نعيش هذه الأيام ذكرى المولد النبوي الشريف في الوقت الذي نرى فيه جنود النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأحبابه وأنصاره وأتباعه، يحملون لواء الثورة ضد الطاغوت والطغيان في الشام الشريف، وقد سبقهم إخوانهم في تونس ومصر وليبيا، وهم إلى نصر قريب، بإذن الله، صائرون. ولقد نذروا أنفسهم لله، ومضَوا غير عائبين بما يصيبهم، حتى يحقق الله لهم النصر المؤزَّر على من طغى وتجبّر، وقتل وسجن وأفسد، ولم يَدعْ كبيرة إلا وقد صغُرتْ أمام جرائمه.
وفي هذه المناسبة نقدم هدية رمزية لسيدنا وقائدنا وحبيبنا صاحب الذكرى، عليه الصلاة والسلام، كلمة في أهمية سيرته العطرة لحياة المسلم، بل لحياة البشرية، وكيف ينبغي أن نقرأ هذه السيرة الشريفة.
السيرة النبوية مفتاح فهم الإسلام أحكاماً وأخلاقاً
عندما ندرس السيرة العطرة لا ينبغي الاكتفاء بسرد الأحداث وتحليلها تاريخياً، كالذي ندرس في حياة أي شعب أو أي رجل عظيم، إنما نسبر أغوار هذه السيرة لنرى صورة حية لهذا الدين العظيم متجسدة في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فتبهرنا فيها تلك العقيدة التي تتجاوب مع الفطرة، وتلك العبادة التي يشترك فيها الجسد مع الروح، وتلك الأحكام التي تحقق للإنسان السعادة في حياته الفردية والجماعية، في أُسرته وسُوقهِ ودولته وسِلمه وحربه… وتلك الأخلاق العالية التي تنتشل البشرية من الحضيض، وترفعها إلى أعلى عليّين.
نعم لقد تجسَّد ذلك كله في سيرة هذا النبي العظيم، وصدق الله: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾. سورة الأحزاب: 21.
ودراسة السيرة عمل دقيق حساس
عندما تدرس شخصية عظيمة فأنت بحاجة إلى أن تغوص في أعماقها، وتحيط بأرجائها، وهذا ما لا تطيقه إلا أن تكون قد عايشت هذه الشخصية في حِلّها وترحالها، وفي رضاها وغضبها، وفي عسرها ويسرها، وفي شؤونها الخاصة وفي علاقاتها مع أصدقائها وأعدائها…
وعندما تحاول ذلك تجد من سمات تلك الشخصية ما تعجز الكلمات عن تصويره والتعبير عنه.
وهذا عندما تدرس شخصية عُرفتْ بالدّهاء السياسي، أو القيادة العسكرية، أو السمو الأخلاقي، أو التفوق في ميدان الأدب أو الفكر أو القانون… فكيف إذا كنت تدرس سيرة الرجل الذي جمع جوانب الكمال البشري كلها في أرقى صورها فكان الأب المثالي، والمعلم المثالي، والقائد المثالي… حتى وصفه ربه سبحانه فقال: ﴿وإنك لعلى خُلقٍ عظيم﴾. سورة القلم: 4. وكان بحقٍ أُسوةً حسنة لكل من يبغي الحق والسداد والخير والطُهر والجمال.
ولن تستطيع أن تلج ميداناً من ميادين عظمة هذه الشخصية العظيمة إلا إذا تذكرت أنك أمام (بشرٍ رسول)، فقد جمعت خصاله بين الصفات “البشرية” في أرفع ما تكون عليه هذه الصفات، وبين “الرسالة” بما فيها من وحي وحفظ وتسديد ومدد رباني:
﴿قل:إنما أنا أنا بشر مثلكم يُوحى إلي…﴾. سورة الكهف: 110.
﴿قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشراً رسولاً﴾. سورة الإسراء: 93.
وإن من التعسف نسيانَ بشرية النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أنه يفرح ويحزن، ويتألم لما يصيبه أو يصيب أهله وأصحابه، ويجوع ويشبع، ويجاهد وينْصَب…
كما أن من التعسّف كذلك نسيانَ صفةِ أنه رسول الله، يتلقى منه الوحي، ويصنع الله على يده المعجزات، وينزل عليه الملائكة، ويطلعه على بعض الغيب.
اهتمام المسلمين بالسيرة العطرة
لقد علم المسلمون، من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، أن هذه السيرة دِين، فاهتموا بنقل كل كلمة وفعل وموقف وصفة… لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخضعوا ذلك للتمحيص والفحص الدقيق حتى لا يدخل في هذه السيرة ما ليس فيها، ثم إنهم بدؤوا يُفْردون حياته منذ مولده حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، بكتابة مستقلّة، بل درسوا النسب الشريف والبيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحواله وأفعاله قبل النبوة وبعدها، وتفنَّنوا في اقتباس النور من كل جانب من جوانب هذه الحياة، فوصفوا شمائله الكريمة، ودرسوا أحواله الشريفة في طهوره وصلاته وصيامه وحجه وذكره وفي طعامه ولباسه… وفي سِلمه وحربه، وفي معاملته أزواجه وأولاده وأصحابه وأعداءه…
وتتابع الكُتّاب والمؤلفون في النهل من معين السيرة العطرة، بين مختصِرٍ ومطوّل، وبين كاتب في الشمائل والأخلاق، ومستعرض لأحداث السيرة وفق التسلسل التاريخي، وبين من يقتصر على ذكر الخبر والحدث، وبين من يُحلِّل ويستنبط…
ومن الجدير بالذكر أن على كاتب السيرة والباحث فيها أن يضع نصب عينيه أنه يكتب عن نبي مرسَل، جعله الله إماماً لكل من يبتغي الحق والهدى، وعصمه من الذنوب والمعاصي، وزيّنه بالفضائل والكمالات… فصار الأنموذج الأعلى لكل خير، فلا ينبغي بعد هذا أن نحاكم أفعاله وأخلاقه إلى ما يتعارف عليه الناس في عصرنا هذا أو في أي عصر آخر، بل نحاكم أعراف الناس وقوانينهم ومواثيقهم… إلى هديه صلى الله عليه وسلم، فما وافق هديه فهو العدل والصواب، وما خالف هذا الهدي فهو الزيغ والضلال.
نقول هذا ونحن نشهد بعض المفكرين والكتّاب، ممن يحبون الإسلام ونبي الإسلام، لكنهم مبهورون أمام الثقافة الزاحفة المسلحة بالمال والإعلام والجيوش كذلك… فيحاولون أن يوفقوا بين انتمائهم لهذا الدين وبين انبهارهم بالثقافة الوافدة، فكلما وجدوا حكماً من أحكام الإسلام، أو موقفاً من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم يوافق ما في جعبة تلك الثقافة طاروا فرحاً: انظروا ما أعظم هذا الإسلام الذي جاء موافقاً لما وصل إليه الغرب! وكلما وجدوا في ديننا ما يخالف مواضعات الغرب انتحلوا له الأعذار، أو تفنّنوا في تأويله، أو زعموا أنه أمر مرتبط بملابسات عصر النبوة فحسب، وإذاً فإن الإسلام قد تجاوزه!.
ونحن لا نشك أن هناك أموراً تتغير حسب الأزمنة والأمكنة، وأن هناك أموراً تقبل التأويلات المختلفة… لكنّ فهم هذه الأمور أو تلك لا يجوز أن يكون تحت ضغط ثقافة وافدة، أو استرضاءً لأهواء البشر، أو انطلاقاً من مواقف مسبقة يتخذها المهزومون ثم يقومون بتطويع نصوص الكتاب والسنة حتى تكون منسجمة مع مواقفهم.
ونحن هنا لم نتكلم عن أعداء الدين، أو المنسلخين منه، أو الذين يَظْهرون بمظهر الدارسين الموضوعيين! وهم يغمزون بالإسلام ونبي الإسلام… فهؤلاء شأنهم معروف مكشوف.
ومن ناحية ثانية نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقائع وحوادث يصعب تفسيرها إلا في ضوء الإيمان بأنه نبي الله، وإلا كيف نفهم حادثة الإسراء؟ وكيف نفسّر انتصاراته الفائقة في بدر وغيرها؟ وكيف نفسِّر النقلة النوعية الهائلة التي نقل فيها قوماً من الجاهلية والتخلّف والوثنيّة والمفاسد المختلفة (من عبادة الأصنام ووأد البنات وشرب الخمر وأكل الربا وانتشار الزنا وظلم القوي للضعيف…) إلى وضاءة التوحيد، وحمل رسالة النور إلى العالمين، وجمع شعوب الجزيرة العربية في دولة واحدة ثم تقويض أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمان… نعم نعم: إنها النبوة فحسب!
وإذا انتقلنا إلى الواقع الذي نعيش، نرى أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تعرضوا للقمع والتنكيل في عدد من الأقطار، مدة عقود من السنين، بل تعرضت معهم الأجيال إلى ثقافة دخيلة وتجهيل بالإسلام، وتشويه لصورته في نفوسهم… ثم نرى هذه الأجيال تفيء إلى الإسلام دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا غالب لأمره:
﴿يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِرَه على الدين كله ولو كره المشركون﴾. سورة التوبة: 32،33.
نعم ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون.
اللهم صلِّ على نبينا محمد، وارزقنا اتّباعه في الدنيا، وشفاعته ومصاحبته في الآخرة.