1- كنت وأنا صغير أتصور أن الكويت دولة فيها مئة مليون إنسان، فإن المجلات العلمية والأدبية والإسلامية التي كنت أقرؤها كان يأتي أكثرُها من الكويت، والهيئات والمنظمات الخيرية والإغاثية التي تمثل أمة الإسلام أكثرها من الكويت، ومنها خرج الدعاة والعلماء فبلغوا أقاصي الدنيا ونشروا فيها الخير والعلم والدين.
ثم كبرت وأدركت أن أهلها أقل من ذلك عدداً، ولكنهم ارتقوا بارتقاء الهمم حتى بلغوا أعلى القمم. واشتغلت من بعدُ بالتجارة، فحملني عملي شرقاً إلى ساحل الصين الجنوبي وغرباً إلى ساحل أميركا الغربي، وبقيَت الكويت فلم أزرها قَطّ حتى كانت رحلتي إليها أخيراً؛ لا من أجل عمل ولا سياحة، ولكن من أجل ثورة سوريا وشعب سوريا الكريم.
ذهبت إلى الكويت في رحلة رتّبها بعض الإخوة الأصدقاء من تجّارها الأفاضل، فأمضيت فيها خمسة أيام زرت خلالها هيئات ومؤسسات ومنظمات خيرية كثيرة، وما أشدّ عجبي مما رأيت! ما دخلت واحدة منها إلا وجدت أصحابها قد سبقوا إلى البِرّ والخير، فهؤلاء كانوا على الحدود يسعفون المرضى والمصابين منذ شهر الثورة الثاني، وأولئك أرسلوا المال والغذاء والدواء منذ الشهر الثالث، وآخرون حملوا ذلك كله ودخلوا به فوزعوه تحت القصف والنار… فكأن أهل الكويت في تنافس: أيّهم يسبق في الوصول وأيّهم يزيد في العطاء.
2- يمشي المرء في الكويت فيجد الشاحنات واقفة على جنب الطريق تنتظر أن تمتلئ بطونُها بالخيرات لتنطلق إلى سوريا؛ يأتي المتبرعون إليها بما استخرجوه من بيوتهم من أطعمة وألبسة وأحذية وفرشات وبطانيات، ولا يقبل منظّمو حملات الخير من الملابس إلا ما غُسل وكُوي وغُلّف أحسن تغليف، ومن الناس من يذهب إلى المتاجر فيشتري الجديد منها بالكميات ويقدمها لتلك الحملات. ولا يلج المرء ديواناً من الدواوين في الكويت إلا ويجد الثورة السورية على ألسنة القوم وفي قلوبهم، لا يكاد ينقطع ذكرها في مجلس ولا ديوانية، ولعلكم سمعتم عن الحملة العجيبة التي نظموها قبل عدة أشهر فجمعوا فيها في دواوينهم ملايين الدنانير الكويتية، ثم ذهب فريق منهم بها إلى سوريا، فدخلوا ووزّعوها بأنفسهم في أيدي المجاهدين والمحتاجين.
ولو أني طلبت المال لاجتمع في يدي الكثير من المال، ولكن ماذا أصنع به وغيري أقدرُ على توصيله وتوزيعه؟ من أجل ذلك لم أجمع فلساً ولا ديناراً، ولكني عرّفت إخوانَنا الكرام هناك بما لا يعرفون من دقائق الأخبار وتفاصيل المحنة التي يعيشها ستة ملايين سوري على أرض الشام، ثم وصلت المحسنين والمتبرعين -من أفراد وهيئات ومنظمات- بجمعيات مأمونة مضمونة تنتشر في نواحي الأرض السورية وتغطي الحاجات الإغاثية كلها: تعالج المصابين وتنشئ المستشفيات، وتؤوي المنكوبين وتبني المخيمات، وتوزّع الأطعمة والأدوية والألبسة والأحذية والفرشات والبطانيات.
أما الخبز فإن لها في توزيعه نظاماً عجيباً وقفتُ على تفصيلاته المدهشة وأطلعتهم عليها، فإن تلك الجمعيات تنشئ المخبز في مكان خفيّ حتى لا يقصفه المجرمون، وتصنع فيه الخبز ليلاً ثم توزعه كل صباح على آلاف العائلات المنتشرة في عشرات القرى وفق نظام دقيق، فلا تشرق الشمس على الناس إلا وخبزهم قد وصل إليهم بلا خطر ولا عناء. وقد بلغ من إعجاب أهل الخير في الكويت بهذا الجهد المنظم أني ما كدت أعود إلى بيتي حتى اتصل بي أحد مضيفينا الأفاضل وأبلغني بأنهم حمّلوا مئتي طن من الدقيق على ظهور الشاحنات، ويطلب مني أن أصله بتلك الجمعيات ليوصله إليها ريثما يجمعون المزيد.
3- لم أكتب هذه الكلمة لأشكر أهلنا الأجواد في الكويت، فإنهم في غنى عن شكري بما ادّخره الله لهم من عظيم الأجر والثواب بإذنه تعالى، وإن يكن الشكر واجباً أوجبه علينا الشرعُ حين علّمنا أنّ مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله (كما في الحديث الصحيح)، فشكر الله لهم وجزاهم خير الجزاء. لقد كتبتها ونشرتها ليقرأها أهلنا المنكوبون في الداخل، لأن بعض الناس انتدبوا أنفسهم لتحطيم المعنويات ونشر اليأس والإحباط، يريدون أن يوهموا السوريين بأنهم يتامى مَنسيّون لا يهتم بهم أحد، فلا يزالون يرددون ولا يسأمون: “لا يصل إلى سوريا شيء من أحد أبداً”. إذن كيف يعيش السوريون يا أيها الشكّاؤون البكّاؤون المخذّلون؟
يا أهلنا في سوريا: اعلموا أن الأمة معكم وأنها لن تخذلكم إن شاء الله. فكّروا: كيف استطعنا الصمود كل هذه الشهور العِجاف؟ لولا رحمة الله أولاً ثم المواقف النبيلة لإخواننا المسلمين لما صمدنا حتى اليوم. لقد اشتركَت في المؤامرة على الشعب السوري الجريح حكوماتٌ عربية وإسلامية، وقصّرت التقصيرَ الذي لا يُغتفَر حكوماتٌ أخرى، ووقفَت معنا قلّةٌ منها وقفةً شجاعة كريمة سنذكرها لها، أما الأمة المسلمة فقد وقفت بمجموعها وقفة الشهامة والرجولة في كل مكان، وبعضها سبق في الخير بعضاً، وإني أشهد أن إخواننا في الكويت من أطول الناس يداً بالخير، وكذلك إخوانهم في السعودية وفي سائر دول الجزيرة العربية.
نعم، لقد خذل العالم ثورتنا المباركة وتآمر عليها حتى صارت أعجوبة الثورات في المؤامرات والخذلان، ولكن الله عوّضنا عن الدول والحكومات بالشعوب المعطاءة وبالأمة الخَيّرة، فذهب النظام السوري بالغرب والشرق والروس والأميركان، وذهبنا نحن بأمة هي كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر. خاب من استعان بشرق وغرب وأفلح من كان الله معه وكانت معه أمّة المسلمين.