يساس المشهد السوري اليوم بحالة من النرجسية لا أحد يستطيع تقدير أبعادها وتداعياتها . وتمر المعارضة السورية بحالة من البهر العقلي والبصري فلا يستطيع أحد أن يتبين أو يتفهم أو يتابع أو حتى أن يعلق ليجيب ماذا يجري ؟! كيف يجري ؟! من المسئول عما يجري ؟! لا أظن أحدا يوما سيتفق على الجواب ..
الممارسة السياسية هي علم وفن . فن اقتناص معطيات اللحظة وتوظيفها في خدمة مشروع . من هنا ينظر السوريون بعضهم في وجوه : بعض هل حقا أن هذه القفزة في الهواء سيكون لها إتاء ؟! لا أحد يريد أن يجيب بنعم ولا أحد يريد أن يجيب بلا . لأنهم يتساءلون أولا عن سر معطيات اللحظة التي لا يعلمون ، ولأنهم يشخصون بأبصارهم ثانيا إلى هذا الرجل الذي ما زال معلقا في الهواء ، يقولون همسا مادام قد تحمل المسئولية وقفز فلننتظر لنعلم أين تستقر به الحال ..
أمر السياسة أكثر تعقيدا من أمر الشعر . والمعطى الفني في ممارستها على علميتها أعرق مما هو الحال في الشعر الذي هو فن محض تقريبا . في الشعر تقول العرب :
الشعر صعب وطويل سلمه – إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه – زلت به إلى الحضيض قدمه –
هذا ما قالته العرب في الشعر فما عساهم يقولون في السياسة في مثل هذا اليوم السوري المضطرب ؟!
في مشهد اليوم السوري المضطرب تفقد القوى السياسية ثقلها ، فلا أحد يريد أن يقول كلاما فصلا ، أو أن يتحمل مسئولية موقف جاد . والمشهد أكثر سرعة وديناميكية وحساسية وخطرا من أن يزيده متحدث تعقيدا . ولعل هذه القوى المعارضة إدراكا منها لخطورة وحساسية الموقف وتداعياته تؤثر هذا النوع من الترقب في انتظار نتيجة قرار لم تكن شريكة فيه . بل سيكفيها في لحظة أي حصاد إيجابي أن تقول أنها تركت لصاحب المبادرة أن يتحمل مسئوليته
إن الرسائل المتتابعة التي أُمطرت بها المعارضة السورية رشا جعلتها كالمتابع للصور الخاطفة على الشاشة ، لا تستطيع أن تتمكن من مشهد أو تدرك أبعاد صورة . فخلال أيام قليلة تم الإعلان عن رأي شخصي يقترح صاحبه مجرد اقتراح ( حوار مع ممثلي النظام ) وكل الإضافات على هذا الجوهر هي تفاصيل ، ثم انتقلنا إلى لقاء مع لافروف ، ثم ثالث مع صالحي ؛ فجأة تتداعى كل القواعد وما أطلق عليه من أصحابه الثوابت لنجد أنفسنا في فضاء جديد لا نكاد نثبت فيه شيء …
وكان المدخل الأول إلى كل ذلك الحديث عن التضحيات والشهداء والدماء والمعاناة .. أظن أن مواطنا سوريا لا يستطيع أن ينافس آخر بالشعور بهذا والإحساس به .
وكان المدخل الثاني هو الأغرب في السياق التذرع ( بخذلان المجتمع الدولي ) !!! أليس من حقنا أن نتساءل كيف يكون الاحتجاج على الخذلان الدولي بالمزيد من الاندفاع في اتجاهه ؟ وبالمزيد من التعويل عليه ؟! وكأننا نتكلم بلغة أبي نواس ( وداوني بالتي كانت هي الداء ) فهل تصلح لغة الخمر والشعر في السياسة ؟!
تستمع إليه وهو يعدد خياراته المستقبلية : سنطالب ب … فإن فشلنا فسوف وسوف وسوف ، وترى طبقات الخيارات الخمسة الموعودة كلها ملتصقة ( بالآخر ) بالمجتمع الدولي ، الذي نشكو من خذلانه . فكيف نشكو من خذلانه ثم نقرر فجأة أن نذهب أكثر معه .
وهل المجتمع الدولي الذي لم يأتمن الائتلاف ورجاله على توزيع مساعدات الغذاء والدواء سوف يتعاطى معه لينفذ لنا أي مطلب من المطالب التي نعد بها ، نعد أننا سنطالب ونستشعر القوة والثقة لمجرد أننا سنطالب !!
لم نسمع كلمة في كل هذه الوعود تتحدث عن العودة إلى الذات ، إلى الثورة والثوار ، إلى الخيار المكين ، لا أدري لماذا لا يثقون بقدرة شعبنا التي قطعت منفردة ثلثي المسافة على إكمال الطريق ؟!
وسط كل هذه التداعيات الخطيرة تصغي تريد أن تتبين فلا تكاد تسمع رأيا ولا ترى موقفا . الناس كلهم مبلسون وكأنهم في أمر مريج . لا أحد يقول نعم صريحة واضحة ولا أحد يقول لا صريحة واضحة.
يقول بعض المعلقون بلغة مهذبة إن المعارضة السورية أحدثت اختراقا في اتجاه روسية وإيران . هذا على لغة من قال :
ومهمه مغبرة أرجاؤه .. كأن لون أرضه سماؤه ..
ويسمونها لغة القلب ، كأن لون سمائه من لون أرضه . بمعنى من الذي أحدث الاختراق السوريون او الروس والإيرانيون ؟ صالحي علق على لقائه : بأنه خطوة إلى الأمام ، لمصلحة من ؟ يقول العارفون لمصلحة الملف النووي الإيراني ، إيران تشتري بقاء بشار الأسد حتى من حسابها الخاص والآخرون لا يهمهم أن يدفعوا من حساب الشعب السوري . بإمكانك أن تهدر تضحيات مائة ألف شهيد خوفا من أن يصبحوا مائتين ؛ ولكن الشهداء قبل أن يرحلوا اخذوا العهد على إخوانهم حتى الصبح والصبح قريب .
ويبقى السؤال الأخطر والأهم هل من أحد يشرح لشعبنا ما ذا يجري ؟ وما هي حقيقة الموقف ؟ إلى أين نحن ذاهبون ؟
يجيبنا شاعر صوفي :
فكان ما كان مما لست أذكره …فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
نظن خيرا ونتوسمه نعم ..
ولكن أليس من حقنا أن نسأل عن الخبر ؟!