قبل عدة أسابيع بدأ عمل جادّ حثيث -بصمت بالغ وكتمان شديد- استعداداً لإطلاق حملة عسكرية كبيرة. الهدف: تحرير حماة، المدينة والريف. مساء أمس أعلن الجيش الحر في حماة عن بداية المعركة. لقد استكمل إخواننا المجاهدون على الأرض الاستعداد وبدؤوا بالعمل، وبقي علينا التفاؤل والتشجيع والدعم والدعاء.
ربما تساءل كثيرون: هل هذا القرار صائب حكيم؟ ألم يكن الأَولى أن تبقى تلك المنطقة بعيدةً عن القتال لتوفير المأوى الآمن للمدنيين الهاربين من جحيم الحرب والقصف في المناطق المنكوبة القريبة؟ لا ريب أن في هذا الرأي وجاهة كبيرة؛ فإن من مصلحة الثورة بقاء بعض الجيوب الآمنة حتى اللحظة الأخيرة. ولكن ألا تلاحظون؟ هذه هي اللحظة الأخيرة!
لقد بدأ الثوار منذ شهور طويلة بتحرير مدن وأحياء وبلدات هنا وهناك. كانت تلك مرحلة أولى، وكانت حافلة بالتضحيات والدماء والآلام، فكم من مدينة سيطروا عليها ثم انسحبوا منها مضطرين. أيُلامون؟ لا بد أنهم ارتكبوا أخطاء، ولكن المسار الكبير صحيح، فإن الحروب لا تُحسَم بضربة واحدة وإنما هي كَرّ وفَرّ وتقدم وانسحاب وانتصار وانكسار، وما يزال الطرفان يتداولان الأرضَ حتى تصفو لأشدّهما صبراً وقدرةً على المواصلة والاحتمال. إنه صراع القُوى وصراع الإرادات.
بعد تحرير المدن انتقل الثوار إلى المرحلة الثانية من مراحل الحرب، تحرير المناطق، فنجحوا فيها بعد صَولات وجَولات. وهم الآن على وشك إطلاق المرحلة الثالثة والأخيرة: تحرير سوريا. إنها المرحلة الأخيرة بإذن الله، وهذا يبرّر فتح جبهة حماة الآن، وانتظِروا خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة فتح ثلاث جبهات جديدة يجري الاستعداد لفتحها في هذه الأيام على سوق وأقدام. وماذا بعد ذلك؟ سوف تمضي المرحلة الثالثة إلى نهايتها المحتومة، آخر معارك الثورة وأكبرها، معركة دمشق.
* * *
خلال الأيام الأخيرة تحققت في حلب انتصارات عظيمة لها ما بعدها، فقد سيطر الثوار على مدرسة المشاة، وعلى مستودعات الذخيرة في بلدة خان طومان، وعلى كلية الشؤون الإدارية في منطقة خان العسل، وقبل قليل أعلنوا سيطرتهم على كتيبة حندرات للدفاع الجوي قرب مدرسة المشاة. ويقوم الجيش الحر منذ يومين بالاشتباك مع قوات الاحتلال الأسدية في ثكنة هنانو ومدفعية الزهراء والمخابرات الجوية وسجن حلب المركزي وكتيبة تل عجار المجاورة للمطار والأكاديمية العسكرية بمنطقة الجديدة وكتيبة دريهم (حقل الرمي قرب مسكنة في ريف حلب الشرقي).
لقد صارت أيام معركة حلب معدودة وتمشي بسرعة باتجاه الحسم النهائي، وفي ظل هذه التطورات المتسارعة فإن فتح كل الجبهات هو الخيار الإستراتيجي الأفضل، لا سيما مع الزيادة الهائلة في قدرات الجيش الحر الذي غنم أسلحة عظيمة بعد السيطرة على مدرسة المشاة ومستودع الذخيرة في حلب والفوج 46 في الأتارب وإدارة المركبات في حرستا واللواء 34 في درعا. هذه الغنائم تشمل كمية هائلة من الأسلحة الثقيلة، منها عدد من الدبابات قد يصل إلى مئة دبابة، ومثلها من العربات المدرعة، والمئات من سيارات النقل والعربات الخفيفة، وعدة مئات من مدافع الهاون والرشاشات الثقيلة، والآلاف من قذائف الدبابات وصواريخ غراد ومضادات الدروع، وكميات يصعب حصرها من الأسلحة الفردية الخفيفة.
لقد آن الأوان لفتح الطريق إلى دمشق، وهذا يعني أن توقيت معركة حماة لم يكن عشوائياً، على الرغم من أنه كان على درجة كبيرة من الخطورة لأنه يوازن بين هدفين مهمّين: إبقاء المنطقة هادئة بعيداً عن القصف المكثّف لاستيعاب أكبر عدد ممكن من سكانها ومن المنكوبين والنازحين من سكان المناطق المجاورة، أو تحريرها وفتح الطريق إلى الجنوب، حمص ثم دمشق.
لو كان هذا القرار قبل شهر لقلنا إنه متسرع أو خاطئ، أما اليوم فإن الجبهات كلها يجب أن تشتعل بنار الثورة، والطرق كلها يجب أن تُفتح باتجاه دمشق. لقد أمضى النظام الأسابيع الأخيرة وهو يسحب أفضل قواته من الشرق والجنوب والشمال باتجاه العاصمة، وقد شملت تلك القوات مجموعات النخبة من الحرس الجمهوري والقوات الخاصة التي انسحبت من الدير وحمص وحوران وأعاد النظام نشرها في العاصمة وحواليها، ولم يصنع النظام ذلك إلا لأنه بلغ مرحلة اليأس وأدرك أنه عاجز عن استرجاع الأرض التي يفقدها في كل مكان.
لقد وصل النظام إلى النقطة التي توقعناها وانتظرناها طويلاً: الانسحاب إلى العاصمة والتترّس فيها دفاعاً عن معقله الأخير، ولم يعد أمام الثوار سوى اتخاذ القرار الجريء الكبير: ملاحقة النظام إلى دمشق وحسم معركة التحرير.
نوشك أن نسمع هتاف الثوار يشق عنان سماء الشام: جئناك يا بشار. اللهمّ أيدهم بنصر من عندك يا جبّار يا قهّار، اللهم واربط على قلوب أهلينا في سوريا واحفظهم من كل شر وسوء يا حَيّ يا قيّوم.