التقيت في القاهرة بإخوة أفاضل يَتّسمون بعمق الفكر وبعد النظر، كان من رأيهم ضرورة الاتفاق على مبادئ عامة تحكم ناشطي الثورة السورية وأنصارها، من العلماء والمفكرين والساسة والثوار المدنيين والعسكريين، فتنفي الخلافَ وتقلّص الخطأ وتساعد على بلوغ الغاية من أقصر الطرق وبأقل الخسائر. وقد وعدتهم بأن أكتب أفكاراً في هذا الموضوع الخطير، إلا أن السفر شغلني فأعجزني عن إنجاز الوعد في وقته، فليعذروني على التأخير.
على أن تقرير القواعد العامة والأصول الكبرى للثورة ليس من عمل آحاد الناس، بل هو من أعمال الجماعات والمؤسسات التي تلتقي فيها خيرة الكفاءات وأرقى العقول. فإن رأيتموني أقدّمها اليوم فإنما هي على سبيل الاقتراح فحسب، أو أنها مُسوّدة صالحة لأن يُبنى عليها لا أكثر. وأرجو أن تكون حافزاً لأهل الرأي والعلم فيُعملوا الفكر ويجتهدوا في إصدار قوائم أفضل وأكمل تضم المزيد من القواعد والمبادئ الثورية، على أن لا يكون شيءٌ مما يُقترَح من الفروع أو من فروع الفروع، بل من الأصول الكبرى الجامعة التي يُبنى عليها العمل والتي تؤثّر في المصائر والمآلات.
1- التعايش مع النظام أو مع أي جزء منه مستحيلٌ بعد كل ما لحق بسوريا من قتل وتدمير، ولن تنجح الثورة وتبلغ غايتها إلا بإسقاط العصابة الحاكمة، وحل الأجهزة الأمنية ومحاكمة مجرميها، وتسريح ومحاسبة قادة الجيش وضباطه الكبار، وإبعاد المسؤولين البعثيين والطائفيين عن المراكز الحساسة في مرافق وأجهزة الدولة.
2- الأجهزة الأمنية هي الأدوات القمعية لنظام الاحتلال ولا يجوز بقاء شيء منها، بل يتوجب حلها بالكامل وإعادة بنائها من جديد. أما الجيش فإنه ملك للوطن وينبغي إصلاحه وإعادة هيكلته، فتُحَلّ تشكيلاته الطائفية، وتُعاد له صفته الوطنية عن طريق تسريح الأعداد الهائلة من الضباط العلويين الذين جنّدهم النظام الأسدي على مرّ السنين.
3- مؤسسات الدولة ملك للسوريين جميعاً، لا يَحِلّ تخريبها ولا سرقةُ شيء من محتوياتها أو استغلالُ مواردها لمنافع شخصية، ولا يجوز استئثار جماعة من الجماعات المقاتلة بشيء منها إلا على سبيل الحفظ والتشغيل، فإذا سقط نظام الاحتلال وجب عليها ردّها إلى الدولة السورية الجديدة بلا شروط ولا مساومات.
4- العدالة تقتضي محاسبة المجرمين والمشاركين في الجريمة من أي فئة أو طائفة كانوا، ولا يكون استقصاء العدالة وتنفيذُها إلا من خلال مؤسسات القانون الرسمية في الدولة السورية الجديدة، والمحاسبةُ تقتصر على المجرمين فلا يجوز أن تتجاوزهم إلى أهاليهم أو طوائفهم، مهما تكن الطوائف التي ينتمون إليها.
5- الانتقام الأعمى والقتل العشوائي جريمة يحاسب عليها الشرع ويعاقب عليها القانون، ولا يُفتي في الدماء إلا العلماء الثقات، ولا سيما ما كان من الأحكام عاماً يتأثر به العدد الكبير من الناس أو الطائفةُ من الطوائف، فلا يجوز أن يفتي في هذا الأمر الجلل إلا مجامعُ وهيئات فقهية ذات شأن.
6- الحوار مطلوب في كل قضايا الثورة، واحتكار الرأي ممنوع سواء أكان من طرف الأفراد أو الهيئات. الاختلاف مقبول فيما يحتمل الاختلاف وضمن أدب الاختلاف، وأهل الثورة يعرف بعضُهم أقدارَ بعض. أما التخوين والتّسفيه والهجاء الشخصي فإنها أدوات مرفوضة لا تحقق المصلحة ولا تليق بالسوريين الأحرار.
7- القرارات المصيرية -كاختيار الحاكم وتحديد شكل الدولة- حق للسوريين جميعاً، وتتوسع فيها الشورى حتى تشمل الجماعةَ العريضة من الحكماء وأهل الرأي الذين يرتضيهم الشعب السوري ناطقين باسمه ومعبّرين عنه، ولا يجوز أن تحتكر جماعةٌ بعينها القرارَ بشأنها أو تفرضه على غيرها بقوة السلاح.
8- لا يجوز لأي جهة أن تدّعي النطق باسم السوريين ثم تنفرد باتصالات خفية سرّية من وراء ظهورهم، ولا يحق لأي جهة -من الأفراد أو الهيئات- أن تُلزم سوريا بمعاهدات واتفاقيات دائمة إلا بعلم الشعب السوري ورضاه. وبما أن أجهزة الشورى والتصويت معطلة في هذه المرحلة فلزم بطلان أي اتفاقية تعقد باسم سوريا قبل التحرير.
9- أحرار سوريا بمجموعهم -بثوارهم وعلمائهم ومفكريهم- يدعمون القيادة السياسية للمعارضة السورية طالما سعت إلى تحقيق أهداف الثورة المتفَق عليها، فإذا خالفَت وجب النصح والتصويب بالرفق وأدب الحوار، فإن أصرّت على المضيّ في طريق يخالف اختيار الشعب ومصلحة الثورة وجب خلعها والتبرؤ منها علانية.
10- تقديم الرأي والنصيحة حق لكل واحد من الناس، بل إنه يكون واجباً إذا ترتبت على تقديمه منفعةٌ وعلى حبسه مضرّة، أما القرار السياسي فليس حقاً إلا للجماعة التي تملك أدواته والتي تملك شروطه، ومن أهمها تفويض الشعب وتشاوُر أهل الرأي وعدم التناقض مع أهداف الثورة الكبرى.
11- الإسلام هو الاختيار الذي يريده أكثر السوريين والذي تعبّر عنه شعاراتهم وهتافاتهم وتسميات جمعهم وكتائبهم، ولكن الذين يريدونه لن يفرضوه على غيرهم بقوة السلاح، بل بقوة الإقناع وبقوة القانون، فأيّما اختيار اختارته الأغلبية فهو مُلزم للباقين بحسب القواعد والأعراف السياسية والقانونية.
12- الثورة تجمع ولا تفرق، وفيها سابق ولاحق ومتقدم ومتأخر، وقد خرج الثوار -حيثما خرجوا- يطلبون الحرية لسوريا كلها ويبتغون الثواب من الله. فلا يصحّ أن يكون السّبق حجةً لاستعلاء السابقين ولا ذريعةً لشق الصف وزرع الفتن بين المناطق المختلفة أو بين المدن والأرياف. إن الله يعرف عمل العاملين وعنده خير الجزاء.
13- التكافل واجبٌ في كل وقت، ولكنه اليومَ فريضةُ الوقت وتركه كبيرة، لأن النصر منعقد -بأمر الله- على صبر الشعب واستمرار الحاضنة الشعبية للثورة في الصمود، ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق الكفاية في حاجات الناس الأساسية: المأوى والغذاء والكساء والدواء.
14- دعم الثورة -بشقّيها الإغاثي والعسكري- واجبٌ شرعي وإنساني على كل قادر من السوريين ومن إخوانهم المسلمين، وهو دعم مشروط بأن لا يكون مشروطاً بتنفيذ برامج (أجندات) خاصة ولا بتقديم ولاءات لمدارس فكرية أو لأحزاب وهيئات سياسية.
15- دعم الثورة من أعظم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها أهل الخير في سوريا وفي غيرها، ولكن من واجب المتبرع أن يتحرى وجه إنفاق المال، فإذا غلب على ظنه أنه يمكن أن يُصرَف في منافع شخصية أو أن يكرّس التفرق بين الكتائب حَرُم إنفاقه في ذلك الوجه، ووجب على مُنفقه تحرّي مصرف آخر صالح لإنفاقه.
16- كفالة أسر المعتقلين والشهداء من أوجب الواجبات على المجموع، وهو يترتب على الأقرب فالأقرب، فكلما عجزت دائرة انتقل الواجب إلى ما بعدها حتى يصبح حقاً واجباً لتلك الأسر في رقبة الأمة: عاجلاً قبل النصر، وآجلاً بعده إلى أن يستغني الأيامى واليتامى عن الكفالة.
17- لضحايا الاغتصاب من بناتنا وأخواتنا حق من أوجب الحقوق علينا، فينبغي على الوالدَين -إن كانت الضحية بنتاً- وينبغي على الزوج -إن كانت زوجة- احتواؤهنّ وتعويضُهنّ بالحب والحنان عن المكروه الذي أصابهن، وينبغي على المجتمع استيعابهن ومعاملتهن بالتقدير والتكريم وتوفير ما يلزم لهن من علاج نفسي وبدني.
18- دخول قوات أجنبية إلى سوريا تحت أي مسمى وبأي ذريعة سوف يُعتبر احتلالاً أجنبياً، وهو سيكون بمثابة الاستمرار لعهد الاستعمار العسكري الأجنبي الذي حاربناه من قبل، فيتوجب علينا أن نحاربه -لو تكرر اليوم- بكل وسيلة ممكنة وأن نمنع وقوعه بكل قوة متاحة.
19- الفراغ الذي يترتب على سقوط أجهزة الدولة في المناطق المحررة يوجد حالة فوضى ضارة بالمجتمع، وعلاجها بأن ينشئ أهل الحل والعقد في كل منطقة أجهزة بديلة: الأمن الداخلي، وتتولاه كتيبة مستقلة مكونة من متطوعين يمثلون كتائب المنطقة تمثيلاً متساوياً. والقضاء الشرعي، ويقوم عليه فريق من العلماء الثقات. والإدارة المحلية، وينظمها ويديرها وجهاء المنطقة وقادة الحراك الشعبي.
20- اختلاف الكتائب وتفرّقها جريمة في حق الثورة والأمة. وليس البديلَ الوحيد للتفرق هو الوَحدة الكاملة، فإنها متعذرة لأسباب كثيرة في الوقت الحاضر، ولكن تعذّر الوحدة لا يُعفي الكتائب من تحقيق الحدود الدنيا من التعاون والتنسيق والعمل الميداني المشترك.
21- تنازع الكتائب المقاتلة حرام، وتزداد حرمته إذا تسبب في خسارة المعركة أو في تأخر الحسم مع القدرة عليه. وإذا احتاجت بعض الكتائب إلى الدعم والمساندة بالرجال أو بالسلاح والذخائر فإن نجدتها فريضة شرعية على كل من يملك القدرة من الكتائب الأخرى، وخذلانها في مثل هذه الحالة من أحرم المحرّمات.
22- المسلم أخو المسلم، وليس لحامل السلاح فضل على مَن لم يحمله إلا بما ادّخره الله له من الأجر على النية إذا صلحت. فلا يجوز لحامل السلاح أن يتعالى على أخ من إخوته المدنيين، ولا يهدده بسلاحه ولا يروّعه ولا يشير إليه به، وكل ذلك من المحرّمات، أما استعماله ضده أو قتله به فإنه من الكبائر الموبقات المحبِطات.
23- السلاح أداة طارئة وُجدت لتنفيذ هدف محدد هو إسقاط النظام وتحرير البلاد، ولا يجوز استخدامه قبل التحرير ولا بعده لفرض أي برنامج على السوريين. لو أن جماعة منحت نفسها حق التغيير بالقوة فإن هذا الحق سينتقل بالضرورة إلى غيرها، وعندئذ سوف يتحول المجتمع إلى غابة ويقتتل المسلمون بعضهم مع بعض.
24- إن السلاح في أيدي المجاهدين ليس سوى وسيلة لتحقيق غاية نبيلة، فإذا تحققت الغاية وجب على الكتائب جمع السلاح وتسليمه إلى المؤسسات الأمنية الجديدة في الدولة المستقلة، ثم مَن شاء من المقاتلين فليلتحق بمؤسسة الأمن الداخلي (الشرطة) أو الأمن الخارجي (الجيش) وله أولوية ورتبة تتناسب مع سجله في الجهاد.
25- لا يصحّ تسليم السلاح وحل الكتائب إلاّ بعد تجاوز الفترة الانتقالية الصعبة التي يُتوقّع أن تعاني منها سوريا لبعض الوقت، والتي يمكن أن ينعدم فيها الأمن بسبب انتشار المجرمين الجنائيين الذين أطلقهم النظام من السجون وبسبب بقايا أجهزة الأمن والشبيحة، فمن واجب الكتائب المقاتلة أن تحفظ الأمن -كل كتيبة في منطقتها- ريثما تبني الدولةُ الجديدة أجهزةً أمنية جديدة نظيفة قادرة على حماية الناس.