#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
ماذا بعد رمضان؟
التاريخ: 3/ شوال/1437هـ
الموافق: 8/ تموز/2016م
من أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 24 دقيقة
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1- وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا
2- عمل المُسلِم لا يتوقَّف ولا ينقطع إلَّا بالموت
3- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
4- وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
5- حالنا بعد رمضان مع الصلاة والصيام والصدقة والقيام
6- يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا
7- حالنا بعد العيد مع صلة الأرحام وبرِّ الوالدين
🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
8- إنّ هذا الدين يسرٌ.
9- أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلّ.
10- صيام أيام شوَّال الستة وما يتعلَّق بها.
رابط الخطبة على الفيسبوك
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ نبيّنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وصفيِّه وخليله، أَرْسَلَهُ ربُّه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرِّ المُحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعد إخوة الإيمان، يقول الله تعالى ضاربًا لنا مثلًا بليغًلا والله تعالى أحكم القائلين: (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا …)) (النحل:92)
مثلٌ بليغٌ وتشبيهٌ خطير، يبيِّن الله لنا فيه حال من أضاع جُهده وأبطل عمله فجعله هباءً منثورا بعد أن بذل فيه الوقت والجهد، فما أشبه صنيعه بصنيع تِلك الغزَّالة التي تعبت في إحكام غزلها، وفي شدِّ خيطانها، فلمَّا انتهت ما لبثت أن قطَّعت غزلها، ما لبِثت أن أبطلت عملها وأضاعت جهدها وتعبها هباءً منثورًا، أيُّ جهلٍ هذا ؟! أيُّ سفهٍ هذا؟! بل أيُّ جنونٍ هذا ؟!!
ولعل هذا الذي نذكره – أيُّها الأحبة – ينطبِقُ مِثلًا على حالِ كثيرٍ ممَّن صام رمضان عادةً مِنَ العادات، لم يعي معناها، ولم يتطور مستفيدًا من مدرستها، صلَّى وصام وقام قرأ القرآن ولهِج إلى الله بطيب الدعوات في رمضان، فإذا به من بعد رمضان ينقض غزله من بعد قوةٍ أنكاثًا، وكأنَّه مطالبٌ بالعمل والطاعةِ للهِ في رمضان وحده، يجهل ذلك المُسرف أنَّ المؤمن لا ينقضي عمله حتَّى ينقضي أجله، فهذا خطاب الله لنبيِّه ومُصطفاه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحِجر:99]، أي حتَّى يأتيك الموت، خطابٌ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – الذي غَفر الله له ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخَّر، فما بالنا بمن هو دونه صلواتُ ربِّي وسلامه عليه، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، حتى يأتيك الموت، فعمل المُسلِم وجهده وبذله في طريق الجنَّة في طريق مرضاة الله وطاعته، دائمٌ مستمرٌ لا يتوقَّف لا ينقطع إلَّا بالموت، بل إنَّ الصالحين المصلحين يتركون لأنفسهم لما بعد الموت حتَّى، ما يكون لهم ذُخرًا جاريًا بالحسناتِ لهم.
لذلك فالمؤمنون أيُّها الأحبَّة يزداد عملهم بعد مواسم الطاعات، تلك المواسم التي شرعها الله لنا، لتكون أشبه بدورةٍ مكثَّفة يتعاون فيها أبناء المجتمع، لتحصيلِ جُرعةٍ إيمانيَّةٍ قويَّة تغسل صدأ القلوب، وتعين على الاستمرار والطاعة سائر العام.
جُرعةٌ إيمانية، جُرعةٌ ربَّانيَّة، جرعةٌ حصَّلها المؤمنون في رمضان، حين صُفِّدت الشياطين، حين غُلِّقت أبواب النيران حينَ فُتِّحت أبواب الجنان، تلك الجرعة الإيمانية التي تدفع المؤمن للاستمرار والعمل والاجتهاد والجهادِ سائرَ العامِ مرضاةً لله…
كيف لا ؟! وقلوب المؤمنين معلَّقةٌ بين الخوف والرجاء، يُتبِعون السيِّئة الحسنة ليُغفَر لهم، ويُتبعون الحسنة الحسنة رجاء أن يُقبل منهم، وفي الحديث الذي رواه الترمذي، عن أمِّ المؤمنين عائشةَ الصدِّيقة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: ٦٠]، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟؟
[تظنُّ أم المؤمنين أنَّ أولئك الذين يعملون الطاعات ويخشون أن لا يقبل الله منهم … تظنهم أنَّهم الذين يجمعون السيِّئات العظيمة مع الأفعال الحسنة، فصلُّوا وصاموا وشربوا الخمر وسرقوا ، ظنتهم أنَّهم هم الذين يخافون أن لا يقبل الله منهم ما قدَّموا من صالِح فعالِهم، فتسألُ النبيَّ عنهم مُستفسِرةً، فيُجيبها صلواتُ ربّي وسلامه عليه:] “لا يا بنت الصِّديق، ولكنَّهم الذين يَصومون ويُصلُّون ويَتصدَّقون وهم يخافون أن لا يُقبل منهم، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: ٦1]
أولئك أيها السادة هم المؤمنون الذين تعلَّقت قلوبهم بين الخوفِ والرجاء، أولئك الذين أيقنوا بأنَّ العِبرة بالقَبول من الله، فكم من عاملٍ لم يُقبل عمله، وكم من مجتهدٍ ليس له من اجتهاده إلّا التَّعب، وكم من متظاهرٍ بالإحسان خُتِم له بشرِّ ختامٍ والعياذُ بالله …
فالله الله أيُّها المُسلم، الله الله فيما بذلت من جهدٍ، لا تُضيِّع تعبك، ولتعي أنَّ عباداتِك إن كانت مجرَّد عاداتٍ في رمضان فإنَّ رمضان قد انقضى، وإن كنت تعبد الله وحده فالله حيٌّ باقٍ لا يموت، لا يزول ولا يحول، فوالله إنَّ المساجد لن تُغلقَ بعد رمضان، والله إنَّ المصاحف لن تُمحى بعد مضان، والله إنَّ الفقراء لايزالون محتاجين لإحسان المحسنين بعد رمضان، طاعاتٌ وأبوابٌ للخير لم ولن تُغلق بعد رمضان، أبواب قَبول الدعاء وإجابته مفتوحةٌ لن تُغلق بعد رمضان، أفلا تكون أخا الإيمان عبدًا شكورًا،
أفلا تكون ممَّن يُتبِعُ الحسنة الحسنة، أفلا تكون ممَّن يُحافظ على ما كسب ويطلِبُ المزيد، أفلا تكون من المؤمنين الحريصين الذين لا يُبطِلون أعمالهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:33]، لا تُبطِلوا صيامكم لا تُبطِلوا صلاتكم، لا تُبطِلوا قيامكم ، لا تُبطِلوا صدقاتِكم بهجر الطاعات بعد رمضان، لا تُبطلوا أعمالكم بإضاعة الصلاة والله يأمُرنا بها سائر حياتنا، قائلًا: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].
لا تُضيِّعوا قِيامكم، فباب قيام الليلِ والتهجُّدِ، بابٌ عظيمٌ من أبواب تحصيل الرحمات والمكرمات والصِلة مع ربِّ الكائنات، هذا الباب مفتوحٌ دائمًا أبدًا لا يُغلقُ لا في رمضان ولا في غير رمضان، بابٌ مفتوح لطالبي الوصل مع الله سبحانه (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء:79).
إيّاك أن تُضيع دعاءك، إياك أن تقطع حبل وصلٍ مددتَّه بينك وبين الرحمن، بينك وبَين الكريم المنَّان، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاريُّ ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: ” يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ” فالباب أخا الإيمان مفتوحٌ لم يُغلق، والحبلُ ممدود لم يُقطَع، فإيَّاك أن تقطعه بعد وصلِه…
وكذلك أيُّها المسلم حال صدقاتِك وزكواتِك، حالُ ما تنفقه على إخوانك الفقراء، حالُ ما تُقدِّمهُ مِن بذلٍ وعطاء، فأجره وعوضُه على الله يكون في رمضان وفي غير رمضان، ففي الحديثِ الذي رواه البخاريُّ ومسلم عن أَبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : (( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تلَفاً ))…
نعم أيُّها الأحبَّة فباب الصدقة لم يُغلق بعد رمضان، وأجرها باقٍ في رمضان وفي غير رمضان …
كذلكَ تلاوة القرآن أيُّها المسلم، إيَّاك أن تضَيِّعها، إيَّاك أن تقلبها هجرًا لكتاب الله، فتغدو بهجرك بعد رمضان كمن أثبت الله شكوى نبيِّه منهم إذ قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]. والله تعالى يقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
صلتك لأرحامك وبرِّك بوالديك، يامن وصلت أرحامك وعايدتهم في رمضان، إيَّاك أن ينقلب بِرُّكَ بوالديكَ عقوقًا، إيَّاك أن تنقلب صلة أرحامك قطيعة بعد رمضان، إيَّاك أن ينقلب إصلاحك إفسادًا، (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد:22].
أخا الإسلام، والله أنصحك نصيحة المُشفِق، إيَّاك إياك أن تُضيِّع جُهدك، إيَّاك أن تنقض عهدك مع ربِّك، إيَّاك أن تنسى ما عاهدت الله عليه في رمضان، إيّاك أن تكون ممن قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد:25]
اللهم لا تجعلنا منهم ولا تحشرنا معهم، اللهم اجعلنا من الصادقين، وتقبل عملنا في المقبولين، واكتبنا عندك في علِّيين، إنَّك أنت العفوُّ الكريمُ أرحم الراحمين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا عباد الله أنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومها وإن قل…
ونحن نتحدَّث عمَّا بعد رمضان، ونحن نتحدَّث عن المواظبة على الطاعات، لعلَّ قائلًا يقول: كيف لي أن أداوم على هذه الطاعات جميعها؟؟، وكيف لي أن أواظب عليها وقد كانت تستغرق الكثير من الوقت في رمضان والمواظبة على هذا بالكثير ممَّا تتقاصر عنه الهمم وتضعف عنه العزائم؟؟
أقول لك أخا الإسلام – وبالله التوفيق – أنَّ العبرة في هذه الأعمال أن تواظب وتستمرَّ عليها وأن لا تهجرها فليس العبرة بكثرة النوافل في الوقت القصير، بل العبرة بالمداومَة والاستمرار، فقليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ مُنقطِع… ولعلَّ أنّ مِن أعظم الأسباب التي تُعين العبد على الثبات أن يكون وسطاً معتدلاً في طاعته لربه، فلا غلواً في الإسلام ولا تنطع، فخـير الأمور الوسط، لا إفراط، لا تفريط، وفي هذا يقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : ((إنّ هذا الدين يسرٌ ولن يشاد الدينَ أحد إلا غَلَبَه … )) [والحديثُ رواه البخاريّ].
وفي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ”.
وفي البخاريّ أيضًا، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: دخـل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا حبل ممـدود بين الساريتين [أي في المسجد] فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فتَرَت [أي إذا تعبت في صلاتها] تعلَّقت فقال النبي : ((لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد))
ولعلَّ كلَّنا يعلم قصـة الرهط الذين جاءوا لبيوت النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادته والحديث في الصحيحين من حديث أنس – رضي الله عنه – قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!! فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فبلغ الخبرُ للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – فجاء إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – داوم على هذا المنهج الوسط وحوَّله إلى منهج عملي على أرض الواقع في حياته كلِّها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَقُولُ: «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ» … جعلنا الله وإياكم من المداومين على الطاعات.
وقبل أن نختم حديثنا اليوم وقد ودعنا شهر رمضان، ولكي نكون من المداومين على الطاعات فلابدّ أن أذكر نفسي وأذكِّركم بأنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد سنَّ لنا سُنَّة في شهر شوال إذ قال روحي فداه: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ”. [والحديث رواه مسلم].
وفي حديث ثُوبانَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “صِيامُ رَمَضَانَ بِعَشرَةِ أَشْهُر، وصِيَامُ السِّتَّةِ أيَّامٍ بِشَهرَينِ، فذَلك صِيَامُ السَّنَة”. وفي رِوايةٍ: “مَنْ صَامَ سِتَّةَ أيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ كَانَ تَمامَ السَّنة (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160]”. رواهُ أحمدُ وابنُ ماجه.
ومما ينبغي أن يُعلم أنه يجوز صِيامِ هذه الأيام في أَوَّلِ الشَّهرِ أَو وَسْطِهِ أو آخِرِهِ، مُتَتَابِعَةً أو مُتَفَرِّقَةً، ولابأس بأن تجمع – أخا الإسلام – بين نيَّة صيامها ونيَّة صيام يومٍ آخرَ مُستحب، كصيام الاثنين والخميس أو الأيام البيض، فكلُّ ذلك جائزٌ لا حرج فيه.
ولمن كان عليه قضاءٌ من رمضان يُشترَطُ لكي نال أجرها أن يسبق صيامها بقضاء ما في ذمَّته، لظَاهِرِ قول النبيّ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ”. يَعْني صام رمضان كَاملاً، ومَنْ بَقِيَ علَيهِ أَيَّامٌ من رَمَضَانَ فَلا يَصْدُقُ عَلَيهِ أَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ حَتى يَقضِيَ تِلكَ الأيَّامَ التي علَيه منه؛ ولأَنَّ إبرَاءَ الذِّمةِ من الوَاجِبِ أَولَى مِن فِعلِ المَندُوب. ولذلك كان على من لديه قضاء أن يقضي ما عليه ثمَّ يتنفَّل بصيام أيامِ شوَّال الستة ليكون ذلك تمام عامِه.
نسأل الله أن يتقبَّل منَّا ومنكم وأن يغفرَ لنا ولكم، وأن يُعيننا وإيَّاكم على طاعته …
إني داعٍ فأمِّنوا