( وسيعلم الذين ظنوا أو خالوا أو حسبوا أن لباسهم في الصيف يصلح للشتاء أنهم كانوا واهمين )
لم يشهد العالم في تاريخه الحديث ثورة تفجرت من مكامنها العفوية في قلوب المظلومين والمضطهدين والمحرومين كما هي ثورة الشعب السوري . كل الثورات التي تغنينا بها أو تغنت بها ثقافة الإنسان في القرن العشرين على الأقل من فيتنام إلى الجزائر إلى أفغانستان ؛ كل هذه الثورات وجدت الحاضن والداعم والمؤيد الذي لم تجده الثورة السورية حتى اليوم .
ولكي لا أبدأ من حيث يبدأ الجميع من توجيه إشارات التعجب والاستفهام إلى القيادات السياسية للمعارضة السورية ، التي لم تستطع الوفاء بحق الثورة والثوار على نحو لم يفعله أي ( آخر ) في هذا العالم ؛ ينبغي أن أستدير بكل الحب والإكبار لأوجه التحية لبطولات هذا الشعب السوري الأبي .
نعم ( الأبي ) أكتبها اليوم وأنا أستشعر جدارة هذا الشعب بها واستحقاقه لها، وأنا الذي كنت كلما قدمت بها لنداء أو بيان على مدى أربعة عقود أتحسس مكان حكة في ضميري وفي عقلي على السواء .
وأكرر التحية والتجلة والإكبار والإعزاز لنساء سورية ورجالها لفتيات سورية وفتيانها لطفلات سورية وأطفالها لهذا الشعب الذي أثبت بحق أنه حامل حقيقي لثورة ضد أعتى وأشرس وأقسى مجموعة بشرية عرفها تاريخ الهمجية في العالم في ظل غياب كامل للقيم الذاتية التي تمنع والقوانين الدولية التي تردع .
و أجدني مضطرا لأن أؤكد أن الزمن الثوري كلما طال ، وأن عمر هذه الثورة كلما امتد ؛ وجب أن يحسب لقيم الصمود والثبات تحت قوس التضحيات المفتوحة على كل الانتهاكات التي يتحداها بإباء هؤلاء الثوار ..
أحيي والتحية واجبة اليوم بل هي فرض الوقت كل أم سورية وكل أخت سورية وكل بنت سورية ؛ علمت أنها مهددة بما هو عند حرائر الشام أصعب من الموت بمئات المرات ثم تقدمت تتحمل المسئولية الثورية في شتى ميادينها ، أحييهن جميعا لأثبت هنا أن نساء سورية وبناتها كن في إقدامهن هذا أشد شكيمة وأقوى عزيمة وأكثر مضاء من كل الرجال الرجال ولا أتحدث عن الأشباه ..
أحيي والتحية واجبة رجال سورية المدني منهم والعسكري الذين اختاروا أن ينحازوا إلى الحق الأزلي المغروس في ضمائرهم فوقفوا يقولون للظالم المستبد كفى رجال الجيش الحر والعسكري المنشق والضابط الذي غادر موقعه ليفتح للموت والعز صدرا ..
وفي الوقت الذي يقلب فيه أعداء الثورة الذين يتكنفونها عن يمين وشمال ثنايا الثوب يبحثون عن بقعة هنا وحبة سوس هناك أجدني أصرخ في وجوههم جميعا كفوا عن وجودنا المقدس أيها المشككون والمتخاذلون . كفوا عن بنياننا المقدس يا تلاميذ علم الحساب على موائد الجمع والطرح والقسمة التي سئمناها من أمانيكم الضيقة وتطلعاتكم المراض …
هذه التحية اليوم أصبحت واجبا استراتيجيا ونحن نتابع تكالب أعداء لبسوا ثوب الأصدقاء وراحوا ينهشون جسد الثورة والثوار بمخالب وأنياب . وحين يتاح لك أن تتابع لغة إعلامي يزعم أنه ينتمي إلى مشروع كوني للحرية والكرامة الإنسانية ، أو سياسي يقدم نفسه عرابا لمشروع وطني للديمقراطية والعدل والمساواة ؛ تجد أولئك الأبعدين وهؤلاء الأقربين ينفثون مع كل حرف وكلمة يعلقون بها أو يكتبونها سخاما أسود يدافع بمفهومه المعاكس عن قاتل الأطفال ومغتصب النساء ومدمر إرادة شعب عزيز كريم وسارق لثرواته على مدى نصف قرن ..
ومن ثم نعود لنقرر أن هذه الثورة السورية العفوية المباشرة العظيمة لم يتح لها بسبب مناخ بالغ القسوة تتفجر فيه ، وبسبب الخذلان المطبق من كل القوى التي كانت ترى في حكم العصابة الحد الأدنى الذي يدرأ المفاسد عنها ؛ أن تنتج قيادة سياسية تكافئ فعلها الثوري تغطيه وترشده وتعين على تحمل مسئولياته .
ومن غير أي اتهام مني لأي فريق سياسي التحق بالثورة أو بذل جهدا لدعمها أؤكد أنه لم ينجح أي فصيل سياسي معارض كلاسي – قادم من زمن الصقيع والبيات الشتويين – أن يوفي باستحقاقات الثورة الإدارية أو السياسية أو الإنسانية أو حتى الإغاثية لا كل هذه الاستحقاقات ولا عُشرها.
وسيجد كل فريق من هؤلاء من المعاذير ما يكفي للدفاع عن مواقفه ، تسويغا وتفسيرا وإرجاء وتمويها . ثم حين سيدخلون القضية في إطار الشخصنة الفردية أو الإيديولوجية أو الحزبية أو الفصائلية سيصبح الوصول إلى الحقيقة أكثر صعوبة وأبعد المنال ، وسيثير الجميع من الغبار ولا أستثني ما يغطي على سواءتهم في تدافع المسئولية وتبادل الاتهامات . إن أبسط ما يمكن أن يقال في هذا المقام إن قيادة الثورة تحتاج إلى شخصيات ثورية وإلى منطق ثوري . وإن الثوب الذي ارتديناه على حب واختيار في الصيف لا يصلح للشتاء وإن ظننا وحسبنا وخلنا …في المأثور الإسلامي الصحيح ( فقد خان الله ورسوله ..) . لم أسمع عن أي فصيل سياسي إسلامي أو علماني مدني أو ديني استبدل شخصا وفاء لاستحقاقات مرحلة لم يكن أحد مستعدا لها ، ولا هو متنبئ بها . إن مبدأ القائد الملهم الذي يصلح لكل مهمة مشتق من الواقع الذي قامت الثورة للتخلص منه هذه واحدة . لماذا يصر البعض على جعل هؤلاء الأبطال يدفعون المزيد من دمائهم ثمنا لهذه الأهواء وتغطية لهذه الرغبات .
ثم أقول ثانيا أن الفعل الثوري هو عملية رفض صريح ومباشر ليس فقط للعصابة التي أذلت الشعب السوري وأرهقته على مدى نصف قرن ، بل لكل السياق والمواضعات التي أقرت بوجوده وأرخت له العنان ، وظلت تفسح له في نواديها ، وتبسم له في محافلها ، وهي تعلم أنه يظلم ويقتل وينتهك ويسرق .. . والحقيقة الأكثر أهمية في هذا السياق أن هذه القوى الملتحقة بالثورة والمحتكرة لتمثيلها تصر على استخدام منطق الملتحفين بالظلم هؤلاء ، المنطق الصوري الأرسطي نفسه الذي أفرز الوضع الذي نثور عليه . لم ينجح المجلس الوطني ولن ينجح الائتلاف الوطني ولن تنجح أي فئة أو جماعة أو هيئة أخرى ؛ ما تزال تصر على ان تقود الفعل الثوري بالعقل الكلاسي نفسه ، بقوانينه ومواضعاته ومقدماته وأساليبه . لأن لقيادة الثورة قوانينها وطرائقها الثورية
و الحقيقة الثالثة وهي الأكثر أهمية أن بعض القوى التي تسم نفسها بالحداثية في سورية تعمل وفق عقلية كهنوتية مغرقة في جمودها . لقد كان المنتظر من هذه القوى أن تؤدي دورا أكثر فاعلية في نصرة الثورة وشبابها . وأن تكون أكثر عقلانية من أن تتخوف من نداء أو شعار عاطفي فطري يلقى هنا أو هناك ؛ ولكنها مع الأسف حاصرت نفسها في خندقين اثنين ؛ خندق العقل الكهنوتي بقوانينه الجامدة ، فلم تكن الحداثة بالنسبة إليها ( العلمانية والليبرالية ) أكثر من قبعة توضع على الرأس للزينة في المحافل . كما حاصرت نفسها في تقدير سيء لمصالحها الوقتية العارضة التي لم تستطع منها فكاكا فقدمتها على مصالحها الاستراتيجية التي هي جزء من مصالح الوطن المفتوحة على المستقبل الواعد . هده القوى كما بعض الناس في مصر الآن لم تفكر على : طريقة ماذا علي لو تأخرتُ جولة وربحتُ الديمقراطية بمشروعها المفتوح على نهاية التاريخ كما دندنوا يوما ..
ومع تحفظي على اتهام بعض الناس العقلية الدينية بالجمود وبالبدائية والمباشرة ، وتمسكي بالتمييز بين قولنا عقل ديني كهنوتي وعقل إسلامي ؛ أعجب أن بعض القوى الحداثية في سورية دخلت عالم الثورة منذ سنتين بلاءاتها المقدسة ولم تفلح كل معطيات الواقع في جعلها مستعدة لمراجعة هذه اللاءات التي باتت أكثر قداسة فلا يأتيها الباطل – في زعمهم – من بين يديها ولا من خلفها . نصهم المقدس هذا لا يجوز أن يقيد مطلقه ، ولا أن يخصص عامه ، ولا أن تكتنفه أحكام الضرورة التي تخفف من بعض قيوده ، وحين يقول منهج الأصول الإسلامي بدوران الحكم على الواقع ، وأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان وأن الضرورة تبيح المحظورة وأن وأن … يظل الكهنوت الحداثي الذي ابتليت به الثورة السورية متمسكا بقوانينه التي صنعها في فراغ ذهني متبلد لا يمت إلى الثورة بصلة ..
لا أنتظر من أحد من قيادات المعارضة السياسية أن يجد في هذا الكلام أكثر من لغو باطل كله قابل للتفنيد . إنما أكتب هذا الكلام لجيل الثورة و لقادتها الحقيقيين على الأرض السورية ليصنعوا لأنفسهم ليس فقط قادتهم الثوريين وإنما منطقهم الثوري أيضا ولعل الثاني أهم من الأول ..