كثير من الناس ينظر إلى الحضارة الأوربية الحالية، وكأنّها الملاك الذي يوزّع الأنوار على الكرة الأرضية…!!
وكثير من الناس يسبّح بحمدها في العشيّ والإبكار…
وكثير من الناس ـ لانبهاره الشديد ـ يظنها مستحيلة التراجع أو الانحسار…!!
وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي نتيجة استفتاء شعبي، بدأت تلك النظرات تضطرب، وبدأت الشكوك في مصير الاتحاد الأوربي؛ بل الأمر تعدّى ذلك وأصبح السؤال يدور حول مصير الحضارة الأوربية في المستقبل المنظور…!!!
وهنا يأتي السؤال الهام: هل بدأ نجم أوربا بالأفول، وبكلمة أخرى: هل بدأت شمس الحضارة الأوربية تميل نحو الغروب..!!؟
جواباً على ذلك نقول: لقد بدأ الصعود الأوربي في القرن الثامن عشر الميلادي، وكانت علامته الفارقة الأولى الثورة الصناعية الأولى عام 1750 للميلاد، والعلامة الفارقة الثانية بالثورة الصناعية الثانية عام 1850 للميلاد، والعلامة الثالثة بقضائها على الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
وبالتالي أصبحت الدول الأوربية سيدة العالم في القرن العشرين، ووقعت معظم الدول الأفريقية والآسيوية تحت جنون استعمارها العسكري…فسرقت خيراتها وجعلتها سوقاً لتصريف منتجاتها…
وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت بالخروج من المستعمرات، لكنها عندما خرجت نصّبت حكاماً يتبعون لسياساتها، فبالحقيقة خرجوا من الباب ليدخلوا من جميع النوافذ، وما حكام الوطن العربي من المحيط إلى الخليج إلا مثالاً صارخاً للدكتاتوريات التي تدعمها الحضارة الأوربية…!!!
وفي القرن الواحد والعشرين وصلت الحضارة الأوربية في القارة العجوز (أوربا الغربية) وفي أمريكا إلى مرحلة الذروة العظمى، أو بما تسمى بدولة الرفاهية، والوصول إلى دولة الرفاهية هو نهاية الصعود وبداية الهبوط.
لكن كيف سيكون ذلك!؟
لقد شرح ابن خلدون رحمه الله القضية بدقّة عالية، إذ اعتبر أنّ مراحل حياة الدولة تمر بالمراحل الآتية:
1 ـ مرحلة البداوة: وهي مرحلة صعبة فيها الاقتتال والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة…وهذا ما كانت عليه أوربا في القرون الوسطى تماماً…
2 ـ مرحلة النهوض: وهي المرحلة التي تعقب مرحلة البداوة، فهي ردة فعل على المراحل اللاطبيعية، وبالتالي تبدأ مرحلة النهوض العسكري والاقتصادي، وتتبعها باقي الجوانب بالتدريج…وهذه المرحلة فيها تضحيات كبيرة من جيل النهوض، فهو جيل يبني ولا يقطف ثمرات الرفاهية…وهذه المرحلة مرت بها أوربا واستمرت حتى الحرب العالمية الثانية…
3 ـ مرحلة الرفاهية: هنا يصل النهوض العسكري والاقتصادي والاجتماعي والنفسي…إلى ذروته، فتصبح الرفاهية هي عنوان هذه المرحلة، وتبدأ أجيال الرفاهية تنظر إلى الرفاهية الشخصية كمقياس، وتنسى هذه الأجيال مراحل الشقاء التي مرّت بها دولتهم في المراحل السابقة، وتصبح البوصلة التي توجههم هي الرفاهية بمعناها الواسع…
وهذا هو ما يحصل الآن في أوربا، فلماذا اختار الشعب البريطاني الانفصال عن الاتحاد الأوربي!؟
لأنّ البريطانيين لا يريدون لأحد من الدول الأوربية الأخرى أن ينتقص من رفاهيتهم، ولكن كيف ذلك!؟
نقول: يدخل بريطانيا سنوياً ما يقرب من (300) ألف مهاجر من أبناء أوربا الشرقية الذين انضموا إلى الاتحاد الأوربي، فأصبح عددهم يصبح بالملايين، وهؤلاء المهاجرون باتوا ينافسونهم على فرص العمل وعلى التعليم وعلى الصحة وعلى السكن وزادت الكثافة السكانيّة…وهذا كلّه يُنقص من مستوى الرفاهية لدى المواطن البريطاني، وكذلك تدفع بريطانيا ما يقرب من (13) مليار يورو سنوياً لميزانية الاتحاد الأوربي، وهذا بدوره بنظر المواطن البريطاني يقلل من رفاهيته، بالإضافة للمنافسة الاقتصادية التي تؤثر على دخل فئة كبيرة من البريطانيين…
لهذا السبب الذي يرتبط بالرفاهية من جوانبها المختلفة صوّت البريطانيون لصالح الانفصال، ولم ولن يلتفتوا إلى الأصوات العاقلة التي تدرك أهمّية الوحدة على المدى البعيد.
وبريطانيا هي بداية السلسلة، وسنرى في السنوات القادمة الكثير من الدول الأوربية ستخرج من الاتحاد الأوربي، وذلك تحت ضغط الشعوب التي تعيش مرحلة الرفاهية، ومعلوم أنّ الديمقراطية الأوربية تساعد على ذلك، والسنوات القادمة هي سنوات تقدم كبير لليمين الأوربي، وسيستغل اليمين الأوربي نفسية الرفاهية عند الشعوب الأوربية ليطالب بمزيد من القومية وبالتالي الانفصال، ولن تستطيع ألمانيا وفرنسا الوقوف في وجوه الشعوب الأوربية الذي تعيش تحت سكر ونعيم الرفاهية…
وهذا لن يحصل بسنتين أو ثلاث؛ بل قد يستغرق ما يقرب من (30) سنة أو أكثر، وثلاثون سنة أو خمسون ليست زمناً طويلاً بالنسبة لعمر الدول والحضارات…
والأوربيون من حيث الحقيقة التاريخية ما يُفرقهم هو أكثر مما يجمعهم، والقرن العشرين لوحده حصد ما يزيد عن (70) مليون قتيل من الأوربيين…لذلك حاول العقلاء الأوربيون وعلى رأسهم الألمان والفرنسيون الذين تضرروا كثيراً من الحروب أن يقوموا بمشروع الوحدة الأوربية، وكانت بدايته ست دول عام 1957 م إلى أن وصل إلى (28) دولة؛ ليصبح الآن (27) دولة بعد خروج بريطانيا…
والمستقبل يقول: سيتوالى خروج الدول الأوربية من الاتحاد، ثمّ ستبدأ المشاكل التاريخية في الظهور، ثم يبدأ التنافس والضعف شيئاً فشيئاً، ثم تصل إلى القطيعة والتوتر، ثم لا غرابة من الاقتتال…
وهذا ينطبق تماماً على الولايات المتحدة الأمريكية، التي بحقيقتها هي أوربا الجديدة…
ولابدّ من ظهور قطب عالمي جديد، وهذا القطب الجديد الذي يتشكل الآن سيُسرّع من اقتراب نهاية مرحلة الرفاهية في أوربا وأمريكا…
هذه سنن التاريخ لا ترحم أحداً…
الآشوريون والبابليون رحلوا…
الفرس والرومان قد رحلوا…
المسلمون قد رحلوا…
الاتحاد السوفياتي أصبح من الذكريات…
فالدول والحضارات كالإنسان: يولد ضعيفاً، ثم يكبر ويصبح قوياً ويترفّه، ثم مرحلة الضعف والشيخوخة والزوال…
فمتى يستيقظ العرب والمسلمون ليتركوا وراءهم البداوة، ويسيروا في النهوض…!!!
ليت قومي يسمعون…!!!