ليس عنوان هذه المقالة من إنشائي، بل هو السؤال الذي دار على ألسنة الناس رداً على كل مَن حذّر من الحوار ومن أخطار الحل السياسي، فإنهم قالوا: إذا لم يكن الحوار حلاً فما الحل الذي تملكون؟ ما البديل؟
إنهم يظنون أن الثورة وصلت إلى طريق مسدود فيتعلقون بأوهام الحوار كما يتعلق بالقشة الغريقُ، ولكن هل رأيتم قط غريقاً أنقذته من الغرق قشة؟ لو كان القش يُنجي الغَرقى لأنجَتْنا محاورةُ نظام القتل والإجرام.
يقولون: لا بديل. وأقول: بلى، يوجد بديل -غير الحل السياسي- يبلّغنا الغاية بإذنه تعالى. سأقترح في هذه المقالة حلاً أراه، وأرجو أن يقترح غيري ما يرى من حلول، على أن تتوفر في أي حل مقترَح ثلاثة شروط: أن يكون حلاً قابلاً للتطبيق وليس من باب الخيالات والأحلام، وأن يحقق أهداف الثورة الحقيقية فيحرر البلاد ويسقط النظام، وأن يعتمد على القدرات الذاتية التي يملكها السوريون لأن الدعم الخارجي خرافات وأوهام.
الشرطان الأول والثاني مفهومان بَداهةً، وإنما ذكرتهما من باب التأكيد، أما لب الأمر وجوهره فهو في الشرط الثالث، فهل يمكن أن يتحقق في أي مشروع؟ سوف يختلف الناس فيقول بعضهم: ليس في وسعنا أن نغالب العالم الذي تواطأ على ثورتنا ولا طاقة لنا بغَلَبة نظام الاحتلال الأسدي المجرم وحدنا. وآخرون سيقولون: بلى، سنغلبه وحدنا بعون الله.
بعض الناس اشتغلوا بلوم المجلس الوطني أولاً ثم الائتلاف آخِراً لأنهما فشلا في تأليب العالم الغربي والمجتمع الدولي على النظام فحرما الثورة من خير نصير. أولئك الناس ما يزالون يرجون العون من الغرب، وليس في هذا الرجاء ذرّة من صواب، فإن العاقل لا يطلب النصرة من عدوه ولا يمد يده في جحر الأفعوان. أما آن لنا أن ندرك أن عداوة الغرب لنا ليست أقل من عداوة الشرق، إن لم تكن أشد وأنكى، وأن ما لا نصنعه بأنفسنا دون عون من غيرنا لن يصنعه لنا غيرُنا ولو طالت المحنة واستمرت الثورة ألفَ عام؟
إن الشرط الأكبر لأي حل حقيقي لمشكلتنا هو أن يكون حلاً مستقلاً عن الغرب والشرق، مستغنياً عنهما كليهما، غيرَ معتمد على أحد إلا على قُوانا الذاتية وقدراتنا الخاصة بعد الاعتماد على الله. ولو أن السوريين احتاجوا إلى أحدٍ غيرِهم فلن تكون حاجتهم إلاّ إلى إخوانهم المسلمين، وهؤلاء ليسوا غرباء عنا، بل هم منا ونحن منهم وبعضنا أولياء بعض في قانون الله وكتابه الكريم.
* * *
الحل الذي يساعد على الصبر ويوصل إلى النصر يعتمد على سد ثغرتين كبيرتين عظيمتين وتحقيق الكفاية فيهما: ثغرة الحاضنة الشعبية، وثغرة الكتائب المقاتلة.
الثغرة الأولى هي الحاجات الإغاثية الضرورية للشعب السوري في الداخل التي لا يستطيع البقاء إلا بها، وتشمل -في حدها الأدنى- الغذاء للجائعين والمأوى للمشردين والعلاج للمرضى والمصابين. هذا الحِمْل كبير ثقيل، ولكنه ليس أكبر من قدرة أثرياء السوريين الذين يعيشون خارج الوطن، وهم كثيرون ولهم أموال كثيرة لم يستنفدوها بعدُ رغم الإنفاق الكثير الذي أنفقوه إلى اليوم، ولا هو أكبر من قدرة أمة الإسلام، فليس ينوء هذا الحِمل بجماعة المسلمين على اتساعها وثرائها إن شاء الله.
إننا نخطئ عندما نعلق مصيرنا بما يقدمه لنا المجتمع الدولي من مِنَح وأعطيات، فقد أثبت هذا المجتمع أنه جزء من مشكلتنا وأنه لا يمكن أن يكون جزءاً من حلها، فهو الذي رعى العدو الغاصب على مر السنين وأمده بأسباب القوة والبقاء، وهو الذي يحاصر ثورتنا ويضع في طريقها العراقيل. أقترح أن نفكّ هذا الارتباط المُرّ منذ اليوم وأن نبني خطة عملية يمكننا تنفيذها بأنفسنا وبلا اعتماد على أي طرف غريب.
قبل عدة أسابيع كتب إليّ أحد الأصدقاء الأعزاء من حمص يقترح تصميم مشروعات إغاثية وإلزام أطراف خارجية -عربية ودولية- بتبنّيها والإنفاق عليها. سأطور اقتراحه وأعيد تصميمه بحيث نستطيع تنفيذه بأنفسنا والمضيّ به إلى آخر الطريق بعون الله.
ستبدأ الخطة بحصر الحاجات الحقيقية التي يحتاج أهل سوريا إليها، وبعد ذلك نقوم بتفتيتها إلى مشروعات صغيرة قابلة للحمل، فيصبح تزويد كل قرية من القرى الصغيرة أو حي من أحياء المدن الكبيرة بالدقيق مشروعاً مستقلاً، ورعاية وتمويل كل مستشفى ميداني أو مجموعة من النقاط الإسعافية مشروعاً مستقلاً، وإيواء المشردين في كل مدينة كبيرة أو منطقة من المناطق مشروعاً مستقلاً، ونكرر ذلك التقسيم مع كل الحاجات الأخرى (كالملابس والأغطية والوقود)، ثم نوزع تلك المشروعات على المتبرعين من أفراد سوريين وغير سوريين، ومنظمات خيرية وإغاثية سورية وإسلامية، بشرط أن تكون منظمات غير حكومية، حتى لا تبقى سوريا وثورتها وشعبها رهائنَ في أيدي الأنظمة والحكومات، تفرض عليها الشروط والتنازلات وتتخذها سلعاً في أسواق الألاعيب والمؤامرات.
هذا المشروع قابل للتحقيق إذا وُجدت النية الصالحة والإخلاص في العمل، ويجب أن تقوم على إدارته وتنفيذه هيئة إغاثية عليا تتوفر بين يديها المعلومات الكاملة مبوَّبةً ومنظَّمة في قاعدة بيانات دقيقة، فتضمن وصول الدعم إلى جميع المشروعات وتوزيعه توزيعاً عادلاً بلا زيادة ولا حرمان. ومن المفهوم بداهة أن تلك الهيئة العليا ينبغي أن تكون مستقلة تماماً عن القرار السياسي الذي يمكن أن يتعرض للضغط الدولي والتوجيه الخارجي، ومن ثم فإنها لا علاقة لها لا بالمجلس الوطني ولا بالائتلاف ولا بأي كيان سياسي حالي أو مستقبلي في سوريا، بل هي هيئة تتفق على تكوينها وإدارتها المنظماتُ الإغاثية التي يشهد لها تاريخها وسجلها العملي -من أيام الثورة المبكرة إلى اليوم- بالكفاءة والنزاهة، كهيئة الشام الإسلامية واتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية.
* * *
الثغرة الكبيرة الثانية هي حاجة العمل العسكري إلى السلاح والذخيرة. في هذه النقطة بالذات أجدني مضطراً إلى فتح ملف أجّلت فتحه كثيراً، ولئن مَسَسْتُه اليوم مَسّاً رفيقاً رقيقاً فإن لي إليه عودةً مطوّلة إذا لزم الأمر ولم يستقم الحال. إنه ملف الكتائب المقاتلة، ليس جميعها بالتأكيد وإنما البعض منها، وقد يكون هو البعضَ الأقل لا الأكثر، ولكن المشكلة تحتاج إلى علاج ولو كان مصدرها قليلاً ضئيلاً لأن النيران العظيمة إنما تنشأ من أهون الشرارات، ولأن الخطأ الذي لا يؤثر في مصير الثورة يمكن تأجيل إصلاحه، أما الأخطاء التي تترتب عليها المصائر فإن التهيّب من علاجها وتأجيل بحثها يكاد يكون من كبائر الآثام.
في قلبي الكثير ولكني لن أفرغه اليوم جميعاً، بل سأقتصر على موضوعنا الخطير: هل يمكن أن نكمل المعركة ولو حاصرتنا قوى العالم ومنعت عنا السلاح؟ الجواب: نعم، إذا أخلص قادة الكتائب نيّاتهم وجمعوا قواهم لمقاتلة عدوهم المشترَك ولم تفرّقهم الخلافات على المغانم والرئاسات.
نحن نعلم أن أميركا وحلفاءها فرضوا على الثورة حصاراً صارماً حتى لا يصل إليها أي سلاح نوعي فعّال، ولكن هذا الإجراء العدواني الآثم لم يجعل الانتصار مستحيلاً، لقد جعله أكثرَ صعوبةً فحسب، فإن ما امتلكه الثوار من سلاح قد مكّنهم من صنع كرة ثلج ما زالت تتدحرج فتزداد حجماً يوماً بعد يوم. إنهم يقتحمون المعسكرات والمطارات ومستودعات الأسلحة ومصانعها فيغنمون الكثير بعد الكثير، وكلما انتصروا في معركة فغنموا غنيمة استعملوها في معركة أخرى بعدها، فصار تسليح الثورة داخلياً بعدما أبى العالم أن يسلحها من خارج الحدود، ولم نعد بحاجة إلاّ إلى التعاون والتنسيق بين الكتائب المقاتلة في الميدان.
يعلم كل واحد أن الأحوال العصيبة التي نشأت الجماعاتُ المقاتلة فيها حتّمَت عليها التفرق والاستقلال، ولكن تلك الأحوال لا تمنع وَحدة الجماعات اليوم بعدما قوي بأسها وانحسرت قوة عدوها، وإذا تعذر اتحادها في كيان واحد جامع لم يتعذر اجتماعها في مجالس عسكرية ميدانية تنسق من خلالها عملياتها وتوزع مواردها، على الأقل في المناطق الجغرافية المتقاربة إن لم يكن على الأرض السورية كلها. فلماذا لا يفعلون؟
إن عدونا لم ينجح في الصمود إلى اليوم لأن الإيرانيين والروس دعموه بكل أنواع السلاح؛ لقد صمد لأنه قاتل خصماً متفرقاً اشتغل بعضُه بالبحث عن الغنائم وسعى بعضه وراء المكاسب والزعامات. إن من الحقائق التي ما عاد يجوز كتمانها أن بعض الكتائب استأثرت بالمال والسلاح فيما يتعرض غيرها للفناء لقلّة المال والسلاح، وأن بعض الكتائب خزّنت الكثير من السلاح لتستعمله بعد سقوط النظام وغيرها يخسر المعارك اليوم لحاجته إلى القليل من السلاح. إن من الحقائق التي ما عاد يجوز كتمانها أن بعض المقاتلين حوصروا في بعض المناطق لشهور طويلة وفي يد إخوة لهم قريبين منهم من السلاح والذخائر ما يكفي لفك الحصار عشر مرات، لكنهم تخاذلوا عن نصرتهم لأن هذا القائد لا يحب ذاك أو لأن تلك الجماعة تنافس هاتيك على النفوذ والسلطان. إن من الحقائق التي ما عاد يجوز كتمانها أننا خسرنا معارك كثيرة وخسرنا مواقع مهمة لأن بعض الجماعات رفضت التنسيق والعمل مع غيرها، لخلافات بين القادة أو تنازع على المساحات والمكتسبات.
سوف نمضي إلى آخر الشوط اعتماداً على أنفسنا إذا تعاون أهل السلاح بعضهم مع بعض واقتسموا ما يملكون من أسلحة وذخائر، أما الخلاف والأثَرَة فلن يصنعا سوى الهزائم والخيبات. وإني أقولها اليوم وربما عدت إليها غداً: إن المجرمين الحقيقيين الذين يجرمون في حق الثورة والشعب هم قادة الكتائب الذين يستأثرون بالسلاح ولو فاض في أياديهم، الذين يرفضون التعاون مع الكتائب الأخرى في معركة التحرير، الذين يستطيعون إنقاذ المناطق المهدَّدة والمحاصَرة ثم لا يفعلون، الذين يسعَون إلى ثروات وأمجاد شخصية على حساب الثورة وعلى حساب سوريا وشعبها الجريح. أولئك لن يسامحهم الله ولن يعفو عنهم الشعب ولن ينسى إجرامَهم التاريخ.
* * *
ليسعَ المغيثون في حاجات الشعب السوري المكلوم، وليستقم على الطريق من حاد عن الطريق من أهل السلاح، ولنستعن جميعاً بالله ونتوكل عليه حق التوكل، ولنقطع الرجاء إلا منه ولا نضع الأمل إلا فيه، وما النصر عنا ببعيد بإذن المولى الكريم.