أحمل فانوسي وأبحث عن منشق .. لم يكن مستخدمي الأسد رجال خبرة .. وإنما كانوا مستخدمي ولاء لسلطة
لم أر ولم أسمع – فيما رأيت وسمعت – منشقا واحدا عن عصابة بشار الأسد . لم أر منشقا واحدا يخرج على السوريين من بحرة الدنس الأسدية ، ويقول ربي إني ظلمت نفسي . بل أراهم وأسمعهم جميعا يخرجون من هذه البحرة في صورة الفارس المخلّص بثيابه البيض على أحصنتهم البيضاء يدّعون ويزعمون .
وكثيرا ما أتطلع إلى بعض هؤلاء ، الذين أُطلق عليهم تجاوزا لقب المنشقين ، فأراهم ما زالوا يدورون حول ذواتهم في إطار التزامهم بشخوصهم و بماضيهم وتاريخهم الذي يرفضون أن ينخلعوا منه . وما زالوا يسوغون تاريخا من الفساد والاستبداد ضرب الحياة السورية على مدى نصف قرن ، وكانوا هم أنفسهم من الشركاء فيه والصانعين له . يحاول كل واحد منهم أن يصور نفسه في صورة ( مؤمن آل فرعون) الذي كتم إيمانه ليكون في لحظة الحقيقة المدافع عن الحق وعن القيم والفضيلة وعن مصالح الوطن والمواطنين . مع أننا لم نسمع على مدى نصف قرن صوتا ينادي على الظالمين : أتقتلون شعبا أن يقول ربي الله…!!
حتى أسرهم الصغيرة كانت إذا احتاجتهم في رفع مظلمة عن حر شريف من أبنائها مناوئ لسياسة هذا الفاسد المستبد ، لم تسمع من كلهم إلا جوابا واحدا متفقا عليه بين صغارهم وكبارهم . جواب طالما رددته على مسامعنا الأمهات والعمات والخالات ( لا أحد يتكلم معي في هذا الموضوع ) ( يا عمتي ابنك يستحق وأكثر ..) . لقد كانوا دائما الحراس لمصالحهم الفردية و المدافعين عنها والدائرين حول ذواتهم ، والعاملين على أمجادهم الشخصية وأمجاد الزوجات والأبناء بطريقة ( وصولية ) تبعث على الازدراء ، وليس في ميدان تنافس وطني حر شريف .
من حق الوطن وأبنائه اليوم أن يطالبوا بكشف (حساب دقيق ) لهؤلاء الذين ( لو لم يكونوا …ما صاروا ) . من حق الوطن والمواطن أن يعرف عن كل واحد منهم كيف وصل إلى ما وصل إليه . وأن يعيد فحص درجات السلم درجة درجة . بدأ من شهادته الثانوية وتنافسيته الجامعية . وكيف حصل كل واحد من هؤلاء على فرصته الفردية الخاصة ، التي يجب أن تكون وطنية شريفة وشرعية .
نعم لنعد لسجلات هؤلاء لنرى كيف حصل كل واحد منهم على فرصة مسروقة من جهد وجد وكد مواطن بسيط وشريف لم يكن يملك غير نور عينيه يطفئهما على صفحات الكتب سلما . اليوم وحين يتحدث البعض عن تأهيل نذكرهم بحديث المصطفى صلى الله عليه ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) . ونبات الجسد ليس بالطعام والشراب بل يمتد إلى الفرصة بالتعليم وإلى الوثبة على حقوق الآخرين .
أعتقد أن باب التوبة الوطنية يجب أن يظل مفتوحا كباب التوبة الشرعية . بل أعتقد انه لا احد يملك أن يغلق هذا الباب أصلا . فصدر الوطن صدر أب رحيم ، وحضن الوطن حضن أم رؤوم . ويمكن لكل عاق آبق أن يعود إليهما متى شاء شريطة أن ينخلع عن العقوق ، و أن يندم على ما فرط في جنب وطنه ومواطنيه . المنتظر من هؤلاء حتى يستحق كل واحد منهم لقب( منشق ) عن عصابة الفساد والاستبداد أن يخرج على الناس ويقول إنني كنت شريكا في ظلمكم واضطهادكم والاستئثار عليكم . المنتظر من كل واحد منهم أن يبادر برد المظالم إلى أصحابها ، والمظالم ليست مادية فقط بل هي أشكال من الظلم المادي والمعنوي شارك هؤلاء الآثمون في ممارسته على أبناء وطنهم فرادى ومجتمعين .
كان العربي عندما يقرر الدخول في الإسلام يخلع عنه عبء جاهليته بكل نتنها وخيلائها كما يخلع الرجل أسماله البالية . وكان يلقي عنه عبء ماضيه ، ويتخلص من كل عناوينه وتفاصيله و كبائر إثمه وصغائرها كما يتخلص البائس المتشرد من جيش من القمل غزا يوما رأسه وجسده . هذا المنشق هو الذي بحثت عنه فلم أجده رغم أنني حملت فانوسي حتى في رائعة النهار . أي منشق من هؤلاء سمعناه يقف أمام مرآته بهذه الجرأة و يصارح ربه أولا ثم نفسه ثانيا ثم شعبه ثالثا ويقول بأنني كنت ظالما خطاءً ولقد قررت اليوم ان انخلع من الظلم والخطيئة .
يتحدث اليوم البعض وهو – يسر حسوا في ارتغاء – أن هؤلاء المنشقين يمتلكون خبرة يمكن أن يضعوها في خدمة الثورة والثوار!!! .. وفي الجواب على هذا الكلام نقول : أي شهادة حسن سلوك تمنح لبشار ولأبيه بأنهما كانا يوظفان لخدمة السوريين أصحاب الطاقات والخبرات !!!!!!!
صغير السوريين وكبيرهم عالم السوريين وجاهلهم يعلمون أن هذين – حافظ وبشار – كانا ينتقيان مستخدميهم على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة الخبرة هذه واحدة . والثانية أن هؤلاء المتصدرين وراء مكاتب الوزارات والإدارات لم يكونوا يمارسون من إدارة الأمر شيئا غير المظهر البرتوكولي بما يغدق عليهم صاحب السلطة والقرار الحقيقيين . وثالثا وإذا كان هناك من يعتقد أن هؤلاء قد اكتسبوا من الدوران حول الظالم المستبد شيئا من الخبرة فأين هي مخرجات خبرتهم في حياة السوريين العامة خلال نصف قرن ؟!
أين هي مخرجات الرغبة في الإصلاح وأين هي محاولات البناء على صعيد حياتنا السياسة والاجتماعية والاقتصادية الصناعية منها والزراعية والتجارية ؟! ومن الذي يريد أن يشهد لهذا النظام من خلال هؤلاء الرجال بحرصه على زرع سنبلة خيّرة واحدة على الأرض السورية ؟! لقد كان هؤلاء جزءا من نظام الأرض اليباب التي ضُربت على الحياة العامة في سوريا .
يقول البعض وهم يتحدثون عن حكومة (مؤقتة ) أو حكومة (انتقالية ) . يقولون نحن لا نريد في هذه المرحلة حكومة حزبية ، ولا نريد حكومة مؤدلجة ، ولا نريد حكومة ذات بعد سياسي وهم بهذه العناوين البراقة يضعون الفيتو على كل المناضلين الشرفاء والمجاهدين الأصلاء . هم لا يريدون رجلا من حزب العمل الشيوعي الذي كان من المجموعات التي عانت وضحت ، و لا يريدون رجلا من القوميين الشرفاء الأصلاء الذين ظلت رؤوسهم مرفوعة ، و لا يريدون رجلا من الإخوان المسلمين الذين سحقت رفات عشرين ألف شهيد منهم حتى لا تكتشف مقابرهم الجماعية ؛ يقولون لا نريد رجلا من هؤلاء ونجيب وبقولكم نقول ولن نقترح في هذه المرحلة بعضا من هؤلاء … ولكن أليس المرشحون القادمون من الحزب (القائد للدولة والمجتمع ) هم أيضا قادمين من حزب سياسي ، وحزب فاشي مستبد وظالم ؟! أليس هؤلاء القادمون من هذا الحزب سينطبق عليه بنفس المعيار ما ينطبق على من ذكرنا من قبل ؟ ولماذا يكون القادمون من حزب البعث ممثلين للخبرة ومنتسبين للتكنوقراط ويكون كل أولئك ممثلين للموقف الحزبي والإيديولوجي الضيق ؟!
نعتقد أن العودة بالثورة إلى أحضان البعث والبعثيين هؤلاء هو اعتراف ضمني وصريح بنظرية البعث القائمة على المادة الثامنة من الدستور المنسوخ ، بأن يظل البعث بشخصيته الاعتبارية أو بأفراده المتساقطين من خبث كيره هم المسيطرين والحاكمين تحت عنوان إلى الأبد في مواجهة التداولية التي اعتبرت مطلبا أساسيا للثورة والثوار .
إنه حين ستخطو المعارضة في هذا الاتجاه ستكون قد شهدت على نفسها بالعقم ، وعلى المجتمع السوري الذي تريد أن تمثله بالجدب . وهي بهذه الخطوة ستعترف أن المجتمع السوري غير مؤهل لقيادة نفسه . وهذا اعتراف ذريع بالفشل ، وهو في الوقت نفسه مراهنة لا تليق على دماء الشهداء وما قدموا من تضحيات.
نعتقد أن السير في طريق هذه الخطيئة مهما يكن حجم المسوغات والمبررات التي تقدم بين يديها ومهما يكن حجم المعاذير التي ستطرح من خلفها ، ومهما يكن شأن الدافعين إليها ستدق إسفينا غليظا ليس في بنيان المعارضة السورية فحسب ، بل في بنيان الثورة السورية والشعب السوري والغد السوري . إن دماء الشهداء وعذابات المعذبين على مدى نصف قرن لن تسامح ولن تتنازل أبدا بل سترد على القادمين الجدد من مستبدين وفاسدين ومفرطين : وهذه أيضا من البلاء ودرسنا أن نستأنف المعركة من جديد ..