الأخ الفاضل الشيخ معاذ اقترح التفاوض مع نظام الاحتلال مقابل التزامه بإطلاق سراح مئة وسبعين ألف معتقَل ومنح جوازات سفر لمئات الآلاف من المهجَّرين. وأنا أعلم أن أخي معاذ لم يطرح هذه المبادرة إلا رأفةً بالشعب السوري المصابر الذي أرهقته المحنة، ويأساً من العالم كله بشرقه وغربه. ولكن ما الذي تبدل من يوم تُلي على الناس بيانُ تأسيس الائتلاف، وقد تصدّره بندٌ واضح صريح يحرّم التفاوض مع النظام ويصر على إسقاطه؟
لم يشكّ أحدٌ يومَها ولا قبلها أن محنة الشعب السوري قد بلغت مبلغاً ينوء بالجبال الراسيات، ولكنْ ظنّ بعض الناس أن أميركا والغرب يحبون سوريا ويريدون لها الخير، ثم أدركوا أخيراً أن المؤامرة على سوريا والسوريين هي مؤامرة أميركية قبل أن تكون روسية، وأن العالم كله بشرقه وغربه قد تواطأ عليها وتربص بها وكاد لها المكائد، إلا أن بعض الدول صنع ذلك من وراء الستار وبعضها من أمام.
أيكون هذا الاكتشاف الجديد الذي اكتشفه مَن لم يكن قد اكتشفه حينئذ هو السبب في الموافقة على التفاوض مع النظام؟ ولكنه أمر قد عرفه جمهور الثورة العريض قبل أن يظهر الائتلاف للناس بوقت طويل، ومع ذلك قرر أن يستمر في ثورته وقال: لا حوار ولا اعتراف بالرئيس المخلوع، ولا نقبل إلا بالسقوط الكامل لنظام الاحتلال.
* * *
إنني أدرك الدوافع النبيلة لأخي معاذ عندما يدعو إلى أي حل من شأنه أن يُنهي عذابات المعذبين، على أن يكون حلاً لا يضيع الثورة ولا يهدر تضحيات مئات الآلاف من الشهداء والمصابين والسابقين من المعتقلين والمعذبين. لذلك فإنني أقترح فحص الدعوة إلى الحوار من حيث فائدتها: هل تحقق منفعة حقيقية للثورة؟ وأيضاً من حيث التوقيت: هل هي دعوة صالحة في هذه المرحلة من مراحل الثورة؟
أما التوقيت فإن القاعدة تقول إن الحاجة إلى الحوار تتناسب طردياً مع الضعف والخسائر وتتناسب عكسياً مع القوة والانتصارات، لذلك رأينا أن النظام بدأ تعامله مع الثورة باستعلاء وتجاهل واضحَين وأنه رفض الإصغاء إلى أهون المطالب، يوم كانت تلك المطالب تقتصر على إطلاق سراح أطفال درعا وتغيير محافظ حمص وتحقيق بعض الطلبات المعيشية لثوار بانياس. النظام الذي كان يرى نفسه أقوى من الثورة بما لا يُقاس لم يجد حاجة حتى إلى الإصغاء والتفكير في مطالب الثورة، واكتفى بالرد عليها بالقتل والاعتقال والترهيب. نعم، لقد كان ما فعله النظام مبرَّراً تماماً لأنه كان قوياً وكانت الثورة ضعيفة، واستمر على ذلك عاماً من الزمن، ثم بدأ يلمّح إلى استعداده للحوار، ثم راح يطلبه، ثم يلحّ عليه، بل يستجديه.
ما معنى هذا؟ لا يحتاج الجواب إلى ذكاء: لقد تنازل ووافق على الحوار لأنه مهدَّد بالفناء، وهو يحتاج إلى الحوار من أجل سبب واحد: البقاء.
* * *
السياق الثاني الذي ينبغي أن نقرأ فيه الدعوة إلى الحوار هي الفوائد المرجوة منه. أنا تاجر وبضاعتي هي الكتب، أبيعها بالآجل لا أبيعها نقداً لأن ذلك هو العُرف العام في هذا العالَم من عوالم التجارة. ولأن الثقة هي أساس البيع الآجل فإني أهتم بالسؤال عن المشتري قبل البيع، فإذا علمت أنه صاحب سجل نظيف وسمعة حسنة بادرت إلى بيعه، وإن يكن غيرَ ذلك امتنعت. والآن خبروني: ما مبلغ سجل نظام الاحتلال الأسدي من الصدق والأمانة؟ الجواب يعرفه الأطفال قبل الكبار.
ثم لنسأل أنفسنا: من أين جاء نظام الاحتلال الأسدي بمئة وسبعين ألف معتقل؟ أليس قد جمعهم من البيوت والطرقات؟ أليس ما يزال مسيطراً على أرض يقطنها خمسة ملايين سوري؟ أليس كل أولئك رهائنَ في يده، يمكنه أن يعتقل منهم مليون إنسان في أسبوع بدلاً من مئة ألف يطلق اليوم سراحهم؟ وليجدد اليوم جوازات مئة ألف مهجَّر، فماذا عن مئة ألف آخرين ستنتهي صلاحية جوازاتهم في بحر شهر من اليوم، أنعود للتفاوض مع النظام من أجلهم مرة أخرى ونقدم المزيد من التنازلات؟ وماذا عن القصف والخسف والقتل والتدمير؟ أيتوقف ذلك كله لو فاوضنا النظام؟ ولو وقف يوماً أو بعض يوم هل يقف الأسابيعَ والشهور؟ أليس قد استقبل كل مبادة سبقت بمزيد من القتل ومزيد من القصف ومزيد من الإجرام؟
* * *
لا يا سادة، ليس التفاوض مع هذا النظام الفاجر إلا مغامرة خاسرة، فإن العرب تقول “من جرب المجرَّب حلت به الندامة”. إنها لعبة لا تنتهي، ولا حل لها إلا بتحرير أولئك الرهائن الملايين جميعاً. لا حل إلا بسقوط النظام الذي هو أصل الشر والإجرام، وأي طريق لا يوصل إلى تلك الغاية الواضحة فإن سلوكه حرام حرام.