المصطلحات المذكورة وأمثالها تروج على الألسنة في هذه المرحلة، ربّما أكثر من رواجها في أي مرحلة سلفت.
ولا يصعب على الإنسان العادي، بله المختص، أن يفرّق بينها، فهي مفترقة فعلاً. فمثلاً ليس كلّ من دعا إلى الإسلام السياسي مارس الإرهاب، كما أن الإرهاب ليس مقصوراً على أصحاب الإسلام السياسي، بل ليس مقصوراً على المسلمين أصلاً.. وقُل مثل ذلك عن علاقة العمل السرّي بالإسلام السياسي.
وهذا كله إذا اتفقنا على مفهوم الإسلام السياسي وشرعيّته، وحدود العمل السريّ ومشروعيّته كذلك، فضلاً عن تعريف الإرهاب، والخلط بين الإرهاب الذي يمكن تحريمه أو تجريمه، وبين الحقّ في مقاومة الظّلم والقهر والاحتلال…
وليس من شأن مقالٍ كهذا، أن يسُلّ الخيوط المتداخلة المعقّدة داخل كل مصطلح من هذه المصطلحات، أو بين امتزاج حقيقي أو متوهَّم بين مصطلح وآخر. إنّما يُمكن فقط تسليط إضاءات على الموضوع، ليكون ذلك خطوة على طريق تجليته ومعرفة جذوره، وفرز المشروع منه، من غير المشروع.
“الإسلام السياسي” مصطلح حديث يُطلق عادة على الاتجاه الذي يدعو إلى أن يحكم الإسلام الحياة في جوانبها كافة، السياسي منها والاجتماعي والقضائي والتربوي… وليس هناك إنسان بعينه أو حزبٌ يمكن أن يكون ممثلاً شرعياً وحيداً لأصحاب هذا الاتجاه، حتى نعُدّ كلامه فيصلاً في تفسير الكلمة أو تفصيل مناهجها. فمثلاً: هل يقبل أصحاب هذا الاتجاه بالعمل من ضمن أنظمة حكم علمانيّة، إذا كان هذا العمل يُعينهم على التقدّم في طريق أسلمة المجتمع والنظام؟ وهل يُقرّون استخدام القوة في الوصول إلى أهدافهم؟ وهل يقبلون بتداول السلطة مع أحزاب علمانيّة؟ وهل يقتصرون على العمل العلني في جميع الظروف، أم أنهم يمكن أن يلجؤوا إلى العمل السري إذا اضطروا لذلك؟!
لا نحسب أن هناك إجابات متّفقاً عليها لهذه الأسئلة وأمثالها، ولكنّ الإسلام، في نصوصه المقدّسة، وفي اجتهادات علمائه، قد أكّد أن الحاكميّة وحق التشريع لله، وجاء بتشريعات كليّة وجزئيّة تتناول حياة الإنسان في النطاق الفردي والنطاق الأسري، وعلى مستوى الدولة والأمة والعالم، وفي مجالات الحياة كافة. وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك إسلام سياسي، وإسلام غير سياسي، إنما هناك أناس تبنّوا الإسلام بكل ما فيه، وعُرفوا بأصحاب الإسلام السياسي! وآخرون اقتصروا من الإسلام على الجوانب التي تُزيل الاحتكاك بينهم وبين السلطات الحاكمة.
فكلما دسَّت هذه السلطات أنفها في قضيّة – وما أكثر ما تفعل – سَحَبَ هؤلاء أيديهم عن هذه القضية وتركوها للسلطات تفعل ما تشاء، ولو كان الذي تفعله هو إفساد تربية الأجيال، ونشر الفجور، والتضييق على المتديّنين لحجبهم عن الوظائف العامة، وإضاعة الأرض جزءاً جزءاً، و”المحافظة” على شَرذمة الأمة، والتخلّي عن نُصرة قضايا المسلمين في كل مكان…
أصحاب الإسلام السياسي يتطلعون إلى أن يسود الإسلام في المجتمع، ويحكم كل قضاياه… لكنهم يختلفون في الوسائل المشروعة والناجعة، للوصول إلى ما يُريدون. أما الآخرون من المسلمين فهم أصحاب الإسلام العلماني، ارتضَوا هذه التسمية أو رفضوها، وقد أسقطوا من اهتمامهم إقامة الحكم بالإسلام، ورضُوا من أحكام الإسلام بما تسمح به السلطات الحاكمة!.
فهل يُمنع صاحب أي اتجاه: اشتراكي أو ليبرالي، وطني أو قومي، ملكي أو جمهوري أو رئاسي… من أن يدعو إلى فكرته، ويشكّل لها حزباً، وينشر كتباً وصحفاً ومجلات… إلا أصحاب الإسلام “السياسي”؟!.
والعمل السرّي ليس شهوة عند أصحابه، إسلاميين كانوا، أو ماسونيين، أو قوميين. وقد شهد التاريخ القديم والحديث والمعاصر تنظيمات سرية ينتمي أصحابها إلى مختلف المشارب، ويجمع بينهم أنهم يَلْقَون تضييقاً أو سحقاً… فيختارون أسلوباً سريّاً يُربّون فيه أنصارهم على معتقداتهم، ويكسبون أنصاراً جُدُداً عن طريق الاتصال الفردي… وفي خلاياهم ودوائرهم المغلقة قد تنشأ أفكار خطيرة لا تنسجم مع الأفكار الشائعة في المجتمع، أو لا يرضى عنها أولو السلطان.
وهنا يطرح السؤال نفسَه: من المسؤول عن نشأة المنظّمات السرية ونموّها؟ لماذا لا يُتيح أولو الأمر للأفراد المخالفين حق طرح آرائهم ومناقشتها تحت الشمس؟!
قد يقال: إن بعض ما يُطرح يكون مدمّراً للأمة، ولا يجوز السماح به، وإنّ الذين يمارسونه سرّاً، ويجمعون حوله الأتباع، مجرمون مرتين. مرةً لأنهم تبنَّوا القيم الهدّامة، ومرّةً لأنهم توسّلوا إلى نصرة قيمهم بالتنظيم السري!.
وهذا الذي يقال يحتاج إلى ضابط. فليس كلّ ما خالف هوى الحاكم كان مدمّراً للأمة. إنما المدمّر ما خالف القيم العليا التي ترتضيها الأمة فعلاً. ولو أن الحاكم اقتصر على قمع من يُخالف القيم العليا للأمة، فإن الذين يمكن أن يتجمعوا سرّاً لنصرة القيم الفاسدة يكونون من المرذولين الساقطين في نظر الأمّة، ولن يلقَوا من يناصرهم. أما إذا كان أصحاب التنظيمات السرية من ذوي الخلق والاستقامة والنظافة، فالخلل يكمن في وجود القمع الذي يؤدّي إلى عزل هؤلاء الأفاضل، وحشرهم في زوايا ضيقة لا يجدون فيها بدّاً من الأسلوب السري!.
وأخيراً: الإرهاب
وتدخل هنا مشكلة تعريف الإرهاب، وحيث إنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالمياً، وحيث إنّه لا يجوز اعتبار أي استخدام للقوة إرهاباً. فإننا نقترح للإرهاب (المرفوض) تعريفاً نبني عليه مناقشة الفكرة.
الإرهاب هو استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها، لتحقيق أهداف غير مشروعة، أو لتحقيق أهداف مشروعة يُمكن الوصول إليها بطريقة سلمية.
وعليه، فإن الذي يقاوم من احتلَّ أرضه، أو انتهك مقدّساته، أو اعتدى على دينه أو عرضه أو ماله… لا يُعدُّ إرهابياً إذا أُغلقت أمامه أبواب التغيير بالطرق السلميّة.
فحين يجد أصحاب أي اتجاه سياسي، من إسلاميين وغير إسلاميين، أنهم يُحارَبون في فكرهم وسُبُل عيشهم، ويُحرمون من وسائل التعبير عن الرأي، ويُمنعون من تشكيل حزب وإصدار صحيفة، ويتعرّضون للسجن والتعذيب، وربّما الإعدام، وتُطبَّق عليهم “قوانين الطوارئ” مدة أشهر وسنين! وقد يَلْقَون الأذى بسبب أمور تدخل في الحقوق الشخصية (كأن تلبس المرأة الحجاب)، ويُحال بينهم وبين دخول الجيش وكثير من الوظائف العامة، وإذا جرت انتخابات في البلاد فهم محرومون من الترشيح فيها، أو معرّضون للإبعاد والتهميش، نتيجة تزوير الانتخابات، أو تعرُّض الانتخابات كلها للإلغاء إذا أدّت إلى وصولهم…
عندما يحصل هذا، أو معظمه، يجد أصحاب هذا الفكر أنفسَهم أمام خيارين صعبين: إما أن يستسلموا للأمر الواقع، فيُنْفَوا من الحياة، ويُمنَعوا من الحق الذي يمارسه أبناء الوطن الآخرون، ويتعرّضوا للمحنة بعد المحنة… وإما أن يقاوموا فيُقال عنهم: إرهابيّون!.
وليس صعباً أن نجد أناساً وصلوا إلى مثل هذه النتيجة، منهم من ينتمي إلى الإسلاميين، ومنهم من أتباع ديانات أخرى، ومنهم علمانيّون…
وأخيراً نؤكد أن لا ارتباط بين الإسلام السياسي، والعمل السري والإرهاب، ونأتي على ذلك بأمثلة واقعية:
جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تتبنّى الإسلام السياسي، وترفض استخدام القوة، وتعمل عملاً شبه علني (أو هو عمل علني تُمانعه الدولة ولا تعترف بمشروعيته).
والإخوان المسلمون في الأردن كذلك يتبنّون الإسلام السياسي، ويعملون بشكل علني، ويرفضون استخدام القوة.
وإخوان سورية من أصحاب الإسلام السياسي كذلك، قد مرّوا بمراحل علنية، ثم لجؤوا إلى العمل السري عندما مُنِعوا من العمل العلني، ولجؤوا إلى استخدام القوة في فترة محدّدة عندما أُغلقت عليهم الأبواب وصاروا في موقع الدفاع عن أنفسهم، ثم عادوا إلى العمل السياسي بعيداً عن استخدام القوة.
وحزب التحرير في بلاد كثيرة، يتبنّى العمل السياسي الإسلامي، وتنظيمه سريّ، ولم يقبل باستخدام القوة…
وأربكان في تركية، عمل في العلن، ولم يستخدم القوة.
ومع هذا يتعرّض الإسلاميّون في معظم البلدان إلى القهر والإبعاد والاضطهاد، فيضطرون إلى العمل السري أحياناً، وقد يضطرون إلى المقاومة فيُتّهمون بالإرهاب.