ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 12/ رجب/1436هـ
الموافق: 1/أيار/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 39 دقيقة
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
2- َوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا
3- وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
4- الشهود الخمس عليك أيها الإنسان
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
5- ضوابط ومعايير الحساب يوم القيامة
6- وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (جريمة الكفر)
7- ثم يضرب الجسر على جهنم
8- أبَـتْ نفسـي تتوبُ فـمـا احتيالــي (شِعر)
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكُفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكُفَّار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضلهِ، وأظهر دينه على الدين كُلِّهِ.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يُدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد عباد الله:
يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)) (يس: 51-54)
إخوة الإيمان ونحن نتحدث عن اليوم الآخر ذاك اليوم (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (إبراهيم : 48) ونحن نتحدث عن يومَ يحشر الناس حفاة عراة غُرلًا، كُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً، في ذاك اليوم يطول الأمر بالناس ويشقُّ عليهم الانتظار، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4)
يبلُغ الناسُ من الجَهدِ كلَّ مبلَغٍ، فيبدأُ الجميعُ بالبحثِ عمَّن يشفعُ لهم عند الله تعالى، ليبدأَ الحسابُ، فلا يكونُ لذلكَ الموقفِ إلَّا نبيُّنا عليه الصلاةُ والسَّلامُ، فيقومُ بذلك المقامِ المحمودِ، وهو المقامُ الذي يحمَدُهُ فيه الأوَّلون والآخِرون، مقامُ الشفاعةِ العُظمى، حين يستشفعُ الخلائق بآدمَ، ثم بنوحٍ، ثم إبراهيمَ، ثم موسى، ثم عيسى وكلُّهم – صلوات ربِّي وسلامه عليهم – يعتذرونَ ويتأخَّرون عنها، حتّى يستشفِعوا بسيِّدِ ولدِ آدمَ صلى الله عليه وسلم ليرحمَهمُ اللهُ من هولِ الموقفِ وكربِهِ، فيشفعُ عند ربِّه فيشفِّعُه، ويقيمُه مقامًا يغبِطُهُ به الأوَّلونَ والآخِرونَ، وتكونُ له المنَّةُ على جميعِ الخلق… لبدء الحساب وهذا للبشرية عامَّة، أمَّا المِنَّةُ الثانية له صلى الله عليه وسلم فهي الشفاعة الخاصَّة لأمَّتهِ، وفيها الحديث الصحيح الذي يرويه أبوداود، قال صلى الله عليه وسلم: « شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى ».
تلك الشفاعة التي اغترَّ بها بعض المغترين فظنّوا أن لهم أن يفعلوا ما يشاؤوا ومن ثمَّ يُمَنُّون أنفسهم بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)) [طه: ١٠٩ – ١١٢].
ما أدرى ذلك المسرف الظالم أنَّ الله سيأذن لرسوله أو لغيره أن يشفع له، (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) في ذاك اليوم العسير توضع الموازين: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) [الأنبياء: ٤٧].
في ذاك اليوم توضع الموازين وتنشر الدواوين، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)) (الإسراء:14-15)
ذاك الكتاب الذي لا يغادر شيئا: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)
إيمانك، حسناتك، سيئاتك، مالك، حصاد لسانك، عهودك ومواثيقك، وغير ذلك، كله ذلك مسطور في كتابك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ أبلاهُ؟)) [رواه الترمذي، وَقالَ: حسن صحيح].
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)) [الانشقاق: ٧ – ١٢].
وليس هذا فحسب بل لتمام عدل الله وهو السميع البصير العليم يأتي علينا بشهودٍ شاهدين:
وأولهم: الملائكة الكرامُ الكاتبين الذين يحصون أعمال المُكلَّفين في الدنيا: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) (ق) أولئك يأتون معك يوم القيامة:
(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق: ٢١]،
أما الشاهد الثاني: فالرُّسُلُ عليهم الصلاةُ والسلامُ: يشهدون على أُمَمِهم بما بلَّغوهم من رسالات الله
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) [النساء: ٤١]
فأين أنت أخا الإسلام من شهادة رسول الله وقد روى البخاري ومسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ” إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحقاً لمن غيَّر بعدِي”. … سُحقًا سُحقًا لمن ترك الواجبات ولزم المنهيات وابتدع في دين الله ما ليس منه ….
وثالث الشهود هذه الأرضُ التي نمشي عليها، الأرض التي صليت عليها أو الأرض التي غصبتها وأخذتها ظُلما، كلها ستشهد عليك: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5))(الزلزلة:1-5)
فتُحدِّث الأرض بم صنعت عليها إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر
ورابع الشهود شهودُ جوارِحِنا وجلودِنا علينا: قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)) [النور: ٢٤]
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ فَقَالَ:” هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ؟” قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: “مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: ” فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي. قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ. قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فعنكنَّ كنتُ أُناضلُ ” [رَوَاهُ مُسلم]. [أي إِنَّما كنتُ أَحاجُّ ربي دفاعاً عنكنَّ].
[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يس:65)]أمّا أعظمُ شهيدٍ هناكَ هو الجبّارُ سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) [النساء: ٣٣]
ربُّنا ومولانا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ومع ذلك لتمام عدله يأتي على خلقه بالشهود وهذا لمن يُنَاقَشُ الحِساب ومن نوقِشَ الحسابَ عُذِّب
اللهم اجعل حسابنا سهلا لينا عرضا يسيرا
اللهم اجعلنا ممن يُحشرون إليك وفدًا ، لا مِمَّن يساقون إلى جهنَّمَ وِردا … أقول هذا القول وأستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى
إخوة الإيمان: ونحن نتحدَّث عن الحساب والميزان يوم القدوم على الملِك الدَّيان ، لابدَّ أن نعلم أن لذاك الحساب مزايا وهيئات فمن ذلك ما روى البخاري عَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ – رضي الله عنها – عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ” قَالَتْ: قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى [فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا] ؟ قَالَ: ذَلِكِ الْعَرْضُ”
فشتّان شتَّان بين من يناقش في حسابه وبين من يمر مرور الكرام .. مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ
في ذاك اليوم – إخوة الإيمان – يظهر التمايز الحقيقي بين المؤمن وغيره حتى في كيفية الحساب، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يُدنى المؤمن من ربه حتى يضَع عليه كنَفَه، فيقرِّرُه بذنوبه: تَعْرِفُ ذَنّبَ كذا وكذا؟ فيقول: أعرف ربِّ، أعرفُ – مرتين – فيقول سَتَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأغْفِرُها لك اليومَ، ثم تُطوى صحيفةُ حسناته، وأما الآخرون – أو الكفار، أو المنافقون – فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم، ألا لعنةُ الله على الظَّالمين ”
تخيل معي هذا الموقف وجهز نفسك لما سيقال لك، تخيل معي مجرمًا مسرفا على نفسه ممن جرت على لسانه كلمة الكفر، إن أكرمه الله وتاب ولم يمت كافرا مرتدا خالدا في النَّار، تخيل معي وإن تاب يقول له ربُّه، أكلت خيري وعشت في أرضي ثمَّ شمتني عبدي؟؟ بم سيجيب ربَّه ؟ أي صَغارٍ وأي ذُلٍ وأي مكانة لهذا … هذا إن تاب ولم يكن من الخالدين في الناَّر، ومع ذلك فكلُّ عمله الصالح قبل نطقه كلمة الكفر أُحبِطَ وغداء هباءً منثورا، قال تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5)
في ذاك الحساب يقف كل مخلوق وحده بين يدي الديَّان سبحانه ليس معه أحد : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) (مريم:93-95)
ستقف فردًا ليس معك أحد، لن تستطيع أن تقول فعلو، أجرموا ، سرقوا ، غَلُّوا ، تخاذلوا ، ولَّوا الأدبار …
ليس لك شأن بأحد، فلا تزِرُ وازِرةٌ وزرَ أخرى، إن كنت محسنًا, كوفِئت بإحسانك وإن كنت مُسيئا كان عليك وبال إجرامك.
في ذاك اليوم تُبلى السرائر وتكشف الحقائق وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه يقول صلى الله عليه وسلم: “لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا”، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: ” َمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا”.
في ذاك اليوم حسابٌ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) (الزلزلة:7-8)
فتوزنَ الأعمالُ بموازين القِسط الدقيقة ثُمَّ يُضرَبُ الصِّراطُ على متنِ جهنَّم، أدقُّ من الشَّعرِ وأحدُّ من السيفِ، والكلُّ مدعوٌّ للعبورِ عليه، قال الله تعالى:
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)) [مريم: ٧١ – ٧٢].
الكلُّ سيمرُّ على الصراطِ، ولكن ليسَ كلُّ من مرَّ على الصراطِ نجا، فكلٌّ يمر على وفق نتيجة حسابه.
قال صلى الله عليه وسلم: “ثم يضرب الجسر على جهنم وتَحِلُّ الشفاعة ويقولون: اللهم سلِّم سلِّم” قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: “دحضٌ مَزَلَّةٌ فيه خَطاطيفُ وكلاليبُ وحسكةٌ تكون بنجدٍ فيها شويكةٌ يُقال لها: السَّعدانُ، فيمرُّ المؤمنون كطرفِ العينِ وكالبرقِ وكالرِّيحِ وكالطّيِر وكأجأويدِ الخيلِ والرِّكابِ فناجٍ مسلَّمٌ ومخدوشٌ مرسلٌ ومكدوسٌ في نار جهنم” [صحيح مسلم].
[( دَحْضٌ): أيْ زلِقٌ، (السعدان): نوعٌ من الأشواك الصلبةَ معروفة في بلاد نجد]
فيالَه من موقفٍ تشيبُ لهولِه مفارِقُ الصِّبيان!!
يومَ نرى هناكَ الأَمانَةَ والرَّحِمَ وقد قامتا على جنبتيِّ الصِّراطِ، فتُنادي الأمانةُ على كلِّ خائنٍ يمرُّ عليها
– وكلُّنا سنمرُّ عليها – تُناديهِ:
أينَ الأمانَةُ التي ضيَّعتَها؟
أينَ أمانةُ الأموالِ؟ أينَ أمانةُ الدِّينِ؟
أينَ أمانةُ الزوجاتِ والأولادِ؟
أين أمانةُ السلاحِ والذخائرِ والدعم؟
أينَ الأمانةُ التي أَشفقتِ السموات والأرضُ والجِبالُ من حملِها، وحملتَها أنتَ؟
وتناديهِ الرَّحمُ: أينَ حقّي عليكَ؟ وأينَ صِلَتي لَدَيْكَ؟ ولماذا قَطَعْتَني؟ ولِماذا ضَيَّعْتَني؟
تخيل معي أدق من الشعرة وأحد من السيف وظلمةٌ شديدة ، وكلاليب تتخطف الناس وتحت هذا الجسر النار تنتظر ، تفور وتتغيظ ، ويقال لك مرَّ عليه ، في تلك الظلمة الرهيبة ، يوم يقول المولى سبحانه
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: ٤٠].
في تلك الظلمة هناك أناسٌ تنار لهم أنوار لأفعال عملوها في هذه الدنيا
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم “من رَمى بِسهمٍ في سبيلِ اللهِ كانَ لهُ نوراً يومَ القيامةِ” [رواه البزار في مُسنده بإسناد حسن وصححه الألباني].
وقوله صلى الله عليه وسلم” بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. [رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد].
ومن جاوز الصراط ونجا من النار فحسبه ذلك جزاءً
(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: ١٨٥]
ومَن عرَف ما في الجنَّة وما في النَّار أيقن أنَّ ذلك هو الفوز الذي لا يُشبهه فوز ممّا سنتعرَّف عليه لاحِقا – إن أحيانا الله إلى قابِل –
ومن عرفَ الحساب وهوله، لزمه التوبة والاستعداد والإنابة، وكان ذلك عونا له على جهاد نفسه
فاليوم يقبل منك مثقال ذرَّةٍ من خير وهناك لا يقبل ملئ الأرض ذهبًا
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) (آل عِمران : 91)
أبَـتْ نفسـي تتوبُ فـمـا احتيالــي *** إذا بــرَزَ العِبــادُ لذي الـجَلالِ
وقامـوا مــن قبــورِهِــمُ سُـكارى *** بــــأوزارٍ كـأمثــالِ الجبـــــالِ
وقدْ نُصِبَ الصّراطُ لكي يجوزوا*** فمنهم من يُكبُّ علــى الشمــالِ
ومنــهم من يَســـيرُ لــدارِ عــدنٍ*** تلقّـــاهُ العــرائِــسُ بالغـــــوالي
يقـــولُ لــه المـهيمــنُ يـا وليّـــي*** غفرتُ لكَ الذنـوبَ فـــلا تُبـــالِ