الحديث.
لذلك أتى التحذير من الله تعالى ومن رسوله الكريم من علماء السوء وشرِّهم، أتى التحذير ممن يكتمون ويحرِّفون ويبدِّلون، فقال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة :159)
الذين يكتمون آيات الله التي بيَّنها لعبادِه، أولئك الذين يُدلِّسون على خلق الله من أهل الهوى أو مِمَّن يبيعون دينَهم بعرَضٍ من الدنيا قليل.
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران : 187)
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا شرّ أولئك، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ”. حديث صحيح رواه أحمد.
كم شهدنا من أولئك المنافقين وكم رأينا مِن منافِقٍ عليمِ اللِّسان يُضِلُّ الناس يريد أن يحرفهم عن الهدى الذي أتاهم، قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176))(الاعراف:175-176)
يقول القرطبي رحمه الله: (هذه الآية عامة في كل من تعلم القرآن ولم يعمل به، هذه الآية عامَّة في كلِّ من اغترَّ بالعلم ولم يعمل به).
ولذلك عابَ الله على اليهود وشبَّه علماءهم الذين حفظوا التوراة وتعلّموها ولم يعملوا بمقتضى ما تعلَّموه، وكم شهدنا من الحفظة والقرَّاء ممن حفِظ القرآن ولم يعلم ما فيه، ولم يُعلِّمه، ولم يعمل بما فيه، وقد ضرب الله بأولئك لنا مثلًا فقال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الجمعة:5).
اللهم لا تجعلنا من الظالمين الذين يتعلّمون العلم ويسمعون الحقَّ وهم عنه معرضون.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]
فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن. أمّا بعد:
إخوة الإيمان:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قَالَ : سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلميقول: (( إنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا فَأفْتوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا )). والحديث متفقٌ عَلَيْهِ.
إخوة الإيمان نحن عندما نتحدث عن فساد الحال التي وصلنا اليها بتولية الأدبار مِن بعض مَن تعلموا العِلم لغير الله، فإنَّنا لا نعني أبدًا أنّ الزمان والمكان قد خلا من العلماء الربَّانيين العاملين، فكم وكم شهدنا بمقابل أولئك – المتخاذلين المتراجعين – صَنفًا آخر من طلبة العلم الشباب الذين حملوا همّ الدين وجاهدوا – فيما نحسب – في سبيل الله ربِّ العالمين، كيف لا وقد روى الطبراني في الكبيرِ والبيهقي في السنن أنّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:
“يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”
فالله تعالى يُهيِّئُ لنُصرةِ دينه ولحِفظ شريعته في كلِّ زمانٍ علماء عاملين يكونون سدًّا منيعًا تتكسر عليه رماح الطاعنين في دين اللهِ ربِّ العالمين، فيفضح الله بهم نفاقَ المنافقين وتدليسَ المدلِّسين وزيف المُدَّعين الجاهلين…
وكم عانينا في ثورتنا المباركة وما زلنا نعاني من أولئك الأدعياء الجاهلين المُبطلين …
شرّان ما انفكت هذه الثورة تعاني منهما وتبتلى بهما:
أناسٌ تزيّوا بزي أهلِ العِلم وكانوا منافقين، كانوا خناجِرَ في خواصرِ المؤمنين.
وآخرون جهالُ مُدَّعون ظنوا أنهم يريدون أن يسدُّوا ثغرًا فضلُّوا وأضلُّوا من حيث لا يعلمون.
نعم … أولئك الجهلة ليسوا بأقلَّ خطورة مِن أولئك المنافقين.
أولئك الجهلة الذين لم يتفقّهوا ولم يتعلَّموا ومن ثُمّ لفساد النفوس والأحوال تبوَّؤا المناصب وتصدَّروا.
كم رأينا من أولئك المُتسلِّقين الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صُنعا .. ممن أرادوا خيرًا بسدِّ ثَغرٍ تولىَّ عنه المُدبِرون، ولكنّهم وقعوا في خطأ لا يقلُّ سوءً عن خطأ أوولئك فتصدَّروا للتوجيه والفتوى بغير علمٍ ولا زاد … فسفكت الدِّماء المعصومة ونهبت الأموال وغُدِرَ بالعهدِ، وكلُّ ذلِكَ باسمِ الدِّين …كلُّ ذلِكَ بفتاوى من لا يعلمون، بفتاوى المُتصدِّرين الجاهلين
وكم رأينا مِنهم.(قرأ صفحتين وحضَرَ دورتين … فظنَّ أنه أصبح مُفتي المشرقين والمغربين) …
يحضرُ دورةً في المعلومِ من الدين بالضرورة، حضرَ دورة لعشرة أيام فغدا شرعي الفصيل الفلاني!!!
حضر دورتين فظنّ أنه أصبح عالمًا بل ومفتيًا فتراه لا يتورع عن فتوى ولا عن إجابة في مسائل قد يتوقَّفُ فيها أجلاء العلماء وكبارهم … كم رأينا في ثورتِنا من أمثال أولئك.
كم رأينا ممن قرأ ولم يتعلم؟ فما كلُّ قارئ تعلّم، ولهذا عُلِّمنا أنَّ (العِلمَ من الصدور وليس من السطور) وعُلِّمنا ( أنّ من كان شيخُه كتابُه كثر خطؤه وقلَّ صوابه ) ولو كان العلم بالقراءة فقط فما نفع ارسال الرسل … أما كان الله أنزل كُتبه بمعجزةٍ تضعها الملائكة بين أيدي النَّاس فحسب …
إخوة الإيمان العلم الحقيقي لا يكون إلّا بمجالسة العلماء العاملين، يتلقى الطالب منهم الحكمة والأدب إضافةً لحُسنِ العلم والفهمِ (فما كلُّ ما سُمِع يُقال ولا كلُّ ما يُقال حضرَ أهله ولا كلُّ ما حضر أهله آن أوانه)
لذلك قال تعالى (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: 269)
وكم شهدنا من أعشارِ المتعلمين ممن لم يؤتوا الحكمة ولم يتأدَّبوا بأدب العلماء، ما نفعهم مجرَّد الإخلاص لله، إذ الإخلاصُ وحدهُ لا يكفي إذ لابدّ لقَبول العمل من موافقة الشرع، فنفّروا بدل أن يُبشِّروا، وعسَّروا بدل أن يُيسروا، فلم يرحموا صغيرا و لم يُجِلُّوا كبيرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه أحمد والحاكِم: ( ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) [رواه أحمد والحاكم]
لابدّ أن نعرِفَ للعلماء العالِمين حقَّهم.
فوالله ما أفلح من لم يعطي العلماء حقَّهم.
ووالله ما أفلح من يأخذِ العلم من غير الثقات.
ووالله ما أفلح من كان شيخه الانترنت يأخذ من مواقعها ومنشوراتها وهو لا يعرف عمَّن يأخذ ولا يتحرَّى مصدرَ الكلام.
ووالله ما أفلح من يتَّبع كلّ ناعق وإن تظاهر بنصرةِ الدين وإن ادَّعى بأنَّهُ يريدُ نُصرة الكتاب والسنَّة…
أما رأينا كيف سَفَك الخوارج دماء المؤمنين المجاهدين بدعوى نصر الدين، وما ذاك إلّا لأنهم يتّبعون من لا يعرفون، ويقلِّدون من يجهلون حقيقته. إن سألتهم من أين تأتي بهذه الفتيا وكيف تجرؤ على الفعل الفلاني؟؟ يجيبك أفتى لنا أبو فُلان!
من أبو فلان؟! من مشايخهُ؟ عند من درَس؟ من أينَ هو ؟ …. كل ذلك لا يعرِفُه أحد !!
وقد أخرج الإمام مسلم في مقدمته عن الإمام محمد ابن سيرين رحمه الله تعالى أنّه قال: ” إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.
اليوم لو مرض أحدنا هل يأخذ الدواء مِن أيٍّ كان ؟ أم تقول أسألُ الطبيب الحاذِق؟ أسألُ المُختص؟
وكلك أمرُ الدينِ إخوة الإيمان … أمر الدين أمرٌ خطير، أمرُ الدينِ تشريع (فيه دماء ، فيه أموال ، فيه أعراض ….) فكيف تأخذُ العِلم من غير أهله؟! … (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)
وقد روى البخاري عن عبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه أنّه قال : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أعْلَمُ ). فالتقوى أن تقول لاما لا تعلم : لا أعلم.
أكرمك الله بالإمامة في مسجد أو بالخطابة لأن لا بديل من العلماء وما من أحدٍ غيرك، هذا لا يعني أبدًا أنَّك أصبحت عالمًا مفتيا مشرِّعًا …. بل وقاضٍ شرعي أيضًا في بعض المناطِق!! (يقضي في دماء المسلمين وأعراضِهم وأموالِهم … من علِمَ فليَقُل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقُلِ الله أعلَم.
إخوة الإيمان والعقيدة والله أنَّ أولئك الأدعياء وأمثالهم من يسيئون للعلم الشرعي بل ويسيئون لسنة النبي بجهلهم وبتنفير الناس عنها.
وفوق هذا نعظِّمهم ونعطيهم حجما لا يستحقونه.
فأي فقه هذا ؟ وأي انحدار في مستوى العلم والفتوى وصلنا له ؟
أي بلبلة وفوضى وصلنا إليها؟ حتى بلغ المبلغ من بعض الجهلة أن يساووا أنفسهم فِقها بالصحابة العدول الذين شهد لهم رسول الله بالخيرية، وأن يعدِلوا أنفسهم بالخلفاء الراشدين الذين أمر رسول الله باتباعهم، ألم يسمع أولئك الذين تصدَّروا بغير علمٍ ليحللوا ويحرِّموا، وليفسِّقوا ويكفِّروا ويبدِّعوا، ألم يسمع أولئك قول الله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ )( النحل 116)
والله لكم يتألم المسلم الصادق عندما يرى أمثال أولئك الجهلة يتقدمون الصفوف, ويفتون الناس في أمور الحلال والحرام بل بلغ المبلغ في الكثير من أولئك الأدعياء أن أصبحوا قضاةً في بعضِ المحاكم والهيئات
فضلُّوا وأضلُّوا، ونفروا الناس عن الشرع والدين، وساهموا في الحطِّ من قيمة العلم الشرعي في أعين الناس وقلوبهم.
روّجوا للفوضى، روّجوا للتفلُّت، وكلُّ ذلك باسم نصرة الشرع (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم 28)
وهنا يحضرنا قول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس إعلامُ الموقِّعين إذ يقول:
(من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً)
من أأقرَّ ذلك الجاهلَ المُتصدِّر ونصَّبهُ في موضِع الفتوى وفي موضِع إدارةِ العملِ الشرعي وإدارة القضاء الشرعي والتحكيم وما شابه ذلِك … أولئك القادات والمتزعمون للفصائل الذين يتعصَّبون للجهال من أتباعهم يصدِّرونهم ويقدِّمونهم ليمثِّلوهم في المحاكم الشرعية وفي الهيئات التوجيهية، أولئك القادة بفعلهم هذا شرٌّ مكانًا وأضلُّ سبيلا من أولئك الجهلة الذين ما كانوا ليتجرؤوا على ما هم عليه لولا ذلك المنهج المنحرف لمن صدَّرهم وأظهرهم للنّاس حتى غدونا نرى من أولئك الجهلة من يوصف بأنّه شرعي الفصيل الفلاني ومفتي الهيئة الفلانية مفتي فصيل قد يتبعه مئات الشباب المجاهدين ….
تخيَّل معي مئاتٌ من المجاهدين يتبعون ذاك المجهولَ الدعيَّ الذي لا يعرِفُهُ أحد، ولعلّ أولئك يصح فيهم قول الشاعِر: (إذا كان الغراب دليل قومٍ فلا فلحوا ولا فلح الغرابُ)
فأي عدلٍ وأي قضاءٍ وأيُّ هيئاتٍ شرعيَّة والشرع فيها يصدرُ ممّن لا يعلمون شيئًا في شرعِ الله، أيُّ قضاءٍ وأيُّ عدلٍ والله تعالى يقول: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(آل عِمران:18)
فلا قِسط ولا عدل إلا بتحكيم الشرع من أهله، ممن يفهمون النصوص وينزلونها في موضعها، ممن شُهِد لهم بالعلمِ والفضل … وقد روى ابن ماجه وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.
الرجل التافه الجاهل قليل الحكمة ، قليل العِلم ، قليلُ الدين ، يتصدّرُ المجالِس ويتكلم في الشأن العام فيتصدَّرُ لتعليم النَّاسِ وقيادتِهم وتوجيههم
وإذا كان الغرابُ دليل قومٍ سيهديهم إلى دارِ الخرابِ
وإذا كان الغرابُ دليل قومٍ فعيب القومِ لا عيبُ الغراب
عيبُ من سكَتَ على تصدُّر الجاهلين، عيبُ القومِ لا عيبُ الغرابِ ، ليس عيبًا أبدًا أن تسأل ذاك المتصدِّر فتقولَ له بأدبٍ: مِمن أنت ؟ ما عِلمُكَ ؟ من مشايخُكَ ؟
ليس من العيب بل واجبٌ علينا أن نقول لمن سيتصدَّرُ لقياداتِ المجموعاتِ الكبيرة : (لو سمحت اكتب لنا سيرتك الذاتية، نريد الــ CV الخاصَّة بك) أنت تقودُ بشرًا مجاهدين وليس قطيعًا من البهائم ترعى به!! عرفنا بشخصك الكريم وبمؤهلاتُك التي تصدَّرتَ بها …
تخيلوا بلغ المبلغ بهم أن يقول أحدهم أنه والصحابة والخلفاء الراشدون سواء وهو لا يملك من العلمِ شيئا … هذا العيب عيبُ القومِ لا عيبُ الغراب.
عيب من يرضى أن يتصدر عليه مثل ذاك ولا يقولُ له يا فلان عرِّفنا بنفسك وبمؤهلاتِكَ وعلومِك لكي نأخذ من كلامِك ونحنُ واثقون.. فنحن لا نريد التجنِّي على أحد
بكلِّ أدب أطلب منك ما يزيدني بك ثقتةً ويزيدني بعلمك قناعة
اللهم اصرف عنَّا خداع الخادعين وكذب الكاذبين وخيانة الخائنين
إنّك سميع قريب مجيب
إنّي داعٍ فأمِّنوا