ما يجري من مجازر ليس صدفة بل هو سياسة مرسومة بغض نظر دولي، فما يجري في حمص وريفها من مجازر هدفه ترهيب السكان لتفريغ هذه المناطق من أهلها السنة هو تمهيد للدويلة العلوية وعاصمتها طرطوس والتي قد تضم منطقة وادي النصارى. وهو مخطط يهدف أيضا لفصل شمال سوريا (حلب وحماة) عن جنوبها (دمشق) عبر حمص وبعض من ريفها (بعد علونتها) وكل ذلك تمهيدا لتوافق أمريكي روسي إيراني بتقسيم سورية إلى كانتونات في إطار دولة كونفيدرالية ذات سلطة مركزية ضعيفة جدا في حال أسقطت الثورة عسكريا أو كادت النظام الطائفي الحالي، وفي نفس الوقت لم ينجح المجتمع الدولي و”أصدقاء الشعب السوري” بمن فيهم العرب بتمرير مخطط الابراهيمي المسمى “الانتقال السياسي”، الذي سيذهب برئيس النظام وبعض من أركانه ويبقي سلطة العلويين على مفاصل الدولة وخاصة مؤسساتها الأمنية والعسكرية (كما كان الأمر منذ نصف قرن حتى الآن بعد الانقلاب الطائفي تحت ستار حزب البعث).
نفس المخطط يطبق في ريف حماه وإدلب في كل خطوط التماس في محاولة لتوسيع رقع هذه الدويلة وتوسيع حزام الأمان العسكري الاستراتيجي حولها. “سنة” المدن الساحلية هم الهدف التالي لتحقيق أغلبية علوية كبيرة في الدويلة العلوية، وما يجري في حمص هو سيناريو لما يخطط له لهذه المدن وخاصة اللاذقية وبانياس التي سيسعون لتفريغ ما تيسر من سكانها السنة مباشرة أو تدريجيا، أما طرطوس وجبلة فقد تم إغراقها سابقا بأكثرية علوية مما سيسهل تهجير جزء على الأقل ممن تبقى منهم وتدجين الباقين وتهجيرهم تدريجيا.
المعارضون العلويون أقلية لا تكاد تلاحظ ويتعرضون للاضطهاد من قبل مجتمعهم، فمع بداية الثورة ادعت الغالبية الساحقة من العلويون الخوف من التغيير وطالبوا “بضمانات”، تمثلت في الحقيقة باستمرار سيطرتهم على الدولة وأجهزتها وتحت حكم نفس العائلة الفاسدة مع إصلاحات شكلية لا قيمة لها. بالمقابل قالت مئات بيانات الثوار وآلاف من شعاراتهم في المظاهرات بـ “الشعب السوري واحد” لكنهم نشدوا تغييرا حقيقيا. بدأ النظام بتجييش العلويين طائفيا فوجدت دعوته أرضا خصبة، وما أسهل التجييش الطائفي، وهكذا تحولت مخاوف العلويين مع الوقت من خوف من التغيير إلى حقد طائفي على من يحاول ان يسلب الطائفة امتيازاتها فبات هذا الحقد الطائفي سببا بحد ذاته، وترافق كل ذلك بتحول مهنة التشبيح عبر الانخراط في أجهزة الأمن والجيش وميليشيات الشبيحة، ترافق بتحولها لمهنة مربحة من غنائم السرقة والنهب والسلب والخطف خاصة بعد إفراغ مناطق كثيرة من سكانها، وهكذا ظهرت “سوق السنة” التي يجري فيها تصريف بعضا من غنائم هذه الغزوات، وترافق ذلك باستسهال للقتل والتعذيب والاغتصاب ليخرج هؤلاء أحط ما في النفس الإنسانية من شرور في غياب كل محاسبة محتملة، وفي ظل تشجيع مباشر من قبل النظام ناهيك عن التشجيع المستتر من قبل حلفاء النظام وخاصة الطائفيين منهم، وأيضا في ظل غض بصر دولي عملي من قبل “أصدقاء سوريا” ومهل لا تنتهي للنظام لإنهاء ما بدأه، ورسائل خاطئة عديدة للنظام ومن خلفه العلويين بأن المجتمع الدولي لن يتدخل عسكريا كما أنه لن يسلح الثوار، وقد رافق كل ذلك خسائر بشرية قليلة جدا بين العلويين من أنصار النظام بالمقارنة مع المكاسب المادية والنزوات الطائفية التي كانوا يحققونها خاصة في العام الأول للثورة مما أوحى لهم أن الانتصار العسكري مضمون فكانت الجرائم التي تم ارتكابها هي الضمانة التي سعوا لها.
لكن وتدريجيا، بدأت الأمور تجري خلافا لما تريد كل سفن النظام وانصاره وحلفائه و”أصدقاء سوريا”، فقد بدأت الكفة العسكرية تميل لصالح الثوار، ومنذ تلك اللحظة باتت المنطقة التي يتم تحريرها بأيدي الثوار وبثمن كبير جدا، تغدو منطقة خارجة إلى الأبد عن سيطرة النظام، وهكذأ بدأ النظام بتدمير هذه المناطق وفق سياسة الأرض المحروقة، وبنفس الوقت بدأ بتجميع الرهائن من المعتقلين، وهكذا توقفت عمليات الإفراج عن المعتقلين مع إضافة معتقلين آخرين إلى القائمة لتبلغ مئات الآلاف وهي في تزايد ليتوقف العد بعدها.
لكن وبالمقابل لم يعد الأمر نزهة كما كان الأمر في السنة الأولى للثورة، فقد بدأت تتكدس نعوش العلويين وتغطي السرادق السوداء كل مناطقهم وتصبح كل الطرق متجللة بأقمشة سوداء، هنا فقط بدأت الأصوات بالارتفاع بالشكوى من خسائرهم، طبعا ليس خوفا على الوحدة الوطنية ولا تحسسا لآلام ضحاياهم، وهنا بدأ الخوف من المستقبل يطفو على السطح من جديد، لا خوفا على انهيار “دولة سوريا العلوية” فقط التي بنيت على مدى نصف قرن، بل خوفا من الانتقام الذي قد يواجهونه لما فعل البعض منهم، وهكذا وبشكل دراماتيكي، بدأت تلتقي مطالبهم مع مطالب بعض من (وليس كل) قلة من العلويين المؤيدين للثورة وبتنا نسمع من الجميع لغة الحاجة “للتطمينات والضمانات”، مع ملاحظة أن الثوار لم يستهدفوا بالقصف يوما منطقة علوية أو مارسوا القتل الطائفي مع جيرانهم في نقاط التماس الطائفي مع توفر كل إمكانية لذلك، طبعا لا ينسى هؤلاء ومعهم “أصدقاء سوريا” الصراخ من أجل بعض الحوادث الفردية المعزولة التي لا يمكن اعتبارها بأي حال سياسة للثوار.
إذا اليوم وبعد ما يقارب من عامين من الثورة، باتت هذه الأغلبية الساحقة من العلويين موقنة بالهزيمة، فقد اختلفت التوقعات واختفى السراب وتغير معه مضمون “الضمانات والتطمينات”، واقترب هؤلاء في مواقفهم من مواقف “أصدقاء سوريا”، فباتت “الضمانات والتطمينات” المطلوبة تتمثل بقبول مخطط “الانتقال السياسي” و”الحوار” أو ما يمكن أن يقترب من “النموذج اليمني” الذي سيحفظ للعلويين استمرار سيطرتهم على الدولة كما يمكن بواسطته الافلات من العدالة، وهنا بات بشار أسد تدريجيا يظهر كعقبة في وجه هذا المخطط، فلا يمكن تحقيق المخطط إن بقي في السلطة فسينهار النظام عسكريا لاحقا وفق ما يجري، أما إن تم إبعاده بالإكراه فقد ينهار معسكره الهش، لذلك بات الخلاف ما بين الأطراف الدولية في طريقة وشكل إخراجه وسرعة ذلك، والهدف دائما ضمان عدم انهيار النظام باسم “المحافظة على الدولة ومؤسساتها”، لكن العلويين لا زالوا متمسكين به بانتظار ضمان بقائه تحت ستار لعبة خروجه “البطيء والمراوغ والمشرف والسلس” ليذهبوا بعدها إلى “انتقال سياسي” وفق المخطط الدولي الذي يتجاوز الثورة وأهدافها ويفرغها من مضمونها ويبقي سيطرتهم على الدولة وتذهب العدالة إلى الجحيم.
لكن ماذا إن فشل مخطط “الانتقال السياسي”؟؟؟ هنا لابد من سيناريو بديل للنظام وأنصاره وحلفائه ومعهم “أصدقاء سوريا” (بما فيهم بعض العرب)، سيناريو يمثل “الضمانات والتطمينات” الجديدة المتحركة، فكان هذا البديل متمثلا في الدويلة العلوية في إطار شكل جديد للدولة في سوريا يقسم البلاد إلى كانتونات طائفية وعرقية ويفصل ويضعف المركز “السني” ومناطقه إقتصاديا وسياسيا، تحت مسميات عديدة (فيدرالية، كونفيدرالية، حكم ذاتي، لامركزية سياسية إدارية … إلخ)، على أن تؤدي جميعها إلى نفس الهدف، وهكذا بدأت المجازر تزداد وبدأ بشار أسد في رسم حدود هذه الدويلة وكذلك توريط العلويين وإغراقهم أكثر فأكثر في الدم لقطع الطريق عليهم حتى يكون خيار الدويلة العلوية هو المخرج الوحيد لهم وله، وهو مع الأسف المخرج الذي يبدو أن العلوييين قد قرروا سلوكه وكانت سلسلة المجازر التي ستستمر خطوة كبيرة بهذا الاتجاه، وهي مجازر ستعطي لاحقا مبررا للمجتمع الدولي لإرسال “قوات حفظ سلام دولية بديكور عربي” تحت ستار منع الانتقام لتنفذ هذا المخطط التقسيمي الضمني لتتحول سوريا إلى استحضار “النموذج البوسني” حيث الدولة المركزية الضعيفة الهشة لتحكم أقاليم شبه مستقلة ومقسمة إلى كانتونات طائفية وعرقية، برعاية القوات الدولية فيما يشبه وضع سوريا تحت الانتداب لعقود تماما كما جرى في البوسنة والهرسك.
لكن هناك أطراف آخرى في المعادلة، أولها معارضات سياسية تبدو مستسلمة لمخطط “الانتقال السياسي” وبعضها مستعد لطلب القوات الدولية في حال فشل ذلك المخطط، أما أداة التفاوض فستكون “الحكومة الانتقالية” التي يستعجل البعض على تشكيلها متوهمين أنها طريق المساعدات العسكرية والإنسانية في حين انها لن تكون كذلك وستحظى فقط ببعض المساعدات الإنسانية بشرط أن تكون الجهة التي تفوض وتوافق المجتمع الدولي بحله السياسي وفق السيناريو الأول أو أن تطلب قوات دولية وفق السيناريو الثاني.
اما العقبة الكأداء في وجه كل هذه السيناريوهات فهي الطرف الثاني المتمثل في الثوار على الأرض الذين يمثلون المعارضة الحقيقية والرافضون لكل هذه السيناريوهات مع أنهم من يدفع الثمن الأغلى، وهكذا ولإجبارهم على القبول بها كان لابد من ترك النظام يدمر ويقتل من جهة، ومن جهة اخرى كان لابد من فرض شبه حصار على كل المساعدات العسكرية القليلة وغير النوعية التي كانت تمر للثوار، كما كان لابد من تجويع ملايين اللاجئين السوريين داخل سوريا الذين يمثلون أهالي الثوار وحاضنتهم الاجتماعية في موقف يخجل منه “العار” نفسه لو تجسد في شخص أو دولة، وأيضا وتماما كما جرى في البوسنة، مع فارق أساسي يثير جنون كل هذه الاطراف متمثلا في تحقيق المستحيل على أيدي الثوار.
بالنتيجة السيناريو الأول أي “الانتقال السياسي” بات من الماضي فقد كان تطبيقه ممكنا منذ عام لكن تخاذل وتآمر المجتمع الدولي من جهة، وجرائم النظام وأنصاره من جهة أخرى جعلته ضربا من التفكير الرغبوي الحالم، أما السيناريو الثاني المتمثل بأشباه الدويلات فهو أيضا ضرب من الخيانة ناهيك عن أنه سيفتح حربا أهلية حقيقية من طرفين (فهي لازالت حتى اللحظة حربا أهلية طائفية من طرف النظام فقط)، ولن تنتهي إلا على حساب العلويين أنفسهم وبهزيمتهم مهما طالت، أما الشعب السوري والثوار فلا سبيل أمامهم لتحرير أسراهم، والعودة إلى بيوتهم، والعيش بكرامة وحرية، وتفادي الانتقام الحاقد الذي يخطط ويصرح به النظام وأنصاره بقتل وسجن مئات الالاف، وإذلالهم طائفيا باعتبارهم “سنة” بشكل خاص، وتحصيل حقوق الدماء المسفوكة والأعراض المنتهكة والبشر المعذبين والأملاك المنهوبة والمدمرة، والدولة المصادرة لصالح العلويين، ليس أمام الشعب السوري والثوار لتحقيق كل ذلك إلا خيار إسقاط واستئصال النظام عسكريا مرة واحدة وإلى الأبد، فالنظام وأنصاره لم يتركوا أمامهم إلا هذا الخيار، وهو لن يتحقق إلا بعد تحرير كامل سوريا من رجس النظام، وهو أمر يتحقق فقط بدخول كل المناطق العلوية ونزع السلاح الذي دجج النظام به هذه المناطق تمهيدا للعدالة التي ستطال كل من ارتكب جرائم بحق الشعب السوري بغض النظر عن طائفته، وهذا سيشمل حتما عشرات الآلاف من المرتكبين ولا عذر هنا لمن سيدعي أنه كان “ينفذ الأوامر”، فالعدالة وفق القانون وعن طريق المحاكم هي “الضمانات والتطمينات” الوحيدة والممر الإلزامي الوحيد لدخول العلويين من جديد في النسيج السوري الذي دمرته اغلبيتهم الساحقة بعد أن جرتهم حفنة من اللصوص القتلة خلفها في مغامرتها الطائفية.
باختصار، إن الرسالة التي يجب على الثوار والمعارضات السياسية والمجتمع الدولي إيصالها للطائفة العلوية تتمثل في أن حلم الاستمرار في حكم سوريا عبر المسرحية الدولية الحالية المسماة “الانتقال السياسي” قد انتهى إلى الأبد، وأن حلم الدويلة العلوية مستحيل، وأن العدالة الكاملة الناجزة وفق القانون لكل من ارتكب هي الضمانة الوحيدة الممكنة والفاعلة التي لابد من المرور عبرها لإعادة تأهيلهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في سوريا الجديدة المدنية الحرة الموحدة بعد أن يفقدوا كل امتيازاتهم الاستثنائية التي حصلوا عليها على مدى نصف قرن. إن هذه الرسائل والضمانات هي الطريق الوحيد والصحيح لتخفيف مزيد من الدم والتحطيم للنسيج الاجتماعي السوري، وما عداها من رسائل خاطئة هو مزيد من الدماء والمعاناة والدمار المادي والاجتماعي الذي لن يغير من النهاية بل يزيدها كلفة على كل السوريين سنة وعلويين وكذلك على المنطقة.