سلسلة تغيير العادات (5) – أكل ميراث البنات وحرمانهن
الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 21/ ذو القعدة/1436هـ
الموافق: 4/ أيلول/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 39 دقيقة
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى:
1- وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
2- لا مِنَّة لأحدٍ عليهنَّ في فرض الله لهنَّ
3- لا نعطي من الأرض إلا لمن زرع وفلح ؟!!!
4- بين نارين
5- الصلاة وميراث النساء في سورةٍ واحدة، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض!!
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
6- آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً
7- إِنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث
8- إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ …
9- فلا الابنَ يشكرُ، ولا البنت المظلومة المحرومة تغفِر
10- مَنْ ظَلَمَ قيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ ..
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، الأحدُ الصمد الذي لم يلِد ولم يولد وزلم يكن له كفوًا أحد، شهادةَ من طهَّرَ بالتوحيدِ قلبه، وأرضى بها ربَّه، وَنَشْهَدُ أَنَّ نبيَّنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وصفيِّهُ وخليلُه، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فبلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمَّةَ، وكشفَ الله به الغُمَّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن سارَ على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمّا بعد عباد الله:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2))(النساء:1-2)
إخوة الإيمان والعقيدة:
لقاؤنا يتجدّد بكم مع سِلسة التغيير والبناء، ونحن نتحدَّث عن عادات الجاهليَّة التي غزت مجتمعنا المسلم، حتى غدى واجبًا على كلٍّ منّا – حتى غدى واجبًا على كلِّ من يريد أن يتغيَّر حالُنا – أن يسعى لمحاربتها وتغييرها، نتوقف اليوم مع مشكلة اجتماعية، ومعصية للأوامر الإلهية، عادةٌ جاهلية كانت وما زالت موجودةً في مجتمعنا، ألا وهي أكل ميراث البنات وحِرمان النساء من ميراثهنَّ فيما ترك آباؤهنَّ وأزواجهنَّ وإخوانهنّ وأقرباؤهن.
أكل ميراثِ المُستضعَفات !! تلك البنات والنساء اللواتي قال الله في حقِّهنَّ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء:7)
نصيبًا مفروضًا !!!
من فرضهُ ؟ من حدَّدهُ ؟ مَن بيَّنَهُ ؟
فرضه ربُّ السماوات والأرض، فرضه من فرض الصلاة وفرض الزكاة وفرض الحجّ، فبيَّن أنَّ للبنات والنساء نصيبًا مفروضًا من ميراث آباؤهنَّ وأزواجهنَّ وإخوانهنّ وأقرباؤهن مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا.
فالذي فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج فرض للنساء نصيبًا مفروضًا هو مالُهنَّ ليس لأحدٍ عليهنَّ به مِنَّةٌ؛ ولا تَبِعة، لا لأخٍ ولا لعمٍّ ولا لابن عم؛ لكي لا يظُنَّ ظانٌّ أنَّه يُحسن إليهنَّ كرمًا وتطوُّعًا، فهذا فرضهنَّ الذي فرض الله لهنَّ، قال تعالى في حقِّ الزوجات ﴿ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
كذلك جعل اللهُ للبنات نصيباً من ميراث آبائهن، فقال تعالى: ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ …)) (النساء:11)
هذا هو دين الإسلام الذي أنصف المرأة فأعطاها نصيبها من الميراثِ نصيبًا مفروضًا لا تبِعة لأحدٍ ولا مِنَّة عليها فيه…. هذا دين الإسلام دينُ العدلِ دينُ الحقِّ دينُ الإنسانيَّة، الدينُ الذي قال نبيُّه، هادي البشرية، ومحطم الوثنية، نبي الإنسانية: “النِّسَاءُ شَقائقُ الرجال”. [أخرجه الترمذي وأبو داود]. وشِقُّ الشيء نظيرُه، [تقولُ قسمتُ التمرة شِقَّين] وهذا مفاد قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:228) درَجة القوامة بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفق الرجال من أموالهم…
أفيُعقل إخوة الإسلام، أيُعقَلُ أيُّها المسلِمون أن نرى من المسلمين من يعدِل عن شرعِ الله المُحكم ويستمرئ الظلم؟!
أيُعقل أن يغدو الظُلم عُرفا بين النّاس!!؟
تنصحهم فيقول لك قائلهم: عُرفُنا أنّنا لا نورث النساء؟؟
في بعض القرى لا يقسمون التركة وبالذات الأرض للإناث!!
أي عُرفٍ هذا إن صادم شرع الله ؟! وأيُّ حُكمٍ هذا إن خالف حُكمَ الله؟
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (المائدة:47)
أمَّا والعياذ بالله إن اعتقد بعضُهم أو ظنَّ ظانُّهم أنّ أعرافهم الجاهلية في تقسيمِ الميراث خيرٌ وأفضل من شرع الله، وحكمه وفرائضه فذاك ممن قال الله فيهم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لأنَّهم اعتقدوا أنَّ غير شرعِ الله أحكم وأفضلُ من شرع الله المُحكم….
فأولئك الظالمون الفاسقون حرموا البنات فرضهنَّ … ظلموهنَّ وحرموهنَّ حقوقهن، تعمل البنت مع أمِّها في خدمة إخوانها ثم تتزوج فتخدم زوجها وبنيها ثمَّ بعد ذلك تُظلم وتُحرم حقِّها، يأتي من يظلمها حقَّها !!
يأتي الفاسق الفاجر الذي يصوم ويُصلِّي ويحرِم أخواته مما فرض الله لهنَّ، يحرِمهُنَّ من حقِّهِن في مال أبيهنَّ – أرضًا كانت أو عقارًا أو أي شيء ممَّا قلَّ منه أو كثر- يحرمهنَّ أو يعطيهنَّ بهواه وكأنَّه يعطي من ماله! وكأنَّهُ يتصدَّقُ عليهِنَّ وكأنَّه يمُنُّ عليهنّ، والله تعالى يقول: (( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا))(النساء: 7)
وقد رَوَى الْوَاحِدِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ، في أسباب نزول هذه الآية عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ مَا حَاصِلُهُ: أنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ – رضي الله عنه – تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُحَّةٍ وله منها بنات، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَتْ: «إِنَّ زَوْجِي قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهَاتَانِ بِنْتَاهُ وَقَدِ اسْتَوْفَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا [على ما كان من عادات الجاهلية وأعرافِها] فَمَا تَرَى يَا رَسُول الله؟ فو اللَّهِ مَا تُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ». فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ [نزلت فبيَّنت حقَّ النساء ووضحت نصيب الورثة] قال القرطبي في تفسيره: “لمّا توفي أوس بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه – وترك امرأة يُقال لها أم ُ كحّة وثلاث بنات له منها, قام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة, فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئاً, وكانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا يورِّثون الصغير وإن كان ذكراً ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة, [ومثل حالهم في زماننا من يقول لا يُعطى من الأرض إلَّا من زرع وفلح وعمل فيها وينسى ذلك أنَّه عمل بما أكَلَ وشرِب؟! وأنَّ الأرض كانت ملك لصاحبها وهي حقٌّ لورثته بعد موته فرض فيه الله فروضًا وبيَّن فيه حقوقًا فليس لأحدٍ أن يقضي فيها بهواه]
فذكرت أم كُحة [تشتكي] ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعاهما, فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً, ولا يحمِل كلًّا, ولا ينكأ عدواً.[لأنّهن بنات لا يقدرن ذلك] فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهنّ، فأنزل الله هذه الآية ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)) رداً عليهم وإبطالا ً لقولهم وتسفيهًا لجهلهم وجاهليَّتهم, فأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يُبيِّن كم هو حتى أنظر ما يُنزل ربّنا, فنزل قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ …) إلى قوله تعالى بعدها من سورة النساء (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
فأرسل إليهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:” أن أعطيا أمَّ كُحة الثُمُنَ ممّا ترك أوس ولبناته الثلثين ولكما بقية المال”.)انتهى تفسير القرطبي رحمه الله)
نزلت الآيات تبطل جهل الجاهلية، وتُثبتُ حقَّ النساء والبنات، هذا هو شرع الله وهذا هو إسلام العدل والإحسان، هذا حُكمُ الحكَمِ العدلِ سبحانه.
فأين نحن من التزام أمر الله وشرعه؟! وأين نحن من التزامِ أوامر الله؟ أين نحن مِن هذا وقد شاع خلافه في الكثير من قرانا ومُدننا، شاعت عادةُ الجاهليَّةِ الأولى، بل غدت عند بعضهم عُرفا، حتى أنَّ كثيرًا منهم يقول لك أخواتي لم يطالبن بحصَّتهنَّ لأنّهنَّ يعرِفن العُرف، ألا لعنةُ الله على عُرفٍ يُخالف شرع الله…
كيف ستطالب المسكينة المحرومة بحقِّها وقد وجدت نفسها واقعة بين نارين: نار عداوةِ إخوانها أو أعمامها إن هي طالبت بميراثها، أو نارُ السكوت عن حقِّها وفقدها لمالها ولميراثِها الذي فرضه الله لها من فوق سبع سماوات، فتراها تقاسي الظلم والحسرة ولا حيلة لها إلا بالدعاء لله عز وجل.
وظُلم ذوي القربى أشدُّ مرارةً على النفس من وقعِ الحسامِ المُهنَّدِ
أولئك الأقرباء من الإخوة والأعمام الذين يغلبهم شحُّهم وجشعهم وطمعهم أولئك الذين يأكلون التراث أكلًا لمًّا ويحبُّون المال حبًّا جمًّا، يقولون كيف لنا أن نعطي أخواتنا من أرض أبيهنَّ لتعطي زوجها وأولادها فيذهب المال للغريب!!
وكأنَّ ذنب تلك المسكينة أنَّ الله خلقها أنثى؟! وكأنَّ ذنبها أنَّها تزوجت على كتاب الله وسنَّة رسول الله برجلٍ يحمي شرفها ويحفَظُ عِرضها ؟!
والله لا ذنب لتلك المسكينة ولكنَّ الله ابتلاها بإخوةٍ جشعين شحيين يُحبُّون المال حبًا جمًّا، طمَّاعين يحبّون المال، يرون أباهم وقد وسِّد تحت الثرى فلا يتَّعِظون ولا يعتَبِرون بل هم بحال أهل الشرك والجاهلية يتأَسَّون، وكأنَّهم أعلم بمصلحة العباد من ربِّهم، لسان حالهم وخلاصة فعالهم اعتراضٌ على حُكم الله ورفضٌ لما قَسم سواءً كانوا إخوةً أم آباءً يحرمون بناتهم، ولعلّ من المصائب الخطيرة في هذا الباب أن ترى بعض الآباء يقسم ماله على حياته بين أبنائه الذكور ويحرم بناته من ميراثه وكأنهنَّ لسن مِن صُلبِه !! …. وترى مِن أولئك الجهلة مَن يصوم ويصلّي …
أما علِم أولئك أنَّ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء:103)) هو في سورة النساء التي قال الله فيها (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(النساء:11)
هذه وتِلك في نفسِ السورة (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة:85)
ما الله بغافلٍ عمَّا يعمل أولئك المجرمون أولئك الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، طبَّقوا آيةً وعطَّلوا أُخرى، عرَفوا وجحدوا، صلُّوا وظلموا، وزكوا وبخِلوا، وصاموا ثم لأموال الأيتام أكلوا، حجُّوا ثم لحقوق أخواتهم جحدوا، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (( اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيمَ وَالمَرْأةِ )) [حديث حسن رواه النسائي بإسناد جيد].
أي أضيِّقُه وأحرِّمه، حقُّ الضعيفين اليتيم، والمرأة، أحرِّجُ عليك يا رب بأن تشدِّد العذاب على من ظلمهما وأن لا تغفر له، ذاك الذي أكل حقَّ الضعيفين اللذان لا يقدران بل في بعض العائلات لا يتجرأ يتيمٌ أو امرأة على المطالبة بحقوقهما… وكيف تطالب البنت بحقّها، وهي ستُزجرُ من أهلها، وستخاصَمُ مِن إخوانها ولن يبقى لها سندٌ وظهرٌ أمام قومها، فتسكت عن معصية إخوانها لربهم وعلى ظلمهم لأختهم والله تعالى يقول خاتمًا آيات الميراث (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ )(النساء:14)
يعصي الله ورسوله فيم؟؟ ويتعدَّ حدوده فيم؟؟
يعصي الله في أكل حقوق الورثة ويتعدَّ حدَّ الله الذي حدَّه فذاكَ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
اللهم لا تجعلنا مِنهم ولا تحشُرنا معهم.
اللهم إنّا نسألك رضاك والجنَّة ونعوذ بك من سخطك ومن النَّار.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.
أمَّا بعدُ إخوة الإيمان:
يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ﴿ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾
آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يامن تخالف شرع الله، يا من لا تعدل في القسمة بين بنيك، يامن تحرم البنات وتعطي البنين، الله تعالى يقول لك: آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.
فكم من ولد هجر أباه الذي أعطاه وأطاع زوجته وعقَّ والديه، وكم من مسكينة محرومةٍ حنونةٍ عطوفةٍ رفيقةٍ رَعت والديها وحملت كِبَرهما واعتنت بشيخوختهما، وكم أبٍ جاهلٍ جاحِد عصى ربَّه بحجّة أنه يعطي ماله على حياته كما يشاء، فيعطي الأبناء وقد يرمونه في دار العجزة، وقد يحرم البنات العطوفات الحنونات ثمّ يحملن شيخوخته وينفقن عليه ويرعينه ويحمِلن شيخوخته، كم من أولئك الذين يتوهَّمون أنهم يوزعون مالهم كما شاؤوا، ولعلّ بعضهم لم يسمع قصَّة النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – إذ قال ((تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – [تحرَّك ضمير المرأة المسلمة، فطلبت أن يشهد رسول الله على عطاء البشير لابنه النعمان، فإن كان خيرًا أمضاه وثبت له العطاء فيُحفظُ حقُّ الولد بشهادة النبي- صلى الله عليه وسلم -، وإن كان باطِلًأ ينهى عنه رسول لله – صلى الله عليه وسلم -، يقول النعمان:] فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: “أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ؟” قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ” [متفق عليه ]
وفي روايةِ مُسلِم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (( أَلَكَ بَنُونَ سِوَاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ هَذَا ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )) لا أشهد على ظلمٍ وحَيف تشهدني عليه، تخصُّ ولدًا وتحرِمُ إخوانه…
والله إخوة الإيمان إنّ الذي يقسم المال بين بنيه بغير عدلٍ بينهم ولا إحسان والله إنّما يظلم ذلك نفسه قبل أن يظلِم أولاده، يظلم نفسه عندما يتوهّم بأنّه سيأتي بأفضل من شرع الله وأعدَل مما قسَم الله، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إِنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث”. أخرجه الترمذي، والنسائي.
لا تجتهد كثيرًا ولا تتعب نفسك في التقسيم للورثة، فالله تعالى أعطى كلّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث، وشرع الله خيرٌ وأحكم، وكذلك شأن من يقسم ماله قبل موته فيعطي البعض ويضرُّ بالآخرين، فما مثاله إلَّا كمثل من ذكرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي يرويه أَبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عن رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يقَول: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ، [أي يُختم لهما بسوء عملهما هذا] ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [غَيْرَ مُضَارٍّ : شرطٌ في الوصيَّة أن لا تكون بنيَّةِ الإضرار لتحرمَ فلانًا أو فلان] ، إِلَى قَوْلِهِ، {ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}. [أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب]
ذاك المسكين الذي يضارُّ في الوصيَّة يعملُ الصالِحات ثُمَّ يختم عمره بمعصية الله حيث لا ناصحَ ينصحُ؛ ولا زاجرَ يزجر،.. فيقسِمُ قسمةً ضيزى، والابن يأكلُ ما ليس له، ثم يقول: قد باء والدي بالذنب! وليت شعري ! ليته يعلمُ أنَّ الإثم قد تحّملاه معًا كلاهما، ويموت الأبُ الذي لم يعدلْ؛ فلا الابنَ يشكرُ، ولا البنت المظلومة المحرومة تغفر. . الابن فوق الأرض حيًا يتقلَّبُ في نعمةٍ ليست له، والأب تحت الأرض ميتًا يُحاسَب عليها، والبنت المظلومة بين هذا وذاك، تدعو على الأوَّلِ والثاني، أو في أقل الأحوال تحمل وتكتم همَّها وظلمها ليوم الحساب “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”
فيأتي من أخذ أرض أخته أو مالها وقد طوِّقه من سبع أراضين ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (( مَنْ ظَلَمَ قيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سبْعِ أرَضينَ )) [مُتَّفَقٌ عَلَيهِ] أتسمع يا من أكلت حقّ أخواتِك من أرض أبيهن بحجَّة أن عرف قريتكم أنَّكم لا تعطون البنات من الأرض … والله ستطوّقُ ما غصَبتَ – يومَ القيامة – من سبع أراضين ستأتي ذلك اليوم ولن تشفع لك صلاتك ولا صومك ولا حجُّك !!
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أخبرنا أنَّ الشهيد الذي ضحى بروحه وبذلها في سبيل الله وقُتِل مقبلًا غير مُدبِر تُغفرُ له كلُّ خطاياه إلّا الدَين (والدَين مالٌ حلالٌ أخذه بطيب نفس صاحبه)
لأن حقوق العبادِ مبنيَّةٌ على المُشاحَّة لا تُغفرُ إلا بعودة الحقِّ لصاحبِهِ أو بعفوه عن طيبِ نفس وإلّا فلا عفو ولا مغفرة…
فكيف بمن أكل الحرام؟ وكيف بمن حَرَم من فرضَ لهنَّ الله فرضًا؟ كيف بمن يعيش من المال الحرام؟! وكيف بمن يتأسى بمشركي الجاهلية فيظلم البنات ويكرَهُهنَّ؟! ويسيء معاملَتهنّ (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل:58)
أين سيذهب ذلك بوجهه أمام الله؟!
أين سيذهب ذاك الذي تبدَّل الخبيث بالطيِّب؟!
أين سيذهب بالمالِ الحرامِ الذي أكله؟!
أين سيذهب بأموال اليتامى ؟!
(وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) (النساء:2)
إِنَّهُ كَانَ ذنبًا عظيما وإثمًا مُبينا
اللهم لا تجعلنا منهم ولا تحشرنا معهم
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، أحينا يا ربَّنا حياة السعداء، وأمتنا ميتة الشهداء، اللهم ارزقنا الاستقامة والصبر والرضى بما قسمت لنا
اللهم احفظ عوراتِنا وآمن روعاتنا
إني داعٍ فأمِّنوا