عاد الغراب الأخضر إلى الحديث عن قوات حفظ سلام! عندما تحدث عنها أولَ مرة قبل ستة أسابيع كتبت بضعة أسطر محذّراً منها وداعياً إلى رفضها ومحاربتها باعتبارها “قوات غزو”، فما راعني إلا أصواتٌ ترحب بها وتطالب باستقبالها استقبال الفاتحين المنقذين، وتردّ عليّ باللوم والهجاء القبيح. لم أعتب على مَن هجاني، بل عتبت على نفسي لأني اختصرت فلم أوضح، فظنّ بعض الناس أن القوات الدولية قادمة لإنهاء معاناة السوريين وأنني أحرمهم بدعوتي الحمقاء من تلك الفرصة الذهبية.
المسألة مهمة جداً وخطيرة جداً وتستحق بعض التفصيل. سأعرض ثلاثَ حقائق كبيرة عن القوات الأممية يجهلها أكثر الناس، وينبغي أن يعرفوها قبل التسرع باتخاذ أي موقف. ولكن اسمحوا لي -قبل ذلك- أن أطرح ثلاثة أسئلة ينبغي أن يطرحها أي عاقل فَطِن في هذا المقام:
(1) عندما يسمع المرء عن قوات “حفظ سلام” يفهم ضمناً أن السلام قائم وأن هدف تلك القوات هو المحافظة عليه، فهل سوريا حالياً في سلام؟ وإذا لم تكن كذلك فمنذ كم من الأيام لم تعرف السلام؟ أليس منذ عام وثلاثة أرباع عام؟ فأين كانت تلك القوات وأين القبيح الإبراهيمي وأين الأمم المتحدة وأين المجتمع الدولي في عشرين شهراً خلت، حينما كان النظام المجرم يقصف المدن ويرمي البراميل المتفجرة على رؤوس الأبرياء؟ لماذا تذكّرونا الآن بعدما اقتحم الجيش الحر عشرات الكتائب وغنم مئات الصواريخ والمدافع المضادة للطائرات، وبعدما سيطر على ثلاثة أرباع سوريا وعلى ثلاثة أرباع العاصمة ووصل إلى تخوم المطار؟
(2) سوريا كلها اليوم في حالة حرب، وقد زادت نقاط الاشتباك مؤخراً حتى بلغت مئة نقطة في اليوم أو تزيد، وانتشرت الجبهات في طول البلاد وعرضها، وبات يشارك في المعارك نحو ربع مليون مقاتل من الطرفين. فهل ستغطي قوات حفظ السلام المقترَحة كل أنحاء سوريا؟ بالتأكيد لن تفعل، ولكنها ستتجه إلى أهداف مختارة كما صنعت قوات الغزو في العراق. ألا تذكرون؟ حينما كانت النيران تلتهم المكتبة الوطنية وحينما كان الرعاع يجتاحون كل مرافق الدولة، بما فيها المصرف المركزي، كان الغزاة مشغولين بالسيطرة على نفط العراق.
(3) ما هي الأهداف التي يمكن أن تتجه إليها القوات الأممية في سوريا؟ تعالوا نخمّن: مستودعات الأسلحة الكيماوية (بحجّة حمايتها من الوقوع في أيدي الإرهابيين)، وآبار النفط (بحجة حماية مصادر الطاقة)، ومنطقة الساحل (بحجة حماية الأقلية العلوية من الجماعات المتطرفة)، والعاصمة (بحجة حماية مؤسسات الدولة)، ويمكن أيضاً تعزيز قوات حفظ السلام الموجودة أصلاً في الجولان لو طلبت ذلك إسرائيل.
ألا توجد كلمة واحدة تصلح لوصف حملة دولية من هذا النوع؟ بلى: احتلال!
* * *
حسناً، ليس ما سبق هو المهم. المهم هو معرفة حقيقة ووظيفة القوات الدولية الأممية، وهو أمر نتوصل إليه بدراسة تاريخها الطويل وتدخّلاتها السابقة في مناطق النزاعات والاضطرابات. سوف أقتصر على أهم ثلاث حقائق، وهي تكفي لإدراك خطر “مؤامرة الإبراهيمي” على الثورة وعلى حاضر سوريا ومستقبلها.
الحقيقة الأولى: إن القوات الأممية لا تتدخل في أي نزاع لإنصاف الضحية وإحقاق الحق؛ كل ما تعمله هو وقف القتال ومنع الاشتباك، وأسوأ نتائج تدخّلها هو تكريس الواقع الذي صنعته الحرب، أو فرض الحل الذي يُطبَخ في المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الأمن)، والذي يكون غالباً مناقضاً للحق والعدل ويكون دائماً موافقاً لمصالح الغرب والقوى الدولية.
ليس هذا افتراضاً ولا خيالاً وإنما هو واقع يشهد به التاريخ القريب، فإن قوات حفظ السلام لم تُعِدْ حقاً مغصوباً إلى أصحابه قط، وعندما تدخّلت في أي منطقة من مناطق النزاع كرّست الوضع الراهن وجمّدت خطوط التماس بين أطراف النزاع. وقد وجدتُ بتتبّع تاريخ تلك القوات أنها دخلت 69 بلداً في 64 سنة، ولم يحصل أبداً أن تغيرت خطوط فصل القوات بعد دخولها. معنى هذا أن دخول قوات حفظ السلام إلى سوريا سيقيد حركة الجيش الحر ويوقف تقدمه، وأنها ستهدد وحدة الأراضي السورية تهديداً حقيقياً لأنها يمكن أن تفصل بين مناطق نفوذ الجيش الحر ومناطق الأكراد في الشرق والعلويين في الغرب، بحيث يصبح تكريسها لانفصال أي من المنطقتين ورقةَ ضغط على السوريين، يمكن استعمالها عند الضرورة لانتزاع مواقف وتنازلات تحقق مصالح القوى الدولية التي تدير مشروع قوات حفظ السلام وتسيطر عليه.
الحقيقة الثانية: القوات الأممية ليست مجموعة من المراقبين الدوليين كالذين جاؤوا إلى سوريا في السنة الماضية. إنها قوات جاهزة للقتال ومخوَّلة بالقيام بما يلزم لتنفيذ مهمتها، وهي تأتي بأعداد كبيرة ومعها كل الأسلحة التي تحتاج إليها. كم تتصورون أن يكون عددها؟ البوسنة التي تبلغ مساحتها ربع مساحة سوريا وسكانها نحو سدس سكان سوريا أرسلوا إليها أربعة وخمسين ألف جندي، فكم يرسلون إلى سوريا؟ وماذا عن أسلحة تلك القوات؟ في الأحوال العادية يأتون بأسلحة خفيفة ومتوسطة، بما فيها المدافع وقاذفات الصواريخ والعربات القتالية والمروحيات، أما في مناطق النزاعات الخطيرة فإن تسليح القوات الأممية يشمل الدبابات والطائرات المقاتلة. إنه جيش احتلال!
لماذا يأتون بأعداد كبيرة ولماذا كل تلك الأسلحة؟ إنها من أجل نوعين من الأعمال الخطيرة التي تقوم بها قوات حفظ السلام: النوع الأول هو الفصل بين الأطراف المتنازعة ومنعها من الاشتباك، وهذه الحالة شائعة عندما تتدخل القوات الأممية في النزاعات القائمة بين الدول، وهي لا تعنينا حالياً. النوع الثاني الذي يعنينا، وهو الأخطر: نزع أسلحة المقاتلين من كل الأطراف وفرض وقف إطلاق النار. هذه هي المهمة الافتراضية عندما تتدخل قوات الأمم المتحدة لحسم نزاع داخلي أو لوقف حرب أهلية، كما حصل في البوسنة والصومال. لذلك تلاحظون أنني كثيراً ما رفضت في كتاباتي وصف ما يجري في سوريا بالحرب الأهلية وثابرت على تسميته بحرب التحرير، لأن حالة “الحرب الأهلية” تمنح المجتمع الدولي ذريعة للتدخل العسكري وفرض الحل الخارجي باعتبار أن كل أطراف الحرب الأهلية متساوية في المسؤولية وعاجزة عن الحل.
باختصار: إن أي قوات أممية تدخل إلى سوريا -لا قدّر الله- ستسعى إلى فرض وقف إطلاق النار على الطرفين (الثورة والنظام) ونزع أسلحة المليشيات (الجيش الحر والكتائب المجاهدة)، وسحب وحدات الجيش النظامي من المدن وإعادتها إلى الثكنات والمعسكرات، ومراقبة الحدود بين سوريا وجيرانها (أيّ حدود سيهتمون بها أكثر يا ترى؟)
الحقيقة الثالثة (وهي مسألة في غاية الخطورة ولا يكاد يعرفها إلا واحد من ألف من الناس): إن قوات حفظ السلام التي تتدخل في مناطق النزاعات الداخلية لا تتكون حصراً من قوات عسكرية. إنها “سلطات احتلال” حقيقية؛ تضم قوات عسكرية مهمتها نزع سلاح المتقاتلين وحماية الأهداف الحيوية (المطارات والموانئ والسدود وحقول النفط والمصارف والوزارات، إلخ)، وشرطة دولية مهمتها الإشراف على الشرطة المحلية، وفريق من الإداريين والسياسيين لمراقبة أداء الإدارات المحلية، وفريق من الحقوقيين والمراقبين للإشراف على الانتخابات وعلى كتابة الدستور والانتقال السلمي للسلطات.
خلال تلك الفترة يمثل المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة دور المندوب السامي الأممي، وتبقى البلاد في حالة سيادة منقوصة حتى إنهاء عمل البعثة الدولية رسمياً.
* * *
خيراً فعل الائتلاف الوطني بالإعلان عن موقفه الرافض لنشر قوات أممية في سوريا، وأرجو أن يكون ما نُقل أمس عن أحد أعضائه خطأ مطبعياً أو زلّة لا ثانيةَ لها، وأتمنى منه أن يصدر تصريحاً أكثر وضوحاً من مجرد نفي الموافقة، تصريحاً صريحاً ينصّ على أن دخول القوات الدولية إلى سوريا خط أحمر وخطر أكبر لا يمكن الموافقة عليه أبداً، مهما تكن الضغوط والإغراءات، ولو كان الثمن حل الائتلاف أو بقاءه بلا اعتراف. كما أتمنى أن تجتمع القوى الثورية والجهادية في سوريا على إعلان الرفض القاطع لأي مشروع مشبوه من هذا النوع، وأن يكون رفض القوات الدولية شعاراً يرفعه جنود الكتائب ويردده الثوار في المظاهرات.
لقد سقينا شجرة الحرية بالدم عشرين شهراً وقدمنا التضحيات بلا حدود، فالآن وقد اقترب القطاف جاؤوا ليسرقوا الثمار؟ كلا ولا كرامة، لا يكون ذلك وفي سوريا شعب من الأحرار.