لا شك أنّ النهضة التركية الكبيرة بعد عام 2003 م كانت في مختلف جوانب التقدّم، فالتنمية طالت مختلف القطاعات في الدولة التركية، لكن كان الجانب الأعظم اقتصادياً بامتياز، ولعلّ التنمية الاقتصادية كانت قاطرة التقدّم لباقي القطاعات، ومن هنا سخّرت تركيا جميع سياساتها الداخلية والخارجية لتحقيق تنمية شاملة، ولأهميّة السّلم الداخلي والخارجي على التنمية، قامت بتحقيق السّلم الداخلي في المجتمع التركي، ومن ضمنه وقف الحرب مع حزب العمال والدخول في مفاوضات سلام… وعلى الصعيد الخارجي اعتمدت على تصفية العلاقات الخارجية التركية من أي عداء خارجي وذلك للوصول إلى قيمة صفر في العداوة، ووصلوا إلى ذلك؛ ولذلك وصلوا إلى المركز رقم (16) على صعيد الاقتصاد العالمي، ويطمحون في عام 2023 م أنّ يكونوا قدّ فجّروا ثورة اقتصادية تجعلهم من بين الاقتصاديات الخمس الأولى في العالم…
ولكنْ بعد قيام ثورات الربيع العربي بدأت نظرية السّلم التركي تنقلب حتى وصلت تركيا إلى العداء الداخلي والخارجي، فبدأت الحرب الداخلية مع حزب العمال الكردستاني من جديد وانهارت المفاوضات…وعلى الصعيد الخارجي لم يعد لتركيا صديق في المنطقة، فالعلاقات مع سوريا والعراق وإيران وإسرائيل ومصر وروسيا وأمريكا والاتحاد الأوربي وصلت إلى مرحلة خطيرة تصل إلى مرحلة تهديد الأمن القومي التركي…
وباتت تركيا في عزلة دولية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني…!!!
وفي ظلّ الظروف المعقّدة في سوريا أرادت أمريكا والدول الأوربية أن توقع تركيا في مستنقع الحروب؛ كي يكون ذلك بداية لنهاية تركيا الحديثة التي تطمح أن تكون دولة محورية في العالم والمنطقة…
وأرادوا أن يطبّقوا لعبة صدام حسين في العراق على رجب طيب أردوغان، فدعم الأمريكيون الأكراد للتوسع في الشمال السوري لقيام دولة كردية، ولم يسمحوا بقيام منطقة آمنة، ورفضوا قتال بشار الأسد واكتفوا بقتال تنظيم الدولة…كلّ ذلك كي تتورّط تركيا بعمل عسكري منفرد في سوريا؛ ليكون هذا التدخّل هو العصا المسمومة التي ستكسر ظهر تركيا…
لكن تركيا رغم كلّ ذلك لم تتورّط عسكرياً…
ثم لم يقف الأمريكيون والأوربيون عند ذلك، فأوقعوا الفتنة بين روسيا وتركيا من خلال تشجيع تركيا على إسقاط الطائرة الروسية…وتوتّرت العلاقة بين تركيا وروسيا في مختلف المجالات، ودُقّت طبول الحرب، وأمريكا وأوربا يقرؤون آيات الانجيل وينفخون في قلوب جميع الشياطين كي تشتعلَ نيرانُ هذه الحرب المأمولة…!!!
وكادت تركيا أن تسقط، لكن في اللحظات الأخيرة أدرك السّاسةُ الأتراك أنّهم وحيدون في الساحة الاقليمية والدولية، وأنّهم عاجزون عن مواجهة هذه العاصفة الدولية، وأنّ هذا الوقت لا يناسب أن يكون أردوغان سلطاناً عثمانياً جديدا؛ بل أدركوا حجمَ تركيا الحقيقي من دون نفخ أو تطبيل أوتزمير، فتركيا ليست الإمبراطورية العثمانية؛ بل هي دولة في طور النّمو، وأدركوا أنّ المصالح في هذه الأوقات مقدّمة على الإيديولوجيا، مهما كانت الإيديولوجيا مقدّسة…لذلك بدأ أردوغان مرغماً وتحت سياسة المصالح بتصحيح جميع السياسات التي أوقعت تركيا في أزماتها الخطيرة منذ بداية ثورات الربيع العربي:
ـ فقام بالاعتذار لبوتين قيصر روسيا، فروسيا هي الشريك الاقتصادي الاستراتيجي ـ رقم واحد ـ لتركيا، وروسيا تملك أوراقا عسكرية واقتصادية وسياسية كبيرة تضر بتركيا إذا استخدمها الدبّ الروسي، منها ورقة الأكراد التي فجرتها روسيا…
ـ وقام أردوغان بتصحيح العلاقة مع إسرائيل، ومعروف أنّ إسرائيل لها باع طويل وخطير في السياسة الدولية، عدا عن العلاقات الاقتصادية مع تركيا، سيّما وأنّ إسرائيل ترغب بتغذية تركيا وأوربا بالغاز عن طريق خط الغاز الإسرائيلي الذي سيمر في تركيا…
ـ اتجه الأتراك لتصحيح العلاقة مع مصر ولو بالحد الأدنى.
ـ بعد أن أدرك الأتراك أنّ القضية السورية أصبحت قضية روسية أمريكية بامتياز، فاتجهوا من خلال تصحيح العلاقة مع الخارج وخاصة روسيا وإسرائيل، اتجهوا للتفاوض معهم لضمان مصالحهم في سوريا، وليس وفق ما كانوا يحلمون به من قيام الثورة السورية، فمن الطبيعي أن يقبل الأتراك بوجود بشار الأسد ضمن فترة انتقالية…فالذي يحكم السياسة التركية الحالية والمستقبلية هو مدى قدرتهم على التفاوض مع الروس والأمريكيين لتحقيق أكبر مصلحة للأمن القومي التركي، وليس مصلحة الثورة السورية؛ فالثورة السورية كادت أن تكون المستنقع الذي يغرق فيه الأتراك…
ـ أما العلاقة مع إيران والعراق، فتصحيح العلاقة التركية مع روسيا كفيل لأن يعيد التقارب أو التفاهمات معهم على أقلّ تقدير.
إذن نستنتج مما سبق أنّ تركيا:
ـ أدارت ظهرها للماضي وبدأت بسياسات جديدة تقوم على أساس المصالح لا على أساس الإيديولوجيات أو الأحلام الإمبراطورية…
ـ وأنّ هذه الصحوة التركية أتت قبل السقوط في حبال اللعبة الدولية بلحظات…
ـ وأنّ القضية السورية قد خرجت عن أيدي دول الإقليم وأصبحت بيد أمريكا وروسيا ومن ورائهما إسرائيل، وبالتالي تركيا أصبحت دولة تحاول الحفاظ على مصالحها، وهي ليست قادرة وليست مستعدّة أن تخوض حروباً عن غيرها…
ولابدّ هنا أن نذكّر أنّ فهم تركيا الاستراتيجي للثورة السورية كان قاصراً، فهي لم تقدّر خطورة الثورة السورية، ولم تستوعب تطوراتها بالوقت المناسب، ولم تسلك الرؤيا المناسبة للتدخل في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة…فعلى سبيل المثال استطاع الأمريكان بناء قوة كردية متمثلة في قوات سورية الديمقراطية، وقوة جيش سوريا الجديد، ومن خلالهما تُحقق أمريكا مصالحها، بينما تركيا لم تستطع تكوين قوة سورية حليفة موحدة لتحارب بشار الأسد وغيره؛ بل لعبت دوراً سلبياً أدى إلى زيادة فرقة الفصائل، وذلك من خلال تعاملها مع عدّة فصائل سورية ـ وبشكل منفرد ـ عبر التمويل والتسليح وباقي أنواع الدعم، وكانت قادرة على ذلك بامتياز …لكنها لم تفعل..!!!؟
ولا يعني هذا الكلام نكران الدور التركي الإيجابي في كثير من الجوانب خاصة الإنسانية منها…لكن هذا لا يعني السكوت عن الخطأ التركي الاستراتيجي في الثورة السورية…
والدور التركي الذي آلَ إلى ما ذكرناه يُحتّم على السوريين الاعتراف بالأمور الآتية:
1 ـ رهانهم الأساسي على الدور الخارجي كان من الأخطاء القاتلة التي سرطنت الثورة السورية…
2 ـ كلّ دول المنطقة والعالم الخارجي عرفوا مصالحهم وسلكوا طريقها…إلا الثوار السوريين لم يعرفوا مصالحهم، أو عرفوا مصالحهم لكنّهم لم يسلكوا سبيلها…!!!
3 ـ مصير الثورة السورية أصبح بأيدي أعدائها…وما زال أبناؤها: مفرّقين، ومشرذمين، ومتقاتلين، وتائهين، ومشرّدين، وتابعين لدول لا تهمّها إلا مصالحها المشروعة وغير المشروعة في أكثر الأحيان…!!!
فهل يستيقظ المدمنون!؟
أم يبقون في سكرتهم يعمهون…!!!؟