في تشخيص أحوال الأمة لا بد من الوقوف على الأسباب والعوامل الداخلية المؤثرة في نهضتها وفي تقهقرها، من أجل دراستها وبيان نسب تأثيرها وآلية عملها… وهو ما تضمنه قول الله عز وجل: (قل: هو من عند أنفسكم) {آل عمران: 160}.
إن ما أصاب أمتنا من انكسار حضاري، وتخلّف وتبعيّة، وتراجع في فاعلية المسلم، لم يكن بسبب عوامل خارجية بعيدة عن إرادتنا وذاتيتنا، وذلك أن وراء كل ظاهرة خارجية عوامل داخلية تهيئ لها، وتمنحها القابلية للوجود، وتحدد اتجاهاتها، وترسم أطر تفاعلاتها… وهذا ما حدا بمفكر مسلم، هو مالك بن نبي، أن يصف حال المسلمين اليوم بـ “القابلية للاستعمار”.
إن العامل الخارجي لا يكون ذا أثر ما لم يتمكن – من خلال الصراع مع العوامل الداخلية – من إزاحة أحد هذه العوامل عن موقعه، أو أن يجد بعض هذه العوامل وقد تعطل عن أداء دوره!
وهذا لا يجعلنا نغضّ الطرف عن أننا نعيش في عالم تنازع البقاء! فكل مصنع نقيمه في أرضنا يراه الآخرون منافساً لمصنع عندهم، وكل نبتة نزرعها ينظرون إليها على أنها خطوة على طريق التحرر من هيمنتهم، وكل سلعة نكفّ عن شرائها من إنتاجهم ستوجد نوعاً من الانحباس في أسواقهم… والأهم من ذلك أن تمسكنا بأي شعيرة من شعائر ديننا، أو سنة من سنن نبينا صلى الله عليه وسلم سيعدُّها الآخرون تحدّياً لهم، ويصفونها بالرجعية والتخلف، وربما بالإرهاب!.
وهذا ليس بعيداً عن أصل الصراع القديم العميق الذي أشار إليه كتاب الله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم) {البقرة: 120}. إنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يصبح جزءاً من رصيدهم، أو تابعاً لملتهم، أو خادماً لهم… فهم يتصيدون أيّ موقف له ليصفوه بالعدوانية والإرهاب… إلا أن يستسلم لبغيهم.
إننا لا نستطيع أن نُقْنع الأعداء بالكفّ عن أذانا، كما لا نستطيع منع الثلوج من السقوط، ولكننا نستطيع أن نحصّن أنفسنا من كيدهم، كما نستطيع أن نمنع سقوط الثلوج فوق رؤوسنا!
إن أرقى أنواع الوعي هو الوعي بالذات، وإن أعظم أنواع الجهل هو الجهل بها.
ومن الوعي بالذات الوعيُ بالعقائد والتصورات والقيم والشرائع… التي تؤمن بها الذات وتختزنها… والوعي بما يموج به المحيط مما يتوافق أو يتضارب مع “الذات”.
والوعي بالذات ليس انغلاقاً عليها، ولا تعبّداً في محرابها، ولكنه الإدراك الحسن لحدودها وشروط وجودها، والظروف الأكثر ملاءمة للحفاظ عليها، وترقية درجة عطائها، فالرقم (7) مثلاً غير ذي قيمة لو لم يكن جزءاً من نظام عددي، فهو يستمد قيمته من الأرقام التي تسبقه والتي تلحقه.
وحتى نتمكن من وعي المرحلة التي نعبرها لا بد من معرفة المراحل التي يعبرها الآخرون، وهذا يدفعنا إلى الانفتاح مع إدراكنا أهمية البحث عن الذات.
وإن غياب الوعي بالذات يوقع الأمة في محذورين خطيرين:
الأول: تشرّب عناصر ترفضها ثقافة الأمة، لاصطدامها مع بعض منظوماتها العقدية أو الشعورية أو التاريخية، مما يؤدي إلى صراع بين ثقافة الأمة وبين هذا الوافد الجديد، ويؤدي أيضاً إلى ضرب الموازنات العميقة للأمة، والانحباس في تقدمها.
الثاني: هو الجمود والعزلة عن تيارات الثقافة العالمية، وهذا يجعل الثقافة المنعزلة هدفاً للاضمحلال والضمور.
فالمسلمون أصحاب رسالة وأهداف، والمقدمات النظرية لثقافتهم تركت هوامش واسعة في ذاتية الأمة تسمح لها بالتفاعل مع الآخرين أخذاً وعطاءً، فلم يبقَ بعد هذا وذاك أمامنا من سبيل سوى أن نرسم حدود ذاتنا موضحين المركز والإطار في كل ما نأتي ونذر، متذرّعين إلى ذلك بالاجتهاد الدائم على شتى الصُّعُد.
حينئذ نستطيع أن نسبح مع التيار وضده، ونزداد مع ذلك قوة ومناعة، دون أن نخشى من الغرق!.
والتفكير الموضوعي هو أول خطوة على طريق الوعي بالذات، وعلى طريق إدراك جذور كثير من انحرافنا وأسبابه ومظاهره.
ولا نغالي إذا قلنا: إننا في معركة مع أطراف أخرى تريد أن تفرض ذواتها وتمحو ذاتنا. فهي تجعل من ثقافتها وقيمها ومواضعاتها مقياساً للحق والصواب، وتحكم على ما يخالف ذلك بأنه الباطل الذي يجب إلغاؤه، فإذا انصاع أصحابه وسلّموا بهذا الإلغاء فقد “اتّبعوا ملتهم” ورضوا به ذيلاً ذليلاً، وإذا أبَوا إلا المحافظة على ذواتهم فهم يهدّدون بالقوة الغاشمة، ويشيرون إلى “رأس الذئب المقطوع”.
وإذا كان الذين يستمدون قيمهم من أهوائهم، يحرصون هذا الحرص على فرض قيمهم هذه، فما أحرى الذين يأوون إلى ركن شديد، ويستمدون قيمهم وقواهم من لدن حكيم عليم، قوي غني… أن يدركوا ذواتهم، ويرفعوا رؤوسهم، ويتمسكوا بالحق المبين!.