رغم البطولة الفائقة بل الخارقة التي أبداها ويبديها الشعب السوري في صمود وإصرار أسطوريين، نستطيع أن نقول لم يشهد لهما العالم مثيلاً؛ فإن هذه البطولة بكل آفاقها ومجاليها وليس فقط في مجلاها العسكري، لم تجد حتى الآن تمجيداً من ممجد ولا إشادة من مشيد. لم يكتب فلاسفة الثورة ولا كهنتها كلمة جديرة بالاعتبار عن بطولة الأطفال والنساء، ولا عن صمود شعب بسواده العام في وجه الانتهاك والقتل والجراح والتشريد والبرد والمرض والجوع والخذلان العريان من القريب قبل البعيد.
لم يستحق هذا الشعب بلهيب جهاده المقدس بكل مجاليه، كلمة إشادة. لم يستحق هذا الشعب في تعاليه على الجراح، وإمساكه عن رد الأذى، وترفعه عن تسمية الأمور بأسمائها؛ حرصاً منه على مستقبل يريد أن يصوغه كما يراه، ليس مجاملة لأحد ولا خوفاً من سطوة، وإنما وفاء لعقائد وشرائع آمن هذا الشعب بها، ولحقائق كونت وعي هذا الشعب على مر العصور.
من يراقب الموقف العام من هذه الثورة البطولية الرائعة على أطراف أقلام الكاتبين أو ألسنة المتحدثين من المحسوبين على سورية وعلى العروبة وعلى الإنسانية لا يحصد من كثير من المتابعات إلا المزيد من التشكيك والتخويف وأحياناً المزيد من الإدانة والتنديد بالثورة والثوار..
يقول قائلهم أو يكتب كاتبهم الثوار ليسوا قديسين ليجعل من هذه المقدمة مدخلا للتجريح والإهانة والتهوين، وينسى هذا المتلاعب بالألفاظ أن العلاقة بين البطولة والقداسة هي علاقة بين خاص وعام يعز على نفسه المريضة أن تدركه. ويُظهر آخرون أكثر مكراً ودهاءً حرصاً أكبر على الثورة وانتصارها، وسورية ومستقبلها وهم رغم التظاهر والادعاء لم يستطيعوا يوماً أن يغادروا قواقعهم الضيقة، ولا زواريبهم العفنة، ولا أن يتجاوزا سقفاً واطئاً حبس قاماتهم، وصادر آفاقهم.رغم ادعائهم الإنسانية والعالمية والانفتاح والوطنية…
سببت هذه الثورة بنسائها ورجالها وأطفالها، بشيبها وشبابها وصباياها، وبشعاراتها وأهدافها للكثيرين صدمة البداية فلم يعودوا قادرين على التفكير أو الاستيعاب أو قبول معطيات الواقع التي أصابتهم بالبهر فعجزوا عن الرؤية والتمييز. وانطلقوا كلٌ في بيدائه وعلى طريقته ينفث في العقد عند أوليائه، ويبث قالة السوء عن هذه الثورة على منابر وُطّئت منذ نصف قرن لهم ولأمثالهم، ويزرعون الخوف من هذه الثورة والريبة في رجالها؛ ليستثمر كل هؤلاء الذين تربوا على (دين الملك) فيما استثمر فيه بشار الأسد وأبوه من قبل. ولم لا يفعلون وهم يجدون آذاناً مصغية وقلوباً مستجيبة وعقولاً يصدها ما حشر فيها من ترهات عن إدراك الواقع والتعامل معه.
في الخلوات الخاصة بين هؤلاء الذين نعرف وننكر وأوليائهم هنا وهناك وهنالك نراهم (ولاجين خراجين) كلهم يبث السخيمة من هواجسه ومطامعه على سورية وتاريخها وناسها وثورتها وثوارها..
ومع هذا الحجم من النفث في العقد، ومع ركام معهود ران على عقول وقلوب ما تزال تعيش ذكريات (ملاذكرد) و(الزلاقة) و(حطين)، وأعين ما تزال تدمع كلما ذكر أصحابها (هرقل يحمل عصاه على كاهله ويقول (سلام عليك يا سورية سلاما لا لقاء بعده)…
مع كل هذا وبه يفسر الموقف نفسه، فلسنا بحاجة بعدُ إلى المزيد من الشرح والتفصيل لسر هذا الخذلان الذي يجمع عليه المختلفون والمتناقضون والآمرون والمأمورون.
عودوا إلى ما يُكتب عن هذه الثورة بكل مجدها وعظمتها وتضحياتها وثبات أبنائها، عودوا إلى هذا الذي يكتب عن هذه الثورة على كل خطوط الطول وبكل لغات أهل الأرض وفسروا لنا كيف تلتقي هذه العقول على تأييد قتل الوالد والوالدة والوليدة والوليد..
اقرؤوا الذي بين سطورِ يكتبها هؤلاء الذين عرفتم وتعرفون وعن دبيب مكرهم في الخلوات يرددون الترهات ويستثمرون في سخائم النفوس.
أيها السوريون: لا تعظموا أعداءكم لا تشاركوا أخرى في صنع جلاديكم. تذكروا ما قال أجدادكم: دود الخل…
(لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم.)