إصرار أميركي غير مسبوق على المضي قدمًا في دعم “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” الذي يشكل 80% من ميليشيات سوريا الديمقراطية، ويتجسد هذا الدعم في تكثيف الضربات الجوية التي تمهد طريق تلك الميليشيات للسيطرة على مدينة منبج، والتقدم في وقت لاحق باتجاه جرابلس، في حين امتنع الطيران عن تقديم الإسناد الجوي للفصائل الثورية خلال معاركه مع تنظيم الدولة في المنطقة الممتدة بين مارع والراعي، باستثناء طلعات خجولة، في حين وقع عبء التمهيد الناري على المدفعية التركية التي بقيت شبه وحيدة.
بالمقابل استغلت وحدات حماية الشعب (الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي) إصرار تنظيم الدولة التقدم باتجاه مناطق الفصائل الثورية، في حين أنه ينحسر أمام سوريا الديمقراطية، وبدأت تُفاوض الثوار في مدينة مارع على تسليمها، بعد أن أصبحت محاصرة من جميع الاتجاهات مقابل السماح للمدنيين بالمغادرة، وبالفعل اضطر الثوار إلى الانسحاب من بلدة الشيخ عيسى المجاورة لمارع مقابل عبور المدنيين إلى عفرين ثم إلى أعزاز، ثم ما لبست الوحدات أن تملصت من اتفاقها وضيقت على أهالي المدينة المحاصرة من قبل التنظيم وعادت لاستخدام الحصار كورقة تفاوض من أجل تسليم مارع لها.
ومن جانبها أكدت مصادر عسكرية في شمال حلب لشبكة “الدرر الشامية” أن طائرات التحالف لم تنفذ سوى طلعة واحدة ضد مواقع تنظيم الدولة منذ قطع الطريق الواصل بين مارع – أعزاز، بعد سيطرة التنظيم على كفر كلبين، وكلجبرين، والتحالف شبه ممتنع عن تقديم أي إسناد جوي للفصائل المتواجدة في منطقة أعزاز من أجل إعادة فتح الطريق، باستثناء عملية إلقاء الأسلحة يوم أمس، التي جاءت بضغط تركي كبير من أجل تأمين استمرار صمود المقاتلين.
ليس صحيحًا أن التحالف الأميركي مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني)، دوافعه قدرة الأخير على قتال تنظيم الدولة، حيث إن هذه القدرات مصطنعة وبدعم لا متناهٍ من الولايات المتحدة جويًّا ولوجيستيًّا، وعسكريًّا، في حين أثبتت فصائل ثورية عديدة قدرة كبيرة في دحر التنظيم دون إسناد جوي.
(تمكن جيش المجاهدين وحركة نور الدين الزنكي من طرد تنظيم الدولة من كامل ريف حلب الغربي، كما استطاعت كتائب قليلة من حركة أحرار الشام الإسلامية إحداث فارق في معارك تحرير الراعي، وتمكن جيش الإسلام من تطهير الغوطة الشرقية من التنظيم خلال أيام).
وبالمقابل لا تسمح الجغرافيا ولا الواقع بسيطرة ميليشيات الاتحاد الديمقراطي على كامل الشريط الحدودي إلى الأبد وضمه للدولة الحلم، فهناك عشرات الآلاف من السكان العرب الأصليين والعشائر العربية، بالإضافة إلى أنه حتى الولايات المتحدة أعلنتها صراحة بأنها لا تؤيد قيام دولة كردية.
لكن الصحيح أن أميركا وجدت ضالتها في الحزب، حيث تسعى بشكل حثيث لإبعاد تأثير الدول الإقليمية على سوريا -تحديدًا الأتراك- عن طريق الفصل بين حلب وإدلب والحدود التركية، عن طريق تسوير تلك المناطق بسوار من الفصائل الموالية لواشنطن، وبالتالي تحاصر الفصائل الغير المتوافقة معها ضمن منطقة تمتد من ريف حلب الغربي وصولًا إلى نهاية ريف إدلب الغربي وبعض أرياف حماة، لكن هذه الفصائل ستكون معزولة تمامًا دون خط إمداد من الدول الحليفة.
ومن الملاحظ أن روسيا أيضًا استخدمت ميليشيات الحماية الكردية لنفس الغرض، ومكنتها من السيطرة على عدة قرى شمالي حلب، أكبرها تل رفعت، بعد أن أعلنت الخارجية الروسية صراحةً أنها تريد قطع طريق إمداد الفصائل والمساعدات الإنسانية عن المناطق المحررة.
وبات من المتوقع وبصورة كبيرة أنه بمجرد خسارة الثوار لمدن مارع وأعزاز، فستتوجه ميليشيات الحماية إلى قطع طريق باب الهوى، خاصة أن بلدة دير البلوط التابعة لما يسمى بمقاطعة عفرين لا تبعد سوى 3كم عن بلدة باب الهوى.
ولعل أبرز الأدلة على التناغم الأميركي – الروسي لتحقيق غاية عزل تركيا والدول الخليجية عن مناطق الشمال والوسط، تزامن الحملة الشرسة لطيران نظام الأسد والطيران الروسي على مدن إدلب وحلب، في مسعى واضح لإرباك الفصائل الكبرى وعدم ترك المساحة لها للتفرغ والتفكير فيما يجري أقصى الشمال.
وعلى الطرف الآخر نلاحظ انكماشًا لدى الفصائل العسكرية، وخاصة الكبرى منها، وعدم مبادرة على الأقل لإعادة فتح الطريق إلى مدينة مارع التي تشكل هي ومدينة أعزاز وقرى كفركلبين وكل جبرين وندة وطاطية وحربل حاجزًا حقيقًّا في وجه مساعي التطويق.
بالإضافة إلى عدم تفكيرها في استعادة ما تم خسارته في وسط الريف الشمالي وبالتحديد (رتيان، ماير، مسقان، احرص، تل رفعت، منغ)، خاصة أن تواجد الميليشيات المدعومة إيرانيًّا تضاءل في تلك المنطقة في ظل ضربات متكررة من جيش الفتح لقواعد تلك الميليشيات في ريف حلب الجنوبي.
وترى مصادر عسكرية متعددة أن أبرز خطأ ارتكبته الفصائل أنها تركت مجموعات صغيرة محلية في مسرح عمليات دولي، مما دفع تلك المجموعات للتفكير بمنطق السلامة الشخصية أكثر من منطق السلامة الثورية.
(المجموعات المتواجدة في دير جمال سارعت إلى الدخول في حماية قوات سوريا الديمقراطية، كما أن مجموعات عديدة في تل رفعت اختارت نفس الخيار على الرغم من إمكانية المقاومة ووجود الأسلحة، في حين تتواجد في منطقة أعزاز مجموعات كثيرة تفكر بنفس المنطق، ولا تمانع من الدخول تحت راية ميليشيات سوريا الديمقراطية لتجنيب منطقتها القتال).
وقد عاشت الفصائل العسكرية تجربة قاسية عندما قرر حزب الاتحاد الديمقراطي منعهم من المحروقات القادمة بالأصل من مناطق سيطرة تنظيم الدولة، وأغلق طريق عفرين لأكثر من 40 يومًا، مما جعل المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل تعيش أزمة حادة، وأكدت تلك التجربة أن إمكانية الحصار والعزل واردة في أي لحظة ما لم تتم إعادة فتح الشرايين الرئيسية.
ويمكن إجمال أسباب إحجام الفصائل العسكرية عن اتخاذ تلك المبادرات بما يلي:
– غياب عقلية العمل الاستراتيجي عند الغالبية العظمى للفصائل، والعمل وفق منهجية مناطقية تتسم في الغالب ضمن ردات الفعل.
– التأثر بإشاعات روسيا ونظام الأسد، وحصر التفكير بشبح الحصار بانقطاع طريق الكاستيلو فقط، دون النظر إلى الصورة الكلية للحصار.
– تبني نظريات خاطئة حيال المعارك بالشمال، وتتمثل في تبني أطروحة أن المعارك في تلك المنطقة هدفها تفريغ حلب وتسليمها، أو أن المعركة ليست معركة الثوار، أو أنها معارك استنزاف لا نتيجة منها.
– التعويل بشكل كامل لدى بعض التشكيلات على الموافقة الدولية من أجل افتتاح عمليات جديدة خشية العواقب والغضب الدولي، وهذا الطرح يدل على عدم الوعي لخطورة ما تحيكه بعض الدول للثورة السورية.
– إقحام الخلافات الفقهية الشرعية في مسألة القتال في الشمال السوري، فبعض الشخصيات ترى عدم جواز القتال في ظل تواجد غربي في تلك المناطق، وبعضها يرى جواز ذلك ضمن ضوابط، في حين واقع الحال يشير إلى أن القتال هناك، واستعادة زمام المبادرة، والسيطرة على المفاصل من جديد تعتبر ضربة موجعة للمخططات الدولية.
وفي الختام: لا بد أن تبادر كبريات الفصائل لإفساد ما يتم نسجه، وتقوم بإعادة فتح الطريق إلى مارع، كما تعاود فتح الطريق بين شطري ريف حلب الشمالي، خاصة أن تنظيم الدولة يعاني بشكل كبير في ظل هجوم ميليشيات سوريا الديمقراطية في محيط منبج المدعومة من قبل التحالف الدولي، ولذلك يلجأ إلى سحب قواته باتجاه المناطق الرخوة والأقل دفاعًا والأقل دعمًا، ألا وهي مناطق الثوار.
المصدر: الدرر الشامية