ما يحدث في سورية، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، في كل مدينة وقرية، هو ثورة عميقة الجذور، شاملة لكل طيف، وكل لون، وكل قيمة من قيم الحياة، وكل نشاط من أنشطة المواطنين.
يفرّق بعض المفكرين بين الإصلاح والثورة، فالأول عندهم يهدف إلى تحقيق تعديلات وتصحيحات في حياة الناس، بينما الثورة تهدف إلى انقلاب شامل جذري في حياتهم. فإذا اعتمدنا هذا التصنيف فهل ما يحدث في سورية إصلاح أم ثورة؟
لقد ابتدأت الأحداث بمطالبات بالإصلاح. لكن سنة الله في المجتمعات تأبى أن يكون هناك إصلاح شكلي لا يمس جذور الشر والفساد، ولا يجتثّ الباطل من قواعده.
ولم يكن بإمكان النظام المتسلط أن يقوم بـ “إصلاحات”! إن أي إصلاح يريده، لو أراد، سيستدعي وضع الحق في نصابه، ويستدعي محاسبة المفسدين. وأنّى يكون للحق موضع في نظام أقام بنيانه على الباطل؟ وأي مفسدين يحاسبهم، والمفسدون هم لُحمة النظام وسُداه؟! فلا تكاد تجد من القائمين على النظام من لم يغرق في الفساد إلى أذنيه. فنظام قام على القمع وتكميم الأفواه وكبت الحريات وسرقة المال العام، والاعتداء على ممتلكات المواطنين وكرامتهم، وعلى التمييز الطائفي والحزبي، وعلى استباحة الحريات والدماء والأموال… واستدعى ذلك منه قتل عشرات الألوف سرّاً وجهراً، ونشر ثقافة التزلف والتملق والخنوع والتهريج والنفاق والهبوط الأخلاقي… هذا النظام لا يمكن أن يكون قابلاً للإصلاح. الإصلاح يعني أن تتهدم قواعده حتى يخرّ عليه السقف من فوقه!..
النظرة السطحية إلى هذا النظام، قبل سنوات من اندلاع الثورة، بل قبل أسابيع من اندلاعها، قد توحي أنه نظام مستقر، استطاع المفسدون أن يُحْكموا قبضتهم عليه، ويضمنوا استمرارهم في السيطرة عليه مدة جيلين أو أكثر، لكن النظرة العميقة كانت تقول شيئاً آخر.
المواطن الذي يرى الفساد قد سدّ عليه الآفاق، وزكم أنفه من رائحته، واكتوى بنار الظلم… ويُطلب منه، فوق ذلك، أن يهتف بحياة الظالم الزنيم، ويعتاد أن لا يصل إلى أي حق من حقوقه إلا برشوة يقدمها إلى الظالم وأعوانه، وإلا بمزيد من التزلف والانحناء.. هذا المواطن الذي كيّف نفسه على التعايش مع الذل والقهر… لا يمكن أن يستمر على هذه الحال إلى الأبد. لقد اختزن في أعماقه التوثّب نحو الثورة. نحو ثورة لا تبقي من الظلم والظالمين ولا تذر.
وقد أذِن الله لهذا الشعب، وهيّاه لأن يثور فيغيّر القيم الهابطة والمفاهيم الخاطئة التي درج عليها، أو أُرغم عليها منذ تسلّط عليه “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، وينطلق ليحقق لنفسه الإيمان والعزة والكرامة، ويثأر لدينه وقرآنه وحرماته.
لقد مضى الزمن الذي كان الناس يتداولون فيه العبارات التي تسوّغ الذل والمهانة: “اليد التي لا تستطيع أن تعضّها، بوسْها وادع عليها بالكسر” “مين ما أخد أمي اسميه عمي” “عين ما بتقاوم مخرز” “امش من الحيط للحيط وقل: يا ربِّ السترة” “ارشي بتمشي” [ادفع رشوة تسلُكْ أمورك].
ومضى الزمن الذي تقصف فيه السلطة بلداً، وتهدم بيوته فوق سكانه، وتعيث فيه فساداً، وتنتهك الحرمات، وتقتُل وتعتقل… فيقول الناس: يا ليتنا لم نتورط في هذه الثورة.
ومضى الزمن الذي يسمع الناس فيه نبأ اعتقال شاب أو استشهاده فيقول بعضهم: مسكين هذا الشاب. ماذا استفاد من معارضته للسلطة؟ أليس حراماً عليه أن رمّل زوجته الشابة، ويتّم أطفاله الصغار، وترك والديه المسنّين وقد انتظراه حتى صار شاباً!…
نعم مضى ذلك الزمن، وجاء زمن صارت الشهادة في سبيل الله أعظم الشهادات، وصار الناس يفاخرون بعدد شهدائهم، والأسرة التي يكون عدد شهدائها قليلاً تخجل من الأسر التي تملك عدداً أكبر من الشهداء، والبلدة التي يكون الحراك فيها أضعف من الحراك في مناطق أخرى، تشعر بالمهانة أمام أصدقائها من تلك المناطق…
جاء الزمن الذي يهتف فيه المنشد القاشوش: “الشعب بدو حرية” فتردد هتافه مئات الآلاف. والزمن الذي يرفع فيه ابن الشارع العادي شعار “الموت ولا المذلّة”.
جاء الزمن الذي راح الشعب يرفع فيه شعارات: “هي لله. هي لله” “ما نركع إلا لله” “الله. سورية. حرية وبس”.
جاء الزمن الذي اتخذ الشعب فيه قراراً بإسقاط السلطة الفاسدة مهما كلفه ذلك من ثمن، وكلما أمعنت السلطة في الإجرام، وسفكت من دماء، وهدمت من بيوت، وذبحت من أطفال… ازداد هذا الشعب إصراراً على المضي في طريقه حتى تحقيق النصر الكامل.
لقد قرأ شعبنا قول ربه سبحانه: ﴿إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.
ولقد غيّر الشعب كثيراً مما في نفسه، من بقايا قيم الذل والمهانة، وأزال كثيراً مما ران على قلبه من ركام عهود الظلم، واسترخص المال والأنفس طلباً للتحرر من ظلم عهد جَمَعَ كل صنوف الفساد، من تسلط حزبي، وتمييز طائفي، وسرقة للأموال، وانتهاك للحرمات…
هذا الشعب ماضٍ في الطريق ولن يتراجع، وهو يجأر إلى الله سبحانه أن يغيّر ما به من اضطهاد وسوء وظلم، وما ذلك على الله بعزيز:
﴿ولينصرنّ الله من ينصره. إنّ الله لقوي عزيز﴾
الوسومالثورة السورية