وُلد “الائتلاف” فوُلد معه الاختلاف: أخيرٌ هو أم شر؟ هل نقبله أو نرفضه؟ منذ أيام وأنا أبحر في فضاء الإنترنت على مركب من مراكب الدهشة والتساؤل: لماذا يحبّ الناس هذه الثنائيةَ الصارمة: بياض الثلج أو سواد الفحم؟ الرفض المطلق أو القبول غير المشروط؟ رأيت عامة الناس بين متشائم غاية التشاؤم ومتفائل غاية التفاؤل، وبقي بين أولئك وهؤلاء فريق صغير اختار التوسط الذي هو أقرب إلى الحكمة. فكونوا من الأوسطين يا أيها الكرام، وتعالوا نقرأ الواقع قراءة دقيقة ثم نستخلص الموقف الأقرب إلى الصواب (أو ما يمكن أن نسمّيه “الموقف الوطني من المجلس الوطني”) مستعينين بالله الذي نضيع بلا عونه، ومتوكلين عليه قبل كل شيء وبعد كل شيء، إنه نعم المولى ونعم الوكيل.
1- الشعب السوري يعاني في كل ساعة من ساعات الليل والنهار معاناة يعجز عن وصفها البيان، فإذا استطعنا وقف معاناته ولم نفعل فنحن مجرمون، وإذا وقفناها على حساب الثورة وضحّينا بأهدافها فنحن مجرمون، لأننا سنضيّع -لو فعلنا- دماء عشرات الآلاف من الشهداء وعذابات مئات الآلاف وتضحيات الملايين من السوريين.
2- نحن مع كل مشروع يُنهي معاناة شعبنا المكلوم ويوقف القتل والعذاب والتدمير، بشرط أن يحقق أهداف الثورة كاملة، أو يحقق منها جزءاً يمكن البناء عليه في مراحل لاحقة. الحالة الوحيدة التي نرفضها هي حل يحقق جزءاً ويتضمن موانعَ تمنعنا من الاستمرار لتحقيق بقية الأجزاء.
3- الهدف الأعلى للثورة هو إسقاط النظام “كله” وليس القيادة الحالية فقط، وحل الأجهزة الأمنية بالكامل، وإنهاء سيطرة الطائفة العلوية على الجيش. الحرية من أهم أهداف الثورة، وهي تتضمن حريةَ تقرير المصير وحريةَ اختيار الإسلام ديناً وهوية لسوريا، وهذا هدف تتفق عليه الغالبية العظمى من السوريين.
4- القوى الغربية (أميركا وحلفاؤها) جادة في إسقاط القيادة السورية الحالية، أي الرئيس ومعاونيه وكبار القادة الأمنيين والعسكريين، ولكنها ليست جادة في إسقاط النظام كله، فهي تعارض حلّ الأجهزة الأمنية، وتريد بقاء الجيش العربي السوري تحت سيطرة الطائفة العلوية، وتريد سوريا دولة علمانية، لا تريد لها الإسلام.
5- لم يعد خافياً على غالبية السوريين اليوم أن أميركا عدو من أكبر أعداء سوريا وشعبها وثورتها، فقد دعمت النظام في الماضي قبل الثورة ثم حرصت على إطالة حياته بعدها، وقد فرضت على الثورة حصاراً حقيقياً ومنعت وصول السلاح النوعي إلى الثوار بهدف إطالة الصراع واستنزاف الثورة ودفعها إلى الموافقة على الحل الأميركي.
6- الأميركيون وحلفاؤهم خططوا لمشروع الائتلاف الوطني ودفعوا إليه وشجعوا عليه، وما يزالون. إنهم يأمُلون تحقيق مصالحهم من خلاله، ولكن لا يعني هذا أن الائتلاف لا يحقق للثورة مصالحها أيضاً. قد يتقاطع المشروع الوطني مع المشروع الغربي في بعض مراحل الطريق (كما هو الآن)، فإذا استطعنا أن نستفيد من القوى الدولية في تلك المراحل فحَسَنٌ، بشرط أن ندرك أن الطريقين ينفصلان في المراحل اللاحقة، فلا يَضطرنا تعاونُنا معهم اليومَ إلى المضيّ معهم إلى آخر طريقهم الذي يرسمون.
7- من المؤكد أن عدداً كبيراً من قادة وأعضاء الائتلاف هم من الصادقين المخلصين الذين نثق بدينهم وشرفهم ووطنيتهم، وهؤلاء نوعان: فريق يدرك أن أميركا والغرب أعداء لسوريا وشعب سوريا وثورة سوريا، ويرون أن المصلحة تقتضي التعاون معهم في هذه المرحلة، وهذا الفريق هو الذي نعتمد عليه -بعد الله- في قيادة السفينة. وفريق يثق بأميركا والغرب ويظن صادقاً أنهم يريدون الخير لنا في الحاضر والمستقبل، وهؤلاء يحتاجون إلى النصح والتبصير والتحذير حتى لا يصبحوا عوناً لأعدائنا علينا من حيث لا يشعرون ولا يريدون. الفريق الثالث يضم قوماً منّا باعوا للأميركيين والغربيين أنفسهم وضمائرهم ووضعوا أيديهم في أيديهم ووافقوهم على خطتهم من أولها إلى آخرها، وهؤلاء شر محض ينبغي الحذر والتحذير منه في كل مقام وفي كل حين. أقول هذا على العموم ولا شأن لي بالتفاصيل.
* * *
النتيجة: القبول المطلق بمشروع صنعه الغرب ويدعمه الغرب موقف ساذج قد يترتب عليه ضياعُ كل مكتسبات الثورة وحرمانُها من تحقيق أهدافها، والرفض الكامل لهذا المشروع موقف متسرّع قد يفوّت على الثورة مكاسبَ كبيرة من شأنها التعجيل في إنهاء معاناة الملايين من السوريين. المطلوب هو موقف وسطي، موقف يتّسم بأمرين يجب أن يجتمعا معاً اجتماعاً وثيقاً: “الإيجابية والحذر”. فنقبل المشروع من حيث المبدأ، ونعتمد -بعد الله- على الثقات البررة في قيادة الائتلاف ودوائره ومؤسساته، الذين نطالبهم بمراعاة الشروط والضوابط التالية:
أ- أن يتعاملوا مع الثورة والثوار بندّية وتكامل لا بمنطق الوصاية، فيستمعوا إليهم ويناقشوهم أمرَهم وينقادوا إلى إجماعهم، ولا يكونوا جسراً يمرّر الغربُ عبره مؤامرة تقتل الثورة لا قدّر الله.
ب- أن يكونوا صرحاء مع الشعب غاية الصراحة ويعتمدوا لعملهم مبدأ الشفافية الكاملة (السياسية والإدارية والمالية)، فإنما أهلك السابقين (المجلس) أنهم أخفَوا الكثير وأعلنوا للناس أقل القليل.
ج- أن لا يقعوا في الوهم الأكبر فيظنوا أن أميركا هي مصدر قوتهم. القوة الحقيقية للائتلاف هي التي يستمدها من الشارع، فهو قوي بدعم الثوار وهو ضعيف بإعراضهم وتخلّيهم.
د- أن يستغلوا قوة الشارع للضغط على القوى الدولية وتحقيق مطالب الثورة، لا يستغلوا تلك القوى للضغط على الثورة وتخفيض سقفها وتنفيذ خطط الغرب الذي استمات لصنع الائتلاف.
* * *
الوصية الأخيرة لإخواننا الشرفاء في الائتلاف (وهم الأكثرية فيه بإذن الله) وقد أفردتها وتوسعت فيها لأنها أهم الوصايا وأكثرها خطراً: كونوا لنا لا علينا؛ احموا مصالح الثورة ودافعوا عن كياناتها وتشبثوا بأهدافها. إياكم ثم إياكم ثم إياكم، ولو استطعت لكررتها ألف مرة… إياكم أن تساعدوا القوى الدولية على إضعاف أهم مكونات الثورة السورية: الكيان الثوري الشعبي والكيان الجهادي العسكري. سوف تكتشفون بسرعة أن هذا هو الهدف الكبير الذي من أجله دعموا الائتلاف ومنحوه الشرعية، فإن قوة هذين الكيانين العظيمين هي العقبة الكبيرة التي حالت بينهم وبين القضاء على الثورة، وهما ما يزالان الشوكة الصلبة في حلوقهم إلى اليوم.
ربما أقنعوكم بضرورة إضعاف بعض الكيانات الثورية والعسكرية بحجة توحيد المعارضة الثورية والعسكرية، أو بحجة القضاء على التطرف والإرهاب اللذين يعوقان العالَم -كما يزعمون- عن دعم الثورة. لا تنسوا أبداً أنهم قبضوا اليد عن دعم ثورتنا يوم لم تُطلَق في سوريا رصاصة إلاّ من قنّاصات العدو على صدور متظاهرين حملوا أغصان الزيتون، ولا تنسوا أيضاً أن لنا تعريفنا للتطرف والإرهاب ولهم تعريفهم، ولن يلتقي التعريفان أبداً في أي يوم من الأيام.
يا شرفاء الائتلاف: احذروا أن تثقوا بوعود وعهود من قوم لا وعدَ لهم ولا عهد، واقرؤوا -إن شئتم- تاريخهم الطويل في فلسطين، فقد علّمنا تاريخُهم أنهم قومُ غَدْر، لم يَعِدونا وعداً -من أيام ماكماهون- إلا أخلفوه، ولا وعدوا عدوَّنا وعداً -من أيام بلفور- إلا أنجزوه. أميركا والغرب عدو لنا يا أيها الكرام. لا أقول لكم: قاتلوهم، ولا أقترح أن نفوّت فرصةً فيها خير للثورة ولو جاءت عن طريقهم، ولكني أرجو ثم أرجو أن تنتبهوا فتأخذوا حذركم. لقد بيّنَ ربنا تبارك وتعالى لنبيّه عداوةَ المنافقين لا ليقاتلهم ويقتلهم، بل ليَحْذرهم فلا يُخدَع بهم، فقال وهو أحكم القائلين: {هم العدوّ فاحذَرْهم}.
يا شرفاء الائتلاف: إنكم تخوضون معركة العقول والإرادات مع القوى الغربية، بالنيابة عن الشعب السوري الذي يخوض معركة القوة والسلاح مع نظام الاحتلال الأسدي. كونوا على يقين أن الغرب عدو لنا فاحذروه، فإنّا عَلِمنا -مما قرأناه من تاريخ القوم- أنهم كلما عجزوا عن الانتصار بالقوة حاربونا بالدهاء، فسخّروا علينا قوماً منا لا يُشَكّ في دينهم وإخلاصهم ولكنهم يُؤتَون من باب الغفلة وحسن الظن. إنهم قوم دُهاة عُتاة ما رأينا منهم خيراً في زمن مضى ولا أظن أن نرى منهم خيراً في زمن آت، فاحذروا وانتبهوا، فإن العقول الكبيرة لا تغلبها إلا عقول كبيرة.
إن ثقتنا بإخلاصكم واستقامتكم كبيرة يا أيها الشرفاء، ولكنّا نخشى عليكم من الخُدَع والأشراك والمؤامرات. فاستعينوا بالله أولاً، ثم استعينوا بقوة شعبكم الأبيّ الثائر؛ إن فعلتم إنكم وإنه -بإذن الله- الغالبون.