دور الإعلام في بث الهزيمة النفسية في نفوس المسلمين

بقلم: أحمد الشجاع

لا شيء في حياة الإنسان يضاهي قوة الكلمة في تأثيرها على نفسيته، فإن كانت سلاحاً فهي الأغلب وإن كانت درعاً فهي الأصلب.

ترفع أقواماً وتذل آخرين، وتقتل هذا وتنقذ ذاك، بل ورب كلمة تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً.

ببيت شعر واحد فقط تبدل حال قوم من ذل إلى عز ومن عار إلى فخار.

فبعد أن كانت قبيلة (بني أنف الناقة) في الجاهلية تخجل من لقبها هذا وتعتبره عاراً يلازمها جاء الشاعر المخضرم (الحطيئة) ببيته الشعري الشهير:
قومٌ هم الأنْفُ والأذنابُ غيْرهُمُ ** ومن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا
ومن يومها صار هذا اللقب فخراً لهم ومدحاً.. لقد أدى البيت الشعري دوره الإعلامي على أكمل وجه، واستطاع أن يحدث تأثيره العميق ليس في نفسية أبناء هذه القبيلة فقط، بل وفي نفسية أبناء كافة القبائل المحيطة بها، فلم يعد أحد يعير قبيلة (بني أنف الناقة) بهذا اللقب.

وعلى هذا الأساس يقوم الإعلام بمهمة استهداف نفوس الناس ومشاعرهم سلباً أو إيجاباً؛ فيحدث ذلك التأثير الذي لا يمكن لأي قوة أخرى أن تحدثه.

فالإعلام – بشتى صوره وأدواته – يستهدف نواة الحياة الإنسانية (العقل والنفس)، فتسري نتائج ذلك على كافة أجزاء الكيان البشري في ظاهره وباطنه.

ومن هنا كان السقوط الأكبر الذي أصاب الأمة الإسلامية بمقتل؛ فعلى مر التاريخ عجزت كل وسائل وأدوات القتل والتدمير عن إخضاع هذه الأمة والقضاء عليها.

ولم يكن أمام أعدائها إلا وسيلة واحدة، وهي ضرب نواتها من الداخل بحرب نفسية شعواء تستهدف عقول المسلمين وقلوبهم؛ فينتج عن ذلك الخواء الروحي والتيه الفكري والذل النفسي.

وفي السطور التالي سنحاول – باختصار شديد – إبراز بعض معالم وجوانب الحرب النفسية على المسلمين، ومخاطرها، وأثرها على المجتمع الإسلامي.
ولكي تكتمل الصورة وتكون أكثر وضوحاً فإن الحديث هنا سيدور حول ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول حول الإعلام ومهمته، وتطورات أساليب الخداع والتضليل الإعلامي المعاصر.

والمحور الثاني سيكون حول دور المناخ النفسي السلبي عند المسلمين في نجاح الحرب الإعلامية النفسية ضدهم.

والمحور الثالث سيكون عن صور ووسائل الحرب الإعلامية النفسية على الإسلام والمسلمين.

ماهية الإعلام:
ينقل أستاذ الإعلام الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود – الدكتور سيد الشنقيطي – عن دارسي الإعلام اتفاقهم على أن “جوهره يكمن في تقديم الحقائق والوقائع والآراء والاتجاهات والمواقف والأحاسيس للناس في صورة دقيقة صادقة وأمينة تمكنهم من اتخاذ القرارات الصائبة فيما يعرض لهم من أمور حيوية مختلفة. وهم متفقون كذلك على أن المعالجة الإعلامية لهذه القضايا يجب أن تشمل كافة أوجه النشاط البشري في هذه الحياة”.

وقال إن محور الإعلام “هو الإنسان ذاته، أهدافه وتطلعاته، معتقداته وآراؤه، مشاعره وأحاسيسه، مواقفه وسلوكه، والأحداث التي تقع من حوله”.
ويعتمد الإعلام على ركيزة أساسية وهي آلية الاتصال بين داخل المجتمعات؛ “ذلك أن الاتصال وسيلة للتعارف ومن ثم التبادل والتعاون؛ ومن هنا كان الاتصال من الظاهر الاجتماعية ذات الأثر الفعال في حياة المجتمعات البشرية ودعامة قوامها واستمرارها ونموها”.

هذا من حيث الغاية الأساسية للاتصال، وفي حدوده الطبيعية، لكن هذا الهدف كثيراً ما يخرج عن مساره الصحيح تبعاً لأهواء النفوس الضالة أو أفكار العقول المنحرفة التي تسعى لتزيين الباطل وتشويه الحقائق بوسائل وموجهات شيطانية.

وقد تحدث القرآن الكريم عن جوانب هذا الانحراف في الاتصال، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

“وهناك إعلاميون يقومون بالدور نفسه، فهم يزخرفون القول والعمل؛ فتنةً للناس وصرفاً لهم عن الحق، مستخدمين في ذلك شتى الوسائل والأساليب؛ ذلك أن الإعلام يملك من أسباب الفتنة ما يملك حتى غدا وكأنه سحر.. وهو في ذلك كله ذو براعة في تزيين ما يريد تزيينه”.

ويقول الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].

“والذين يسيئون استخدام الإعلام كذلك يفعلون، يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا بالباطل؛ ليدحضوا به الحق..”.

وقال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].

“لقد أحكم الإعلام الشيطاني قبضته على الناس اليوم، فاستولى على أفئدتهم قبل أسماعهم وأبصارهم، ولم يدع لهم متسعاً من الوقت يلتقطون فيه أنفاسهم، فأنساهم باستحواذه عليهم ذكر الله، وصرفهم عن مصادر النور والهداية.. وإضلال الإعلام الشيطاني للناس يتم في صور متعددة، لكن أخطره ما يقوم على تزوير الحقائق وتزييف الحياة وقلب الأشياء..”.

وقال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25].

ويقوم الإعلام الشيطاني اليوم بالدور نفسه الذي يقوم به قرناء السوء، حيث استحدثت وسائل الاتصال العصرية فنوناً شيطانية لإثارة الجماهير كالإعلانات الرتيبة والدعايات الصاخبة والموسيقى المحمومة وأفلام الجنس والعنف وغيرها؛ فدفعت الناس إلى اختيار الضلالة على الهدى بما تقوم به من تحسين وتزيين أفقدهم القدرة على التمييز”.

تطور أساليب التضليل:
لقد استطاع الإعلام المعاصر أن يحكم قبضته على الرأي العام، لدرجة القدرة على تغيير قناعات الناس والتلاعب بها بين ليلة وضحاها. حيث أصبح الخطاب الإعلامي موجهاً بالدرجة الأولى إلى مشاعر الناس ونفسياتهم، وقطع الصلة بين القناعات والمبادئ التي تحكمها والعقول التي تنظمها؛ والهدف من ذلك إحداث التأثير السريع في عملية توجيه الرأي العام للوجهة المطلوبة.

وتعتبر الحروب والانتخابات من أبرز المجالات التي يتم فيه هذا التأثير الإعلامي.

وهنا لا بد من التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي أن الخداع أو التأثير الإعلامي السلبي له هدفان مختلفان، وهما: الدعاية لغرض الجذب، والحرب لغرض التدمير.

ولهذا لا بد من أن ننتبه إلى الفرق بينهما، وعدم الخلط بين الهدفين، فالأول يستهدف الرأي العام الداخلي أو الصديق للحصول على دعمه وتأييده، أما الثاني فيستهدف العدو بقصد التدمير.

ويكمن الفرق بين الهدفين في تفاصيل وتوجهات مفردات الخطاب الإعلامي والسياسي، وآلية صناعتها وتسويقها.

وحول هذا النوع من التأثير الإعلامي النفسي تحدثت مجلة (المجلة) عن تطورات الخداع الإعلامي في توجيه الرأي العام لتحقيق مصالح سياسية بعيدة عن الحقائق.

وتكمن خطورة الأمر في أن هذا التأثير يتم عبر استهداف الجانب النفسي بصورة أكثر من استهداف الجانب العقلي، وبوسائل وطرق أقرب إلى الخداع السحري الذي يمنع الإنسان من إدراك الحقيقة.

ولأهمية هذا الموضوع وخطورته نستعرض خلاصة ما جاء في تقرير المجلة من نماذج خداعية إعلامية تدع الحليم حيراناً؛ وذلك ليدرك القارئ المسلم بعض أساليب الخداع الجديدة فيكون على بينة من أمره.

فمع تطور وسائل الإعلام وظهور تقنيات الاتصال الحديثة، تغيّرت أساليب القيادة ووسائل التأثير في الرأي العام.

فلم تعد كاريزما الزعماء هي المحك، بل أصبحت هذه المهمة مناطة بصنف جديد من مستشاري الحُكام المتخصصين في فنون المراوغة الإعلامية التي تتيح لهم التلاعب بالرأي العام وتوجيهه الوجهة التي يريدون.

ومع ظهور تقنيات الاتصال الحديثة، التي شهدت منذ الستينات تطوراً وانتشاراً مذهلين، وتحوّلت إلى أداة لا تضاهى في التأثير على الرأي العام وتوجيهه بما يريده هؤلاء، بدأت موازين القوى بين الحُكّام ومستشاريهم الإعلاميين تتغيّر بشكل جذري.

فمهّد ذلك لظهور فئة جديدة من المستشارين المتخصصين في التلاعب بوسائل الإعلام، والتحكم باتجاهات الرأي العام.

وقد برع هذا الصنف من المستشارين الجدد في فن المراوغة هذا، حتى أنهم باتوا يلقبون بـ”دكاترة المخادعة”.

تغيرات جذرية:
في مطلع عام 1960م رصدت عالمة الاجتماع الأمريكية – جين جاكوبز – التغييرات الجذرية التي بدأت تطرأ على الحياة الاجتماعية والسياسية عبر العالم، فكتبت – في بحث لها حول مستجدات الحياة في المدن الكبرى – بأن اختراع التلفزيون وأجهزة تكييف الهواء أحدث منعطفاً حاسماً في أسلوب الحياة المعاصرة، فلم يعد الناس يخرجون إلى الحدائق والمسارح والأماكن العمومية بنفس الوتيرة السابقة، بل أصبحوا يقضون أغلب ساعات فراغهم في صالونات بيوتهم قبالة أجهزة التلفاز.

وكانت الإذاعة قد مهدت لذلك، ولعبت من قبل دوراً مهماً في هذا المجال، لكنه كان دوراً تكميلياً أو ثانوياً، ساهم في جذب أو استقطاب الناخبين.

 

اختراع التلفزيون وانتشاره المذهل أحدثا نقلة مفصلية في أسلوب ممارسة العمل السياسي. فلم تعد التجمعات الشعبية والجولات الميدانية هي القياس، بل صار المحك هو مدى جذبها لوسائل الإعلام المرئي وطريقة تغطيتها أو نقلها على شاشات التلفزيون.

وبالتالي تغيّرت بنية الخطاب السياسي وفقا لمقتضيات البث التلفزي، وأصبحت خطب وتصريحات رجال السياسة تخضع لنفس معايير الإعلانات الإشهارية المرئية، سواء من حيث الشكل أو البنية الخارجية (تصريحات شديدة التركيز، ذات طابع مقتضب وخاطف)، أو من حيث المضمون الذي لم يعد يخصص حصة الأسد للتحليل والتنظير ـ كما كان عليه الحال من قبل ـ بل للشعار الفاقع ذي التأثير الآني الجاذب، الذي يداعب المخيّلات ويرسخ في الأذهان، وإن كان يفتقر للعمق أو بُعد النظر.

تغليب المظهر على الجوهر:
وهكذا بدأت المساحة تضيق بالتدريج بين قواعد الترويج التجاري وبين العمل السياسي، فصارت الخطب السياسية تُخضَع لقواعد التسويق الكلاسيكية التي تضع الفاعلية والمردودية فوق أي اعتبار آخر.

وأصبح الساسة يحيطون أنفسهم بفرق من الخبراء الإعلاميين المكلفين بتلميع صورهم وتسطير إستراتيجياتهم وإعداد خطبهم.

هذا الواقع المستجد جعل رجال السياسة يغلّبون المظهر على الجوهر، فلم يعد المقياس بالنسبة لهم هو المضمون الفكري للخطاب السياسي الذي يحملونه، بل مدى قدرتهم ـ وهي بالأساس قدرة فرق الإخصائيين المحيطة بهم ـ على تسويق هذا الخطاب للناخب (الزبون)، من منطلق أنه كأي مستهلك معاصر بات مستعجلاً ومتقلب المزاج، بفعل تسارع الأحداث وتعقيدات الحياة الحديثة؛ وبالتالي فهو لن يؤيد رجل سياسة معيناً، ويبقى وفياً له مدى الحياة، لما يحمله من فكر سياسي، بل سيتفاعل معه آنياً، إذا اقتنع أو أُقنع بأن رجل السياسة هذا هو أحسن “البضاعة” المعروضة أمامه على ساحة التنافس السياسي في اللحظة الراهنة.

ولم يحدث هذا التحول دفعة واحدة، بل تم على مراحل مطّردة، تبعاً لما شهده التلفزيون في حد ذاته من تطور وانتشار متزايدين، إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من سطوة بلا منافس، جعلت منه الوسيلة الأكثر نفوذاً في صناعة الرأي العام وتوجيهه والتأثير فيه.

التلاعب بالمضمون:
نشأت فكرة (قاعة الحرب) – في الأصل – بمبادرة من جيمس كارفيل، المستشار الإعلامي للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، خلال الحملة الانتخابية التي أوصلت الأخير إلى الرئاسة.

ومن أبرز منجزات (قاعة الحرب) تلاعبها المحكم بالرأي العام الأمريكي، خلال فضيحة العلاقة المشبوهة بين الرئيس كلينتون والمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي.

في أغسطس 1998م، حين وصلت فضيحة لوينسكي إلى أوجها، وبعد أن اتضح أن الرئيس كلينتون لم يقل الحقيقة في تصريحاته الأولى التي نفى فيها وجود أي صلة مشبوهة بينه وبين المتدربة لوينسكي، قام المشرف على (قاعة الحرب) جيمس كارفيل بدفع الرئيس كلينتون، بشكل متعمد، إلى التسرع في شنّ هجوم بصواريخ كروز على معسكر (البدر) التابع لتنظيم القاعدة في أفغانستان، وعلى مصنع للأدوية في الخرطوم، كردة فعل على تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام.

وجاء هذا التسرع في الرد بعد ثلاثة أسابيع فقط من التفجيرات، وقبل أن تتجمع أية قرائن أو أدلة مقنعة على تورط القاعدة فيها. إضافة إلى أن الأسلوب الذي تم اختياره للرد بإطلاق صواريخ عن بُعد من بوارج حربية أمريكية في عرض المحيط الهندي، كان من الواضح للخبراء أنه لن يؤدي إلى أية نتائج فعلية، ولن يوفّق في إصابة أسامة بن لادن أو أي من كبار قادة القاعدة.

وهذا ما جعل العديد من التحاليل السياسية والتقارير الدبلوماسية تتهم قائد (غرفة الحرب) الكلينتونية بأنه تعمّد الزج بالرئيس الأمريكي عمداً نحو التسرع بالرد، لا لضرب القاعدة، بل لصرف أنظار الرأي العام الأمريكي عن فضيحة لوينسكي، وربح فسحة من الوقت لتحضير إستراتيجيته لمواجهة هذه الفضيحة.

وفي بريطانيا أقام فريق المستشارين المحيط برئيس الوزراء الأسبق توني بلير (قاعة حرب) مستنسخة من النموذج الأمريكي، تمكن من خلالها “دكاترة المخادعة” الموالون لحزب العمل، بزعامة بيتر ماندلسون وألستير كامبل، من إحكام قبضتهم على وسائل الإعلام الإنجليزية والتلاعب بها.

ومن أشهر الحيل التي نسجها هذا الفريق لمغالطة الرأي العام البريطاني، ودفع بلير إلى تأييد الحرب الأمريكية ضد العراق، إعلان التقرير الذي نُسب إلى أجهزة الاستخبارات، وتبيّن لاحقاً أن ألستير كامبل انتحله وتلاعب بمضمونه، مختلقاً معلومات لا أساس لها من الصحة مفادها أن نظام صدام حسين قادر على أن يحرّك خلال خمس وأربعين دقيقة لا غير ترسانة نووية قادرة على إصابة العواصم الأوروبية الكبرى.

وانطلت الحيلة على الجميع، ولم تنكشف إلا بعد انتحار العالم البريطاني ديفيد كيلي، بعد أسابيع قليلة من كشفه عن حقيقة هذه المغالطة لقناة (BBC)؛ فأدى ذلك إلى تشكيل لجنة تحقيق قامت بفحص محتويات كومبيوتر كامبل، واكتشفت أنه كان بالفعل وراء تلك الأكذوبة.

وفي فرنسا تعرّض رئيسها الأسبق جاك شيراك، في انتخابات الرئاسة عام 1995م، لانقلاب داخلي دُبّر ضده؛ حيث أحس بمرارة الغدر، وصُدم عندما وجد أقرب أتباعه ومعاونيه ورفاق دربه منذ ربع قرن يتخلون عنه في اللحظة الحاسمة التي كان يتطلع فيها للوصول إلى الرئاسة. وكان هؤلاء قد تخلوا عنه عندما بدأت استطلاعات الرأي تميل في غير صالحه.

وأصبح السباق محتدماً بين مرشحين اثنين فقط في الحملات التمهيدية لانتخابات الرئاسة، وهما بالادور وجوسبان. ولم يعد أحد يلتفت إلى شيراك أو يعيره أدنى حظ في السباق الرئاسي، بل كانت تكهّنات أغلب المحللين ترجّح أنه سيعلن انسحابه من الترشيح، بعد أن فقد كل حظوظه في الفوز.

لكن ابنته (كلود) – التي كانت قد شرعت في العمل إلى جانبه كمستشارة إعلامية مبتدئة عندما كان يشغل منصب عمدة باريس – حاولت التخفيف من وقع الصدمة عليه، قائلة: “إن الاستطلاعات لم تعد هي المقياس. فالعالم تغيّر كثيراً، ولم يعد رجال السياسة يحسبون خطواتهم وفقاً لاتجاهات استطلاعات الرأي، بل صارت التقنيات الحديثة تتيح لهم أن يؤثّروا في الاستطلاعات ويوجّهوا الرأي العام الوجهة التي يشاءون، وعلينا أن نستفيد من التجارب الأنجلوساكسونية في هذا الشأن”.

وقررت كلود أن تستنجد بأستاذها السابق جاك بيلهان. ولم يكن من السهل على جاك شيراك أن يسلّم أسراره الانتخابية إلى جاك بيلهان الذي سبق أن ساهم مرتين في خوض المعترك الرئاسي ضده، ضمن الطاقم المحيط بالرئيس الأسبق ميتران في انتخابات 1981 م و1988م، لكن التيار مرّ بسرعة بين الرجلين، وسرعان ما توطدت بينهما أواصر الثقة والصداقة.

أوكل جاك بيلهان إلى كلود مهمة تحديث صورة والدها بهدف استقطاب الناخبين الشباب. ونجحت كلود في أن تُحدث تغييراً جذريا في طريقة لباسه وقصّة شعره وأسلوبه في الحديث، وأقنعته بالتخلي عن نظاراته الطبية والتدرّب على ارتجال خطبه بدل تلاوة نصوص مكتوبة.

وكان كل ذلك مدروساً بدقة؛ لإظهار شيراك بمظهر طبيعي؛ لتقريبه إلى الناس وتحبيبه لدى الشباب.. وبالفعل كان لهذه المظاهر دور في استقطاب فئة الشباب.

فقد كان هذا الأسلوب أشبه بأسلوب سحرة فرعون في خداع الناس وتضليل الأبصار: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].

وبموازاة ما فعلته كلود قام أستاذها بيلهان بإعداد خطة انتخابية محكمة، تمثلت في ترك مرشحي اليمين واليسار، بالادور وجوسبان، يتصارعان، إلى أن استُهلكا إعلامياً. بينما بقي شيراك في الظل، يتحين الفرصة المواتية لدخول المعترك الانتخابي. فلم يعلن ترشيحه رسمياً سوى قبل ستة أشهر فقط من موعد الاقتراع، مغتنماً ملل الناخبين والمتتبعين من ثنائية مرشحي اليمين واليسار. وهكذا نجح شيراك في الوصول إلى السلطة مرة أخرى ليس بإنجازاته بل بالدعاية الإعلامية السياسية.

وفاز مرة أخرى في انتخابات الرئاسة عام 2000م على خصمه رئيس الوزراء الأسبق ليونيل جوسبان الذي رفض اللجوء إلى هذا النوع من الحيل والألاعيب الإعلامية رغم محاولات حزبه (الاشتراكي) في إقناعه.

فقد كانت حجة جوسبان أن النجاحات التي حققها كرئيس للحكومة، خلال العامين السابقين للانتخابات، تكفي وحدها لاستقطاب الناخبين لصالحه.
وبالفعل كان أداء حكومة جوسبان لافتاً، حيث أنها استطاعت أن تخفض نسبة البطالة لأول مرة، منذ بداية التسعينات، تحت سقف المليوني عاطل، وتحكّمت في الإنفاق العمومي وعجز الميزانية، وأنقذت صندوق الضمان الصحي الفرنسي، الذي كان على حافة الإفلاس عندما تسلمت الحكم.

لكن قيادة الحزب الاشتراكي، وإن كانت تعرف قيمة تلك المنجزات جيداً، لم تقتنع بحجج جوسبان، وخشيت أن تتكرر معه تجربة إدوار بالادور، بما جعله يتصدر استطلاعات الرأي، لكن ذلك لم يكن كافياً لإيصاله إلى الفوز بالرئاسة.

وأثبتت الأحداث لاحقاً أن تلك المخاوف كانت في محلها، حيث أصرّ جوسبان بأن المحصّلة الإيجابية لحكومته تخوّله أن يخوض حملة انتخابية مختلفة تغلّب الجوهر على المظهر.

وجاءت النتيجة كارثية، كما توقعها زملاؤه، حيث أُقصي جوسبان منذ الدورة الأولى للانتخابات.. وكانت الصدمة شديدة عليه، إلى درجة أنه أعلن اعتزال السياسة نهائياً.

ولم تسلم روسيا، بفعل انفتاحها على الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من امتدادات ظاهرة “دكاترة المراوغة”.

حيث يتباهى صانع الرؤساء هناك (جليب بافلوفسكي) بأنه تمكن من إعادة انتخاب الرئيس الأسبق يلتسين، سنة 1996، لولاية رئاسية جديدة، رغم أنه كان مريضاً ومدمناً على الخمور ومضرجاً بفضائح الفساد، ولم تكن شعبيته غداة افتتاح الحملة الانتخابية تتجاوز 4 بالمائة فقط. ولكن تأثير الإعلام على نفسية وتفكير المواطن أحداث انقلاباً جذرياً في شعبيته.

وفي عام 2000م تمكن بافلوفسكي أيضاً من أن يضمن انتقال خلافة يلتسين إلى فلاديمير بوتين، رغم أن أحداً لم يكن قد سمع باسمه قبل 6 أشهر من الانتخابات.

واستخدم في سبيل ذلك كل الوسائل، مهما كانت متدنية أو مقيتة، ودون أي وازع قانوني أو أخلاقي، لتحقيق ما يخطط له من أهداف سياسية، على اعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة.

ويعترف بافلوفسكي ـ مثلاً ـ بأن خطته لتنصيب بوتين رئيساً تمت على مرحلتين. ففي البداية اقترح تعيين بوتين رئيساً للحكومة، أواخر صيف 1999م، ثم فرض على الرئيس يلتسين، في بداية شهر أكتوبر من نفس السنة، إشعال حرب جديدة في الشيشان، بعد أن كان الجنرال ليبيد والرئيس الشيشاني السابق مسخادوف قد توصلا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ووضعا حداً لحرب الشيشان الأولى في أغسطس 1996م.

كان هدف بافلوفسكي من إشعال هذه الحرب الثانية في الشيشان، قبل ستة أشهر فقط من موعد انتخابات الرئاسة الروسية، المقررة في مارس 2000م، هو فتح جبهة حرب يستطيع بوتين من خلالها أن يثبت أنه رجل حازم ومتشدد يليق برئاسة روسيا، وخاصة إذا نجح في سحق المقاتلين الشيشان، وهي المهمة التي كان قد فشل فيها الجنرال ليبيد، رغم ما اشتهر به من تشدد ودموية.

ولم تقتصر خطة بافلوفسكي في تلميع صورة بوتين فقط، بل امتدت إلى تشويه صورة منافسيه، بأخسّ الوسائل. فبوتين الذي لم يكن عمر تجربته السياسية يتجاوز نصف العام، وجد نفسه أمام منافسين مخضرمين يحظيان بشعبية واحترام كبيرين، هما وزير الخارجية السابق يفجيني بريماكوف، وعمدة موسكو يوري لوجكوف.

وللتخلص من بريماكوف، اغتنم بافلوفسكي الوعكة الصحية التي ألمت به، واضطرته لإجراء جراحة دقيقة في القلب، فقام بإنجاز شريط دعائي صوّر فيه جراحة مماثلة أُجريت لمريض آخر، متعمداً المبالغة في إبراز كل التفاصيل المتعلقة بها، فصوّر مبضع الجرّاح وهو يفتح القفص الصدري، وتدفق الدمّ، وإخراج القلب وتشريحه.. إلخ.

واستغل كل ذلك لشن حملة دعائية ضد بريماكوف، متسائلاً: هذا هو الرجل الأكثر تأهيلاً لقيادة روسيا العظيمة!؟.

وراهن بافلوفسكي بأن التذمر الشعبي من التذبذب الذي طبع سنوات حكم يلتسين الأخيرة، بسبب مرضه، سيجعل الروس يتأثرون حتماً بتلك الحملة.
وبالفعل سرعان ما انهارت شعبية بريماكوف في استطلاعات الرأي، بعد بث ذلك الشريط، حتى أنه اضطُرّ للانسحاب من المعركة الانتخابية قبل تاريخ الاقتراع الرئاسي.

أما يوري لوجكوف، فقد استُعمل ضده أسلوب مغاير، تمثل في “حرب استنزاف” طويلة الأمد، حيث أوعز بافلوفسكي سراً إلى مقربين منه بإنشاء موقع على الإنترنت يحمل اسم لوجكوف، واتخذ في الظاهر طابع موقع مؤيدٍ للوجكوف.. فظن الأخير لوجكوف أن المشرفين على ذلك الموقع هم من أنصاره.

ولكن مع تقدّم الحملة الانتخابية بدأ بافلوفسكي يدسّ تدريجياً في الموقع معلومات وتصريحات خاطئة، منسوبة إلى لوجكوف الذي وجد نفسه في تخبطّ لا نهاية له، وأدى ذلك إلى تشويه صورته عندما أظهره الموقع أمام الرأي العام كشخص متناقض لا يمتلك شجاعة التمسك بأفكاره والدفاع عنها. وما أن كاد موعد الاقتراع الرئاسي يقترب حتى كان الرجل قد فقد كل مصداقيته وشعبيته.

الإعلام في الحروب:
لم تكن الحروب تقوم بمعزل عن الإعلام والدعاية والحرب النفسية، لحشد الرأي العام ورفع معنويات الجيوش، ومواجهة العدو وتحطيمه، وقد بقيت فنون الاتصال والإعلام على علاقة وثيقة بالحرب، ولكنها في هذا العصر الذي يتميز أساساً بالاتصالات والمعلوماتية تكاد تتحول برمتها إلى الإعلام والدعاية، والحرب في جوهرها تبادل منظم للعنف، والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة، فإذا أمكن إقناع الخصم فلا حاجة للحرب العسكرية ابتداءً، حسب قول الكاتب إبراهيم غرايبة.

وضرب الكاتب مثلاً في ذلك بالحرب الإعلامية في أثناء الغزو الأمريكي للعراق، وقال إن التغطية الإعلامية لهذه الحرب كانت من أهم الحالات الدراسية في كليات الإعلام في جامعات العالم وفي المؤسسات الإعلامية المحلية والعالمية، فهي المرة الأولى التي تدخل فيها الفضائيات والإنترنت إلى جانب الصحافة ووكالات الأنباء والإذاعة والتلفزيون المحلية في حرب كبيرة أقرب إلى العالمية وتشغل جميع الناس تقريباً.

ويتذكر المتابعون لحرب الخليج الثانية الأداء الإعلامي المرافق لها، ولا بد أنهم يلاحظون الفرق الكبير بين الحربين في هذا المجال، فقد اختفى الخطباء عن المسرح، ولم يعد يعرفهم أحد، واستبدل بهم الناس بدائل كثيرة جداً من الفضائيات ومواقع الإنترنت من كل البلاد والاتجاهات واللغات والمواقف، وأصبح المواطن العادي يملك المعلومات من جميع المصادر وبسهولة فائقة، ولم يعد يتميز عليه المحللون العظام والخطباء العباقرة والمسؤولون الرسميون والصحافيون المدعون بشيء يذكر.

وربما يفسر هذا اختلاف المشاعر وردود الأفعال والاستجابات للأحداث، فالعرب والمسلمون، وإن كانوا أكثر تأييدا وتعاطفا مع العراق في هذه الحرب ذلك أن الموقف العراقي هذه المرة لا تشوبه شبهة احتلال الكويت والموقف الأمريكي لا يملك أي غطاء دولي أو أخلاقي فإنهم يبدون أكثر هدوءاً وأقل هياجا، وعلى قدر كبير من التوازن ومعرفة الأحداث والمعلومات والإحاطة بالمصادر المختلفة ومقارنتها ومناقشتها، ولا يكاد يوجد فرق كبير في التحليل والتقدير بين المحللين الذين تستضيفهم الفضائيات وبين المواطنين العاديين الذين يتابعون الأحداث والأنباء بنفس المستوى والشمول الذي يتابعه هؤلاء الخبراء.
والإعلام في الحرب يهدف إلى إقناع الناس بالقتال أو تأييده أو إقناع الخصوم بترك القتال والاستسلام فهو في جوهره عملية حربية، وقد كان التحرك العسكري الواسع في آسيا حلماً يراود كثيراً من العسكريين الأمريكيين وشركات التصنيع العسكرية في الولايات المتحدة، ولكنه لم يكن يحظى بتأييد شعبي بسبب الاتجاه الغالب في الولايات المتحدة إلى العزلة وتخفيف التدخل في العالم وتقليل النشاط العسكري الخارجي والانشغال بالرفاه والاقتصاد عن السياسة العالمية.

وكما يقول البعض فإن كثيراً من الأحيان كانت الحرب الإعلامية بديلاً للحرب العسكرية، وهذا ما حدث تماماً في الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، فقد انتصرت الولايات المتحدة بالضربة القاضية وانهار الاتحاد السوفييتي بدون حرب عسكرية، ولكن بفعل الدعاية والتأثير الإعلامي.

وقد صارت الدعاية علماً قائماً بذاته من العلوم الإعلامية، وهي فن الإقناع، الذي تقوم قواعده على كسب مظهر الصدق (ليس بالضرورة أن تكون الرسالة صادقة)؛ لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه، والبساطة والتكرار للوصول إلى أذهان الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة.

لقد تحولت الحرب الإعلامية في العصر الحديث من استهداف الجنود والمقاتلين سلباً أو إيجاباً للتوجه إلى المجتمعات والأمم، ويمكن ملاحظة ذلك في الغزو الفكري والثقافي وتعميم أنماط الحياة والاستهلاك والطعام والأزياء وقصات الشعر، وصار الإعلام حرباً شاملة على ثقافات الأمم وحضاراتها وتاريخها وتراثها، بل لقد اختفت ثقافات ولغات كثيرة ولم تعد موجودة ولا يعرفها حتى أصحابها، وباتت لغات وثقافات أخرى مهددة بالانقراض.

وبذلك يمكن القول – بحق – إن الدعاية صارت أهم الاستعدادات الحربية وتعد جزءاً رئيسياً من المجهود الحربي، فهي – كما يقول بعض الخبراء – “قذائف من الكلمات التي تختار بعناية وتصاغ بحساب دقيق مستهدفة تشكيك شعب دولة العدو وجنوده في قضيتهم، وهدم ثقتهم بقيادتهم وفي حكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر..”.

وكشفت دراسة أجراها أستاذ العلاقات الدولية في جامعة (إيلينوي) الأمريكية – أنتوني ديماجيو – أن وسائل الإعلام الأمريكية أولت اهتماماً كبيراً ومتكرراً – خلال الفترة من 2002 وحتى 2007م – بالضحايا الأكراد في العراق، وعبرت عن تعاطف أخلاقي ووجداني كبير بهؤلاء الضحايا، وصورتهم بأنهم أهداف تطهير عرقي، وتباكت بشدة على الضحايا الأكراد أيام صدام حسين.

لكنها بالمقابل أبدت اهتماماً ثانوياً ضئيلاً بالضحايا العراقيين، الذين بلغوا مئات الآلاف، تحت نير الاحتلال الأمريكي.

ويلاحظ ديماجيو أن وسائل الإعلام الأمريكية تحاول دائماً التقليل من حجم وعدد الضحايا العراقيين، وتفعل ذلك بفجاجة وغلظة “كما أنها تحاول التقليل من دور الاحتلال الأمريكي في المجازر التي يتعرض لها الشعب العراقي” بإلقاء اللوم على العنف العراقي، وعلى “بعض” الجنود الأمريكيين “الفوضويين”.
ومعاناة العراقيين في ظل الاحتلال الأمريكي لا تستدر تعاطفاً معنوياً من قبل إدارات وسائل الإعلام الأمريكي، ويبدو جلياً أن معاناة العراقيين تعتبر أمراً ثانوياً مقارنة بالاهتمام الذي تبديه لضحايا الحرب من الجنود الأمريكيين.

ويلاحظ ديماجيو أن وسائل الإعلام الأمريكية تجعل الغضب تجاه الضحايا المدنيين العراقيين مرادفاً للعداء والحقد على الأمريكيين، ومرادفاً لمن تصفهم بـ”الإرهابيين والمتمردين والمتزمتين”، وتبدي اهتماماً إنسانياً زائفاً بالمدنيين العراقيين، الذين تزعم أنهم سيكونون في خطر إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق.

ويكشف ديماجيو أن ما تقدمه الصحف والبرامج التلفزيونية الإخبارية الأمريكية والغربية، التي تلعب دوراً كبيراً في التأثير في أدمغة الجمهور المتلقي، لا يعدو كونه مجرد “بروباجندا” هائلة تدعم الدكتاتورية الإمبريالية والنخب المتسلطة التي تحكم العالم.

 

ظاهرة الانهزام النفسي عند المسلمين:

من أهم عوامل نجاح الإعلام في إلحاق الهزيمة النفسية في المجتمعات هي وجود القابلية السلبية داخل الفرد والمجتمع، بحيث يتهيأ المناخ المناسب والأرض الخصبة لنمو بذور الهزيمة النفسية.

وللأسف فقد بلغت قابلية الانهزام النفسي في المجتمع المسلم ذروتها، حتى أصبحت ظاهرة مرضية خارت من وطأتها قوى المجتمعات المسلمة، وأقعدتها عن مواجهة شتى أنواع الحروب الحسية والمعنوية.

وقد تحدث الدكتور عبد الله الخاطر عن أعراض هذا المرض النفسي المجتمعي عند المسلمين، وخلاصة هذه الأعراض تتمثل في الآتي:
– اليأس من إمكانية تغيير وضع المسلمين.

– نظرة الناس إلى من هو دونهم وليس إلى من هو أفضل منهم؛ وبذلك ينغرس في النفس الشعور بالراحة لما هم فيه فيبررون واقعهم بأنهم أفضل من غيرهم ممن دونهم.

– التقليد وعدم الابتكار.
– الانبهار بما لدى الدول المتقدمة من مظاهر الحياة المغرية، وهذا يعبر عن نفسية منهزمة عند هذا المتأثر بالمظاهر؛ فلم يعد يفرق بين الغث والسمين، ولم يعد يفرق بين ما لديهم من علوم دنيوية نافعة وأخلاق فاسدة ضارة.

– رضا الكثير من الناس بواقع المسلمين الضعيف، والاستسلام له.

– محاولة كثير من شباب المسلمين إخفاء الهوية الإسلامية، وفقدان العزة وضعفها عند المسلمين. حيث يتجنب كثير منهم إبراز هذه الهوية؛ خشية أن يتهم بالتعصب أو التطرف أو الأصولية. خصوصاً وأن أغلب وسائل الإعلام تحرص على تعزيز هذه النظرة السلبية.

– ترك الأهداف العالية السامية، والرضى بأهداف قريبة محدودة.

– التخاذل والكسل عن تبليغ دين الله ونشره في الأرض.

– اقتناع بعض المسلمين بتشريعات البشر، ومطالبتهم بتطبيقها بدلاً من شرع الله.

الأسباب:
أما أسباب هذه الظاهرة المرضية الانهزامية فكثيرة، ومما ذكره الدكتور الخاطر في هذا الجانب:
الأسباب الداخلية:
– ضعف الإيمان؛ وهذا أدى إلى ضعف الهمة، وحصول اليأس، وضعف الصبر في تحمل المشاق والمصاعب.

– ترك الجهاد بمفهومه الشامل الكامل، وقد وضح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ترك الجهاد يوصل إلى الذل والمهانة: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)، [قال الألباني في السلسلة الصحيحة: وهو حديث صحيح لمجموع طرقه].

– الخوف والهلع الذي يصيب المسلمين من المشكلات والمصائب التي تقابلهم في التزامهم بدينهم.

– تعميم الأخطاء والفشل؛ فيعيش الناس في حالة ضعف مستمر أشبه بالعدوى.

– عدم معرفة المسلمين بطاقاتهم الحقيقية بالتمسك بالدين الإسلامي، حيث تركوا هذا الدين، وتركوا البحث عن الكوامن القوية فيه.

– الطموحات القليلة المحدودة، وتهيب صعود القمم.

– عيش المسلمين في قضية عقدة المغلوب، ويصف ابن خلدون هذه النفسية في (مقدمته) قائلاً: “إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظرةٍ بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب”.

الأسباب الخارجية:
أما الأسباب الخارجية التي تؤثر على المسلمين في بث الهزيمة النفسية فمنها:
– مقولة “قوة الأعداء” والمبالغة في تضخيمها. وهذا بحد ذاته لا يسبب الهزيمة النفسية إلا عند من فقدوا الثقة بنفوسهم وبعقيدتهم، وفقدوا مقومات تحقيق ذواتهم في الحياة؛ فانصهروا بما قدموا لهم وما سمعوا عنه وشاهدوه.

– استخدام الغرب للحرب النفسية في استعراض عضلاته؛ وتأثير هذا يكون مباشراً في ظل ضعف الإيمان والصبر.

– وجود الطابور الخامس من أبناء المسلمين الذي يربيهم الأعداء في أحضانهم؛ فيرجعون إلى بلادنا يطالبون بكل الأمور التي تدل على الانهزام.
– معرفة الأعداء بمكامن الضعف عند المسلمين؛ فيغزونهم من ذلك الأمر، كالشهوات مثلاً.

صورمن الحرب النفسية على المسلمين:
هناك أساليب حرب نفسية عامة استخدمها الأعداء ضد المسلمين على مر التاريخ الإسلامي، ولم تتغير بتغير الزمان والمكان.

ويكمن الاختلاف فقط في أدوات الحرب وطرق التنفيذ بحسب ما ينتجه ويتطلبه كل عصر.

فوسائل الحرب النفسية في العهد النبوي هي في عمومها نفس الوسائل المستخدمة في عصرنا الحاضر.

ومن بين هذه الأساليب المشتركة في جانب الحروب الإعلامية:
– السخرية والاستهزاء:
“اتبع المشركون في مكة أسلوب السخرية والاستهزاء بالمسلمين، خاصة بالرسول – صلى الله عليه وسلم – كأسلوب مؤثر من أساليب الحرب النفسية التي تبعد الناس عن اتباع صاحب الدعوة..”.

يقول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94 – 96].

وقد بيّن الله تعالى أن هذا الأسلوب كان يؤثر في رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97]. ثم دله الله تعالى على علاج ذلك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 98، 99].

وكان هدف المشركين في هذا الأسلوب “تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية؛ إذ رموا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بتهم هازلة وشتائم وعبارات سفيهة”.

كذلك كان من بين الأهداف محاولة تشويه صورة رسول الله في نظر الناس؛ لئلا يؤمنوا به أو يسمعوا له.

وفي عصرنا الحاضر نجد هذا نفس الأسلوب يتجدد ولكن بطرق وأدوات أخرى، وأهمها وسائل الإعلام الغربية، كالرسوم الدنماركية المسيئة لرسول الله في سنة 2005م، والفيلم الأمريكي المسيء للرسول في 2012م.. وغيرها كثير.

– الإشاعات والافتراءات:
بعد أن أدركت قريش قوة الإسلام خافت من انتشاره أكثر في مكة وخارجها؛ فاستخدمت أسلوب الدعاية المضادة بحملات تشويه وافتراء وأكاذيب وترويج إشاعات ضد الدعوة المحمدية.

وقد سجل القرآن الكريم جملة من هذه الافتراءات والإشاعات، ومن ذلك:
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5].

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 4، 5].

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51].

– تمزيق وتفكيك صف المسلمين:
هذا الأسلوب “من أساليب الحرب النفسية الفاعلة؛ حيث يترك أثره السيء على نفسية المستهدف منها؛ فتهتز عقيدته وتنقطع لديه مشاعر الانتماء إلى مجتمعه؛ فيسهل اختراقه وتحقيق النصر عليه في الحرب”.

وقد عمل اليهود – في العهد النبوي – على ذلك لتحقيق هذه الغاية، ومن ذلك محاولة اليهودي شاس بن قيس إعادة الخلاف بين الأوس والخزرج.
ولم يترك القرآن الكريم هذا الحادث من دون تسجيل فنزل قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].

وسائل الحرب الإعلامية المعاصرة:
وزادت خطورة هذا الأسلوب مع مرور الزمن، واتساع رقعة الإسلام، وتطور أساليب الحرب النفسية، خصوصاً في ظل ضعف الوازع الديني وتراجع الالتزام الشرعي في المجتمعات الإسلامية.

وفي عصرنا الحاضر أصبحت وسائل الإعلام أهم أداة سياسية استُخدمت لبث الهزيمة النفسية وخلخلة صفوف المسلمين، عبر تغذية الصراعات والنزاعات القائمة في العالم الإسلامي، وإثارة الأسباب المؤدية إلى الخلاف والصراع، ومحاولة منع وقوع أي تقارب أو تصالح قد يحدث بين أطراف إسلامية متصارعة.

وأبرز مثال على ذلك محاولة إحباط أي تصالح وتقارب فلسطيني داخلي، وعلى وجه التحديد بين حركتي فتح وحماس.

وفي الحالة العربية المزرية مثَلُ السوْء في تفكك المجتمعات، ونموذج سيء لنتائج الحرب النفسية المدمرة.

فخطاب العولمة والنيوليبرالية والخصخصة أصبح متغلغلاً في الخطاب السياسي العربي وفي البنية العربية، وهي إحدى أدوات الهجمة الإعلامية الصهيونية على العرب والمسلمين؛ لأنها تؤدي إلى التفكيك، وتدمير الانتماء إلى الأمة والتراث، محولة الولاء للسوق العالمية، ولأنها تساهم في خلق هوية تاريخية وهمية على أنقاض هوية تاريخية فعلية، حسب ما ذكرته صحيفة (البيان) الإماراتية.

كذلك أصبح الإعلام العربي خاضعاً لسيطرة الخطاب الإعلامي والثقافي والتغلغل الصهيوني، ابتداء من خلق حالة من اللاانتماء إلى التحييد والتجهيل والإلهاء، وصولاً إلى كسر الحواجز النفسية مع العدو الصهيوني.

وما قضية (التطبيع) إلا واحدة من أدوات تمزيق صفوف المسلمين، وذلك عبر إيجاد أطراف تؤيد وجود إسرائيل، وتدعو إلى التطبيع معها، وتقف وجه من يعاديها.

كذلك شيوع المصطلحات التضليلية على نمط “الشرق الأوسط” بدلاً من الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، ومصطلح “عرب إسرائيل”، أو “شعوب المنطقة”، ومثل طرح قضايا جانبية كحوار الأديان أو تشويه الرموز الوطنية والتي تعد جزءاً من الاختراق الإعلامي.

وقد توصل الباحثون إلى دراسة وسائل الحرب الإعلامية المعاصرة، ومن هذه الوسائل:
– تعظيم قدرات العدو وتعظيم قوة أصدقاء العدو، حيث لابد من إرهابنا وتخويفنا.

– تهويل خسائرنا، وتخفيف قيمة انتصاراتنا.

– الخوض في التفاصيل غير المهمة من أجل تفريغ الخبر المهم، وتشتيت الاهتمام عن طريق طرح قضايا جانبية.

ـ الهجوم الشرس على المفاهيم والقيم.

ـ الأخبار الكاذبة وتشويه الحقائق وتشويه الأخبار وتفريغها من محتواها.

ـ تشويه مفاهيم حقوق الإنسان، وحماية الفساد والمفسدين.

أما وسائل التأثير المستخدمة فهي:
ـ التكرار.

ـ النخر المستمر.

ـ الإرهاق الجسدي باستمرار العرض والتشويق والإغراءات الجسدية.

ـ المصطلحات وتثبيت جزء منها في استخدامنا حتى تؤثر فينا، ومنها:
* الإرهاب حيث النضال يسمى إرهاباً.

* السلام العادل والشامل اللذان ليس لهما وجود.

* إسرائيل، الشرق الأوسط، حدود 67، عرب إسرائيل، دول الجوار، شعوب المنطقة، الأرض مقابل السلام، جيش الدفاع الإسرائيلي، الحمائم والصقور، بلد الأديان الثلاث.

هذه كلها مصطلحات يحاولون التأثير بها علينا وعلى عقولنا بجعلها أمراً واقعاً، وهي أخطر أساليب الإعلام الصهيونية.

فالإعلام الصهيوني يلعب دوراً موازياً للدور العسكري الذي يضطلع به الكيان إن لم يكن أكثر فاعلية، وأشد خطورة، ويجري تسويق حجج رئيسة خاصة على الصعيد العربي، لمبررات قيام الكيان الصهيوني.

فدينياً يجري التركيز على “الوعد الإلهي”.

وتاريخياً يجري التركيز على الوجود اليهودي القديم في البلاد.

وقانونياً تتمحور هذه الدعاية حول تصريح بلفور، وصك الانتداب لقرار التقسيم.

وإنسانياً تتمحور حول الملجأ الآمن لليهود ووضع حد لشتاتهم.

وإنشائياً يجري التركيز على الحضارة المتفوقة للكيان، ومكاسب العرب من الاستعمار اليهودي.

وتقريرياً يجري تسويق سياسة الأمر الواقع والإشادة بحالاتٍ من الرضا العربي، أو لنقُل التسليم العربي بالأمر الواقع تحت يافطة العقلانية.

الهدم الأخلاقي
يظهر من واقع الأمة الإسلامية المعاصر أن الخطر الإعلامي الأكبر حالياً يتمثل في تدمير القيم والأخلاق الإسلامية، وجر أبناء الأمة – خصوصاً شبابها – إلى مستنقعات الشهوات ومعتقلات الفساد الأخلاقي؛ فيصبح المسلم أسير شهواته، عاجزاً عن القيام بواجباته تجاه أمته، وضعيفاً في مواجهة الصعاب والشدائد. فالانهزامية النفسية تشمل كل التداعيات السلبية الناتجة عن الانحرافات الأخلاقية والسلوكية.

وبعد أن أدرك أعداء الأمة أن القضاء على الإسلام أمر يستحيل تحقيقه؛ لجؤوا إلى وسيلة أشبه بحرب استنزاف تقوم على أساس إبعاد المسلم تدريجياً عن مبادئ دينه وقيمه وأخلاقه، حتى تصبح روحه خاوية على عروشها وحياته خالية من مفاهيم الشرع وضوابطه.. وهذا ما قصده أحدهم بقوله: “كأس وغانية تعملان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع”.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن ثمة مخاطر عظيمةً هائلةً تواجه المسلم اليوم وخصوصاً الشباب، وأبرزها: الغزو الثقافي والفكري لشباب الأمة؛ مِن أجل إغراقها في وحَل الثقافة الغربية الزائفة، وفَتنها بمظاهر الحياة المادية التي تقوم على إشباع حياة الجسد والبدن دون أدنى مراعاة لحياة القلب والروح..”.

وقال: “ومن هذه المخاطر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي ظهرت ويظهر الجديدُ منها في كل يوم، من القنوات الفضائية، وشبكات الإنترنت، وهواتف التصوير وغيرها من الوسائل التي غزت معظم البيوت، حتى لا يكاد يسلم منها أحد، بما فيها من شر ومنكر، وضرر وإضرار، وعري وفساد، وذلك من خلال إساءة استخدامها، وإخراجها من دائرة، وتحويلها من وسيلة توعية أخلاقية إلى وسيلة هدم للنفوس والعقول والأبدان”.

قد أورد أستاذ المذاهب المعاصرة بجامعة الملك سعود – الدكتور فهد بن عبد العزيز السنيدي – بعض الإحصاءات عن عدد الفضائيات الموجهة للمشاهد العربي، مستنداً إلى تقرير من الاستخبارات الأمريكية (CIA) التي أشارت إلى وجود 13 ألف قناة في العالم، منها 7500 قناة مشفرة، و5500 مجانية، وفي العالم العربي 696 قناة تبث من 17 قمراً صناعياً، يشاهدها أكثر من 150 مليون مشاهد للقنوات المفتوحة، بينما 42 مليون للمشفرة، وبيّن أنه من ضمن القنوات الموجهة لنا 112 قناة فاضحة باللهجات العربية.

والأخطر من ذلك أن عملية هذا التدمير تتم بشكل واسع من داخل العالم الإسلامي.. ويكفي أن ننظر إلى الإعلام العربي – خصوصاً الفضائيات – لندرك حجم الدور الهائل الذي يقوم به في إفساد المجتمعات العربية المسلمة.

بل إن ما تقوم به الفضائيات العربية هو أشد خطورة وتأثيراً من الإعلام الغربي؛ وذلك لسببين رئيسيين، هما: أن الإعلام العربي يخاطب المجتمعات العربية بلغتها بل وبلهجاتها. ويكمن السبب الثاني في جزءاً كبيراً مما تعرضه الفضائيات العربية مصدره المجتمع الداخلي للمشاهد. إضافة إلى ترويج شتى صنوف فساد المجتمعات الغربية في أوساط المسلمين.

وتأكيداً لذلك نشر موقع ويكيليكس في أواخر عام 2010م تقريراً دبلوماسياً أمريكيا جاء فيه أن القنوات الفضائية العربية التي تعرض برامج ومسلسلات درامية أمريكية تخدم المصالح الأمريكية أكثر من الإعلام الأمريكي، وتحدث تأثيراً أكثر من قناة (الحرة) التي كلفت دافع الضرائب الأمريكي 500 مليون دولار.

ونقل التقرير عن مسؤولين إعلاميين عرب قولهم إن البرامج الأمريكية في بعض الفضائيات تعمل على كسب العربي بطريقة لم تتمكن فيها الحرة وغيرها من الدعاية الأمريكية عمل ذلك.

وبحسب ما نشرته جريدة (البيان) الإماراتية – في 2002م – فإن ترويج الفاحشة وإشاعة وتسويغ الانحلال الاجتماعي أصبح يحتل 98% من التلفزيونات العربية.

إذاً، فقد أصبح الإعلام العربي المنحرف شيطاناً يجري من ابن آدم مجرى الدم، ووباءً ينتشر في جسد الأمة، ومعولاً يفتت أساساتها المتمثلة بشبابها؛ ويجعلهم كأعجاز نخل خاوية لا ثمرة ترجى منه.

وكيف نتوقع من شباب أصبح أسيراً في معتقلات الشهوات والأهواء وثقافة الأعداء أن يدافع عن دينه وأمته؟!.

الخلاصة:
ما سبق قوله ليس إلا غيض من فيض واسع، وما هو إلا لمحة مبسطة لواقع أشد بؤساً ومرارةً.

وأمام هذا الوضع تحدث العلماء والخبراء عن الكثير من وسائل التداوي من هذا الداء العضال، ومواجهة هذه الحرب الضروس، ومن أهم وسائل وطرق العلاج:
– تشخيص المرض من خلال الإدراك بأن هناك هزيمة نفسية، وسببها الأساسي البعد عن شرع الله.

– الإيمان والصبر والتقوى، يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].

– التربية على الإيمان الصحيح عقيدة وفكراً وسلوكاً؛ فالعقيدة الصحيحة تعطي المسلم القوة والاستقلالية.

– الابتعاد عن التعلق بالدنيا، والارتباط بالآخرة التي تجعل المسلم قوياً عزيزاً.

– دراسة التاريخ دراسة جيدة، ليس لغرض التسلية بل للعبرة.

– الابتعاد عن التشاؤم والمتشائمين، وأن نعلم أن المستقبل لهذا الدين بوعد الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

– تصحيح وضع الإعلام العربي، ودعم البديل الإسلامي البناء؛ ليكون قوة إعلامية قادرة على مواجهة ذلك الخطر، والدفاع عن القيم والمبادئ الإسلامية الصحيحة.

ـــــــــ
المصادر:
– (وظيفة الإخبار في سورة الأنعام) (رسالة دكتوراه مقدمة لكلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض) – الدكتور سيد محمد ساداتي الشنقيطي، الطبعة الأولى 1418/ 1997م، مركز الدراسات والإعلام/ دار إشبيليا.
– (المسرح الإعلامي للحرب الأمريكية على العراق)، إبراهيم غرايبة، (الجزيرة نت).
– (الخداع الإعلامي.. المنظم للتلاعب بالرأي العام)، مجلة (المجلة) 18 أبريل 2005م.
– (الهزيمة النفسية عند المسلمين)، د. عبد الله الخاطر، سلسلة (كتاب المنتدى)، بتصرف.
– (الحرب النفسية.. مفاهيم إعلامية وأحكام فقهية)، عبد الهادي محمود الزيدي، مركز البصيرة للبحوث والتطوير الإعلامي. الطبعة الأولى 1430/ 2010م، بتصرف.
– (إرهاب الإعلام الصهيوني وطمس الحقائق)، صحيفة (البيان) الإماراتية (10/7/2002م).
– عندما تذهب وسائل الإعلام إلى الحرب، أنتوني ديماغيو، عرض وترجمة: محمد ابراهيم فقيري 26/05/2010