تنبيه ورجاء: هذا حديث من أربع حلقات، أتمنى ممّن قرأ واحدة منها أن يقرأ الحلقات الأخرى حتى لا يخرج بفكرة ناقصة أو يفهم المسألة على غير وجهها، ولولا أن أطيل لجمعتها كلها في مقالة واحدة.
مضت من هذه الرباعية ثلاث مقالات؛ في الأولى رجوتكم أن تُحيوا وتَحموا الهُويّة الإسلامية السنّية وأن تجعلوها مظلة جامعة لكم، وفي الثانية أكدت أن الانتماء إلى الأمة يسبق الانتماء إلى الوطن وأن الرابطة الدينية أعلى من الرابطة الوطنية، وقلت إنهما رابطتان لا تعارضَ بينهما ويصحّ اجتماعهما، بل يلزم، وفي الثالثة حذرت من السماح للعلويين بالسيطرة على مفاتيح سوريا ومقدّراتها من جديد. تلك الثلاث كِفّة، وهذه المقالة هي الكفّة الثانية من الميزان. كثير من الناس يُفْرطون أو يفرّطون، فأرجو أن يدركوا أن بين الإفراط والتفريط منزلةً وسطى هي خير المنزلتين وأقربهما إلى حكم الشرع وعدالة القانون، وكما أطلقت تحذيرين فإنني أطلق مناشدتين، وأرجو أن تجتمع كلها معاً حتى يستقيم الميزان.
* * *
المناشدة الأولى: أرجو أن لا ينجرف فريق منّا في العداوة والكراهية ونبذ الآخرين، ولا يقل أحدٌ إن إحساسنا بهويتنا وتأسيس الولاء على الدين يستلزم إقصاء ورفض الآخرين.
أنا دعوت فعلاً إلى إحياء الهوية السنية واحترامها وحمايتها من الذوبان، ولكني أدعو أيضاً إلى احترام الآخرين وحماية هوياتهم الثقافية واللغوية والدينية. إنه حق مشترَك لنا ولهم على السواء، نرفض أن نُحرَم منه، ولكن لا يُبيح لنا ديننا ولا تسمح لنا أخلاقنا أن نَحرم منه الآخرين. لقد عاشت في سوريا على الدوام جماعاتٌ مختلفةُ الأعراق والمذاهب والديانات، ومن حق كل جماعة منها أن تحافظ على هويتها، ومن حقها أن تشترك في بناء الوطن وفي الاستفادة من خيراته والعيش تحت سقفه الواسع.
إن سوريا وطن لكل السوريين، من حقهم أن يعيشوا فيه بحرية وكرامة وأمان وأن نبادلهم فيه خيراً بخير وبِرّاً بِبِرّ وإحساناً بإحسان. إن الدعوة إلى إحياء أخوّة الدين وتقديمها على رابطة الوطن لا تعني أبداً التفريط في رابطة الوطن والتنكّر لها لأن الناس لا يعيشون بلا أوطان، وعمارة الأوطان حق، بل واجب، على كل إنسان. إن أخوّة الدين لا تنتقص حقاً من حقوق غير المسلمين؛ إنها لا تعني أبداً الظلم والعدوان ولا تعني الاستعلاء والحرمان، ولا تبرر أبداً نقض علاقات الشراكة والجوار، واقرؤوا إن شئتم: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقسطوا إليهم، إن الله يحب المُقسطين}.
العدل من أعظم مبادئ الإسلام، والمسلم مطالَب بالعدل حتى مع الأعداء، فكيف مع الشركاء وجيران الدار؟ حتى العلويون الذين دعوت إلى الحذر منهم وحذّرت من تسليمهم مفاتيح البلاد، حتى هؤلاء من حقهم أن يعيشوا في سوريا في أمان وأن لا يُعاقَب منهم إلا المجرمون. نعم، أنا دعوت إلى استبعاد العلويين من المشاركة في بناء وحفظ الوطن لأنهم هَدّموه وضَيّعوه، ولكني لم أدعُ إلى إجلائهم عنه ومنعهم من البقاء فيه. وأين يذهبون؟
وحتى عندما تحدثت عن وحدة المصير فإنني لم أدعُ إلى إجمال مُسيئهم مع محسنهم في العقاب، بل قصدت إجمالهم بالاستبعاد من مراكز القيادة والتأثير في سوريا الحرة فحسب، فلا يكون أحدٌ منهم صاحبَ مركز ولا نفوذ، لا في الجيش وأجهزة الأمن ولا في غيرهما من أجهزة الدولة ومرافق البلاد. ومن غرائب الموافقات أنني ناقشت -قبل كتابة المقالات بوقت قصير- واحداً من شرفائهم، علوياً يعيش في المهجر منذ زمن، فكتب إليّ فيما كتب: “مهما فعلتم بنا فإننا نستحق ما تفعلون؛ علينا أن ندفع ثمن وقوفنا مع نظام الأسد ومَدّه بأسباب البقاء على مر السنين”. أقول له: لن نفعل بكم ما ينهانا عنه ديننا العظيم؛ لن نؤذي بريئاً ولن نعاقب إلا المجرمين، ولكنّا لن نأمن على سوريا بين أيديكم ولن نسمح بأن تملكوا مفاتيحها منذ اليوم.
* * *
المناشدة الثانية: يا أيها المسلمون، يا أيها المجاهدون: احذروا الانتقام الأعمى والقتل العشوائي. لا تستهدفوا إلا من قاتل أو أعان وظاهَرَ على قتال، لا تعتدوا على طفل ولا امرأة ولا على بريء كبير أو صغير.
إن النظام يقترب من ساعة السقوط، وسوف يأتي قريباً يومٌ يكون فيه مصير الآلاف من الأبرياء معلقاً بقرار يتخذه حَمَلة السلاح، فلا ترتكبْ إثماً يا حامل السلاح ولا تخالف دينك ولا تُغضب ربك، فإنك ما جاهدت في سبيله إلا ابتغاءَ رضاه، وقتلُ الأبرياء ظلم وعدوان، والله لا يرضى عن الظلم ولا يُقرّ العدوان على الأبرياء، فإنه قال في الحديث القدسي: “يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تَظالموا”، وقال في كتابه الكريم: {لا عدوانَ إلاّ على الظالمين}.
يا أيها المجاهدون: إنكم ما حملتم السلاح وجاهدتم إلا في سبيل الله، والله قد اشترع لكم شريعة، فكيف يكون الجهاد جهاداً في سبيله إذا خالفتم شريعته؟ إن للحرب في الإسلام آداباً وشروطاً حاسمة، ومن شروطها أن لا يقتل المجاهدون غيرَ المقاتلين، فيَسْلم منهم النساء والأطفال والعجزة والعابدون في محاريبهم، ويَسْلم الرجال من غير المقاتلين (أو “المدنيون” بالتعبير المعاصر).
أخي المجاهد: أنت اليوم مقاتل مسلّح، ولكنك كنت قبل اليوم مسلماً وستبقى مسلماً غداً، والمسلم لا يَصدر في أفعاله عن هواه إنما يصدر عن شرع ربه، والشرع يقول لك إن الناس لا يُقتَلون بسبب انتماءاتهم ومعتقداتهم ولكن بسبب أعمالهم وتصرفاتهم، فمَن حارب حورب ومن قاتل قوتل، ومن اعتزل فلم يمدّ يداً بسوء فلا سلطان لك عليه، ولو كان علوياً أو يهودياً أو بوذياً أو كائناً ما يكون.
أخي المجاهد: إياك أن تستسلم لشهوة الانتقام، فإنها غريزة من أسوأ الغرائز وإنها من نزغ الشيطان. إياك أن تفقد إنسانيتك ورجولتك، وقبلَهما دينك وآخرتك. إياك أن تقتل بريئاً لم يرتكب جرماً يُحِلّ دمه، فإن قتل الأبرياء لا يجوز في ديننا العظيم، والقاعدة الكبرى في هذا الأمر الخطير هي قوله تعالى: {لا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى}، فلا يُقتَل بالقاتل غيرُه ولو كان من أهله المقربين. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}: “من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، لا تتعدّ إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه“.
إياك أن تقتل طفلاً ولو كان ابنَ شبّيح مجرم قاتل، فإن الطفل بريء لم يكلَّف ولا يُؤاخَذ بجرائم الآخرين. إياك أن تقتل امرأة غير مقاتلة ولو كانت زوجة شبّيح مجرم قاتل أو أخته أو أمه، فإن المرأة في شرعنا مَصونة من القتل فلا تُقتَل عمداً -بإجماع الفقهاء- إلا إذا حملت السلاح (واستثنوا المرأة الملكة -أي إذا كانت ملكة على القوم- فأجازوا قتلها لأن فيه هدماً للروح المعنوية لجماعة المقاتلين). لقد أجمع العلماء على تحريم قتل نساء وصبيان المحاربين ما لم يقاتلوا (ونقل الإجماعَ على ذلك ابنُ حزم في مراتب الإجماع وابن حجر في فتح الباري والنووي في شرح صحيح مسلم وغيرهم من العلماء).
يا أيها المؤمنون ويا أيها العقلاء: إني أسمع من يدعو إلى إبادة العلويين جميعاً فيقشعرّ بدني، لأن هذه الدعوة تخالف الدين، والدين هو أثمن ما نملكه في الحياة، فكيف نتهاون فيه؟ ولأن الذي يقتل الأبرياء -ولا سيما الأطفال والنساء- يقتل إنسانيته، ويا لخسارة مَن يضحي بإنسانيته في سبيل إرضاء غريزة الانتقام! ولأن أي عمل من هذا النوع من شأنه أن يعقّد المشكلة ولا يحلها، فإن في العلويين من لم يعتدِ علينا ولم يشارك في الجريمة، وهؤلاء بعضهم كان معنا بعمله وبعضهم بكلامه وبعضهم بقلبه، وأكثرهم اختاروا الصمت السلبي، وكلهم ليسوا من الأعداء اليوم، ولكنهم سيصبحون كذلك غداً لو مَسَّتْهم نارُ الانتقام، ومن يموت منهم مظلوماً فسوف ترث ذريّتُه دمَه ويسكنها هاجس الحقد والانتقام ولو بعد حين. إنها دورة لا نهاية لها، ولا حل لها إلا بتطبيق الشرع والقانون، وكلاهما يقولان: لا عفوَ عن مذنب ولا عقوبة على بريء.
* * *
الخلاصة: إنني أخاف وأخوّف الناس من المبالغة في اللطف والرقة ومن التفريط في الحقوق، ولكني أخاف أيضاً وأريد أن أخوّف الناس من الإفراط في استقصاء العدالة لدرجة ظلم الأبرياء. وأخاف وأخوّف الناس من التفريط في الهوية والذوبان في ثقافات الآخرين، ولكني أخاف أيضاً وأريد أن أخوّف الناس من الكراهية والظلم والكِبْر والعدوان. إنني أدعو إلى الحذر وأدعو إلى العدالة، ولكني أنهى عن الظلم وأنهى عن الانتقام.
* * *
ملاحظة: كتبت المقالات الأربع معاً ثم نشرتها واحدةً بعد واحدة، وقُبَيل نشر هذه الأخيرة وصلني تعليق من أخ فاضل لم أجد بداً من الجواب عنه. قال: هل هذا وقت مناسب لنشر مقالات تزيد الفرقة والانقسام؟ هل هذا أوان الحديث عن العلويين وعن مستقبل العلويين في سوريا؟
قلت: أيها الأخ الكريم، إذا لم يكن مناسباً نشر هذه المقالات اليوم فمتى يكون؟ إن أعداء الأمة يستميتون لزرع العلويين في أعلى المراكز ويصرّون على توليتهم جيش سوريا وأجهزة الأمن فيها، وهذا معناه أنهم يريدون إبقاء مفاتيح البلاد في أيديهم، فإذا لم تدرك الثورة هذا الخطر أوشكت أن تقع فيه، ثم لا تنجو منه في السنين الطوال! وفي الطرف الآخر عدد لا يُحصيه العادّون من الضحايا الذين يترقبون سقوط النظام ليبدؤوا بالانتقام. هل أنتظر حتى تحزّ السكاكين رقاب الأبرياء أم أوصل إلى العقلاء الرجاءَ والنداء؟ لو وصل صوتي اليوم إلى ألف رجل كان منهم عشرةٌ من أولئك الضحايا فاقتنع بكلماتي واحدٌ منهم فنجا من الموت بريء فقد استوفيت الثمن، وإن لم يكن فيكفيني أني قد أعذرت وأبلغت.