1- منذ انطلقت الثورة السورية العظيمة، بدأت بعض الأصوات تظهر بطريقة عصية على الفهم..
أدونيس الشاعر المفكر الحالم بنوبل، ساءه أن يخرج المتظاهرون من المساجد.. وكأنما كان هناك مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه الناس غير المساجد.! كما ساءه أن يسمع صوت : الله أكبر، تصدح بها حناجر شباب متروكين للقتل. ماعندهم مايرفع من معنوياتهم غير هذه الكلمة، بكل ثقلها ورمزيتها وأثرها.. كان عليهم أن يستحضروا شعارات الثورة الفرنسية أو البلشفية، أو أية شعارات أخرى غير الشعارات الإسلامية.. كان على الناس أن ينخلعوا من ثقافتهم وتراثهم ويستعيروا ثوبا يفصّله لهم أدونيس. وأن يتركوا ثقافة الشهادة إلى ثقافة العدم… مشكلة أدونيس أن الدين يشكل له هاجسا مرضيّاً مزمنا.. الدين الإسلامي بخاصة. وهو هاجس لايستطيع الفكاك منه.. يعظنا أدونيس في كل مقال يكتبه أن ننسى السماء ونلتفت إلى الأرض.. أن ننسى الماضي وننظر للأمام.. ولكن الشعوب المتخلفة، في ظنه، لاتستجيب.. الوصفات الأدونيسية هي التي ستخرجنا من تخلفنا وآلامنا ومشكلاتنا إلى جنته الموعودة في الأرض لا في السماء.. وهي التي ستضعنا في مصاف الأمم المتقدمة. المشكلة أن الشعوب العربية، في ظنه، لا تفهم!؟ وحين تقول لشيء لايروقه: نعم، (الدستور المصري مثلا) فإن كلمة نعم يمكن أن تصبح من أبشع الكلمات في اللغة، حسب تعبيره. التصويت للإسلاميين يعني عنده العودة للقرون الوسطى.. حتى نموذج أردوغان في تركيا هو نموذج اللون الواحد، وهو ارتكاس عن الكمالية كما يقول. وهو لايبالي أن يتهم شعبا كبيرا بالنكوص.. في حين يرى العميان ماذا عمل أردوغان في تركيا.
لن نستغرب شيئا. فأدونيس عاش متمردا على ثقافة أمته، دائم الغمز واللمز بها . وهو لايمل من المحاضرة علينا بوجوب تقبل التعدد،لأن ثقافتنا تقوم على إلغاء الآخر المختلف والمخالف!؟ إنه لا يستطيع أن يرى مساحة التسامح الذي عاشه هو، ويعيشه أبناء هذه المنطقة.. لا يستطيع أن يفهم (لا إكراه في الدين) ولا أن يرى الغرب محافظا على اللون الواحد قرونا عدة. في حين كانت سوريا تعج بسائر الملل والنحل.. وماتزال!
أدونيس لا يتوقف عن انتقاد (ثقافتنا) ولكنه معتز جدا ب( ثقافته).. حيث لم نقرأ له شيئا في نقد ثقافة الحشاشين .. ثقافة الحقد والخرافة والظلام!؟ قرأنا الثناء عليها فحسب، باعتبارها ثقافة ثورة وتمرد و(باطنية) يسميها هو: صوفية.
أدونيس ليس وحده.. إنه مجرد نموذج.. لكنه النموذج الأبرز في ميدانه.
2- ميشيل كيلو مثقف وطني حر،. مناضل كبير، لكنه ضارب نفسه بخمسة.. تحسبه حين يتحدث أبا الثورة ، بما في الأبوة من وجاهة ووصاية.. ميشيل فاقد الأعصاب في هذه الأيام.. إسلامية الثورة السورية كما يراها تزعجه وتقض مضجعه.. لايشفع للثائرين آلاف الشعارات واليافطات التي تؤكد على وطنية الثورة ووحدة الشعب السوري.. هو يشترك مع أدونيس في الموقف السلبي من الإسلام حين يطل بوجهه خارج حدود الضمائر والمساجد ليضيء آفاق الحياة. ينفّس عن ذلك بمهاجمة الإسلاميين.. فهي الطريقة الرائجة اليوم..وهي الطريقة الأسلم! وهي السبيل لأن تفتح له المنابر أبوابها.
ميشيل كيلو كتب مقالا لا يتورط في كتابته كاتب مبتدئ، يمتلك حدا أدنى من احترام الذات، ملفقا كلاما لا أصل له على لسان المراقب العام للإخوان السيد رياض الشقفة.. تبعته مقالات تنضح بالتعصب والنزق، ستبقى في سجلاته شاهدة على مرحلة ذهبية من حياته.
ميشيل كيلو مناضل.. ولكن الذين قدموا أكثر من عشرين ألف شهيد في سجن تدمر على سنوات عدة.. والذين تعرضوا لسجن أطول وأقسى بمرات من سجن السيد كيلو ، والذين خرجوا من ديارهم وتشردوا في بقاع الأرض ثلث قرن .. هؤلاء ليسوا مناضلين!؟ بل ربما كانوا متطرفين في نظره.
اليوم، يؤدي ميشيل كيلو في المعارضة دورا محيرا !؟ دورا يقوم على الرفض والهدم.. رفض كل دعوة لاجتماع، سواء في المجلس الوطني أو الائتلاف، ثم ينهال على هذا وذاك نقدا وهدما . وهذا أيسر ما يصنعه معارض يرضي به الجماهير المتطلعة إلى إنجاز، وإن كان هو لاينجز شيئا، إلا محاولات واهمة لبناء تشكيلاته الخاصة: المنبر مقابل هيئة التنسيق، وتجمع القاهرة الأخير مقابل الائتلاف .
واليوم يكتب ميشيل كيلو في الهجوم على الإسلاميين أكثر مما يكتب في النظام السفاح! دخول امرأة مواطنة سورية محجبة إلى الأمانة العامة في المجلس الوطني أثار حنقه وأفقده صوابه، فسماه: عودة إلى العصر الحجري. هكذا ! وبلا مراعاة لأبسط قواعد اللباقة والمنطق والحرية والتعددية.. ومن غير أن يلتفت إلى أن العصر الحجري كان عصر عري لا عصر حجاب ..!. وهو يحذر الشعب السوري والمجتمع الدولي من أن البديل الإسلامي في سوريا لن يكون ديمقراطيا.. مع أن أحدا لم يتحدث عن بديل إسلامي. والإخوان أعلنوا مرارا وتكرارا أنهم لايرغبون ولا يقدرون منفردين على تحمل مسئولية قيادة الوطن بعد انهيار النظام.. ولكن الرجل لا يريد أن يصدق!؟ أو لايريد أن يسمع.
ميشيل كيلو نموذج آخر.. وله أشباه، هم دونه في الشهرة، وإن لم يكونوا دونه في سوء الفهم والإصرار عليه! ! حتى لقد بلغ الأمر بأحدهم أن يقول: نار بشار ولا جنة الإسلاميين!؟
3- كمال اللبواني نموذج ثالث.. مناضل اعتقله بشار الأسد قبل سنوات بعد عودته من لقاء مع بوش الابن، ولم يفرج عنه برغم نداء الرئيس الأمريكي آنذاك على مرأى ومسمع العالم.. ثم أفرج عنه بشار في بداية الثورة.. ليلتحق بالثوار ..( لنقل إن الأمر مجرد مصادفة).. التحق اللبواني بالثورة، وكان دوره الدائم الدائب هو تشتيت المعارضة، والشغب عليها.. بشكل لو أن أحدا أراد تخريب المعارضة لما فعل أكثر مما يفعل. ربما كان الأمر يتعلق بالموقع الذي كان يتطلع إليه في المجلس الوطني، أو الائتلاف فيما بعد.. عدم حصول ذلك، والإخوان ليسوا هم السبب، جعله ينقم على المجلس الوطني والائتلاف معا.. الزعم الجاهز هو أن الإخوان يسيطرون على الأول والثاني.. المتابعون يعلمون أن هذه الفرية يستخدمها المجتمع الدولي للتنصل من مسئولياته الأخلاقية في حماية الشعب السوري.. والمتابعون يعلمون أن عدد الإخوان في المكتب التنفيذي للمجلس الوطني هو واحد من عشرة، فكيف يسيطر على المكتب التنفيذي إلا إذا كان هذا الواحد سوبرمان؟ كما أن عدد الإخوان في الأمانة العامة ثلاثة من أربعين، فكيف يسيطرون عليها؟ وأين الآخرون؟ أليس في ادعاء كهذا إهانة لأعضاء المجلس والائتلاف معا؟!
كمال اللبواني، ضارب نفسه بعشرة.. عقدته لاحل لها إلا في الداخل السوري.. حيث سيعرف هو، ويعرف الناس، من صناديق الاقتراع مقدار ما يمثله كل فرد وكل جهة.. وحتى ذلك الحين، تفتح له المنابر صدرها يسرح فيها ويمرح كما يريد.. أهي مؤامرة على المعارضة؟ أم نوع من ( الأكشن) والإثارة التي يبحث عنها الإعلام؟!
يضايقه أن يكون الإخوان منظمين ومؤثرين، فهل هذا مما يعيبهم ؟ أم إن في قوتهم قوة للمعارضة؟ وكيف يريد التعامل معهم؟ بالقانون 49 لعام 80؟ أم بحل أنفسهم والجلوس في بيوتهم ؟ أم بأن يكون هو من يحدد لهم دورهم وحركتهم؟!
والذي لا ينقضي منه العجب ما سمعه الناس من اللبواني في إطلالة له على قناة أورينت ، حيث راح يتحدث كأحد شيوخ السلفية الجهادية !؟ ويبشر بانتقال المجاهدين للمعركة الكبرى، معركة تحرير فلسطين على أيديهم وتوحيد دول المشرق العربي. فالرجل لايعترف بسايكس بيكو.. حتى إن المذيع بدا مبهوتا مما يسمع! فهل كان الرجل يعني ما يقول؟ أم كان يبيع كلاما، أم كان يؤدي دورا مرسوما؟
إنه نموذج أيضا.. ولكنه النموذج الأعجب!
4- لاينتهي بعض الناس من نقد الإخوان.. فهم غير ناجين من النقد مهما فعلوا.. هناك من يسألهم أين أنتم؟ ومن يسألهم لماذا أنتم هنا؟
هناك من يريدهم أن يتقدموا، ومن يريدهم أن يتأخروا، ومن يريد إقصاءهم بطريقة ناعمة أو خشنة.. وهناك من يريدهم أن يكونوا حيث يريد أن يضعهم هو؟!
الثورة لم يصنعها الإخوان ولا النخب.. هناك من النخب من كان له دور جزئي.. الثورة صنعها الشعب.. وهذه هي الثورة الحقيقية.. كان موقف الإخوان ألا يتقدموا ولا يتأخروا عن الثورة وشبابها.. وأن يكونوا في موقف الداعم. ولا يسعهم غير هذا.
ساهموا في الثورة بالجهد والمال، حين كان غيرهم يتسابق إلى شاشات التلفزة.. شاركوا بفاعلية في توحيد المعارضة، من خلال الدعوة إلى أول مؤتمر لها في اسطنبول، ثم المشاركة الإيجابية في جميع المؤتمرات التالية في أنطاليا وبروكسل وما بعدهما، وكان لهم الدور الكبير في تشكيل المجلس الوطني.. دفعوا من جيوبهم (فليس هناك دول تدعمهم كما يزعم اللبواني).. تنازلوا عن مواقعهم لغيرهم.. أصدروا من البيانات ما يكفي لطمأنة من يريد أن يطمئن.. كانوا في الثورة دائما أم الولد..دعوا إلى دولة تداولية ديمقراطية تعددية تقوم على المواطنة..خاطبوا ( الأقليات) كمواطنين سواسية.. أعلنوا وثيقة العهد والميثاق، وأعادوا التأكيد فيها على ماسبق أن أعلنوه في أدبياتهم مرارا من التزامهم بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وسائر الحقوق المشروعة في عالم اليوم (وهي حقوق سبق إليها الإسلام)..وكسبوا بذلك كثيرين من العقلاء الموضوعيين، من الأقليات والعلمانيين.. بعض منتقديهم لم يقرؤوهم.. وبعض آخر لايريد أن يصدقهم . وهذه مشكلته هو.. فليس لدى أحد منا اليوم غير الكلمة يقولها لأبناء وطنه.
لقد حسم الإخوان خيارهم في مشروعهم السياسي منذ عام 2004 وما قبله.. وأعلنوا قبولهم بنتائج صناديق الاقتراع.. أراد فريق من الناس إحراجهم فقالوا: حتى لو جاءت الصناديق بامرأة أو علماني أو مسيحي؟ قال الإخوان: نعم.. فقالوا: هذه مراوغة وباطنية!
توافقيا وانتخابيا، رأس المجلس الوطني علماني وكردي ومسيحي، ولم يعترض الإخوان، بل صوتوا للثلاثة كمواطنين وحسب.. ولكن مدمني المكابرة قالوا: لا، هذا تكتيك! فالإخوان يحركون المجلس من وراء ستار!؟
الإخوان المسلمون جزء من الشعب ومن المعارضة.. وهم يتعرضون لحملة مشبوهة ممنهجة، حملة شرسة غير عادلة ولا أخلاقية، تقف وراءها جهات كثيرة تجمعها رغبات مريضة في تشويه صورتهم وإقصائهم عن ساحة العمل الوطني، أو تحجيم دورهم على الأقل، أو إشاعة البلبلة في صفوف المعارضة. حملة بدأها نظام البعث وآل الأسد قبل خمسين عاما، وتكملها اليوم جهات بعضها محسوب على المعارضة، وجهات لها مواقف متطرفة من كل ماهو إسلامي.. حملة لن يجني منها ممولوها وأدواتها غير الخيبة والخسار.
الإخوان المسلمون ليسوا ملائكة ولا قديسين.. إنهم مواطنون كغيرهم.. هكذا يرون أنفسهم. من حقهم أن يشاركوا في الثورة وفي بناء الوطن. على طريقتهم هم، ومن غير إذن من أحد. فهم لم يأتوا من عالم آخر.. كما أنه من حق الناس أن تنتقدهم، وهم يرحبون بالنقد حين يكون نقدا موضوعيا يقوم على سرد الحقائق لا الأباطيل والافتراءات والأوهام.. أما نفثات الغضب وتفريغ شحنات الكراهية ومهاجمة الآخرين لستر العجز فهي أمور لاعلاقة لها بالنقد..
مشروع الإخوان الذي يتداولونه اليوم فيما بينهم لمستقبل سورية هو بكلمة واحدة: خدمة الوطن والشعب السوري.. مشروع يرفض الإقصاء، ويؤمن بالمشاركة على مبدأ المواطنة..
المشكلة في النهاية ليست عند الإخوان..المشكلة عند من يزعمون الإيمان بالديمقراطية شرط أن تكون على مزاجهم ومقاسهم. ومن يشترطون معها اشتراطات، فإن أقرها الإخوان راحوا يروغون يمينا ويسارا.. المشكلة مع الذين إن اختارهم الشعب فهو مؤهل للديمقراطية، وإن اختار الإسلاميين فهو جاهل ساذج، وديمقراطيته باطلة.. أليس هذا هو منطق الاستبداد الذي دفع شعوب الربيع العربي إلى الثورة؟ وهل يتوقع هؤلاء أن يرضخ الشعب السوري لهم ، وهو الذي انتزع حريته من أنياب الأسد!؟