منذ كم فرض جيشُ الاحتلال الحصارَ على أحياء حمص القديمة؟ لقد توقفنا عن العدّ منذ زمن، وماذا يفيد العدّ إذا كان العادّون يخاطِبون صُمّاً لا يسمعون؟ نشرت قبل وقت طويل مقالة بعنوان “أنقذوا حمص” قلت في أولها:
يا أيها الناس: لقد لبث إخوانكم في حمص تحت النار وفي فم البركان مئة وخمسين يوماً، يدافعون عدواً أثيماً لئيماً ويتصدَّون لهجمة باغية شرسة جبارة، وإنهم ما يزالون صامدين إلى اليوم، فيتقدمون ويتقهقرون ويكسبون ويخسرون، ويفقدون اليوم أرضاً ثم يسترجعون في الغد ما يفقدون. ولكن إلى متى سيصمدون؟ لقد حشد العدو جيشه وجمع كتائبه وأوشك أن يهجم على حمص الهجمةَ الأخيرة من بعد ما أعيته الشهورَ الطوال، فلا تتخلوا عن حمص ولا تتركوا إخوانكم فيها لقمة سائغة يلوكها الأعداء. لو أنك كنت تتخلى عن أخيك ابن أمك وأبيك لجاز لك أن تتخلى عن أهلك في حمص اليوم. لا، بل حتى لو تخليت عن أخيك وبنيك فلا يجوز أن تتخلى عن إخوانك فيها وأهليك.
وقلت في آخرها:
لقد استنصر قومٌ من قبلنا (في الأندلس) إخوانَهم فتأخروا في الاستجابة وتصامّوا عن الاستغاثة ففاتت فرصة من فرص الزمان. فلا تكرروا المأساة؛ لا تضيّعوا الصرخة كما ضيّعها الأسلاف، لا تصبحْ حمص أندلساً جديدة تنتحبُ عليها الأجيال. يا أيها العلماء، يا قادة الأمة في المدلهمّات وفي الليالي الحالكات: اصنعوا شيئاً، أعلنوا النفير لإنقاذ حمص، أطلقوا حملة لإنقاذ حمص قبل أن تضيع حمص إلى أبد الزمان. يا أيها المسلمون: إن حمص تستغيث بكم وتستنصركم بعد الله. إن لم تكونوا أوفياء للأحياء من أحيائها فكونوا أوفياء للأموات من أمواتها، لنصف ألف صحابي دُفنوا في ترابها. لا يقل أحد منكم: أنا لا يعنيني. ألا لا يأتينّ على الناس زمان يقول فيه قائلهم: يا ليتنا صنعنا شيئاً قبل فوات الأوان!
* * *
نشرت تلك المقالة وظننت أن النائمين سيستيقظون. يا لسذاجتي وحسن ظني بالذين استنهضتهم فظننت أنهم من فورهم سينهضون! لو أنني ناديت الجبل الأصمّ لَلَبّى الجبلُ الأصمّ النداء، وهم لا يبالون ولا يتحركون.
أربعة عشر حياً تتعرض لحصار خانق منذ أكثر من عام، حصار قطع عن المحاصَرين السلاح والذخيرة والغذاء والدواء والوقود والماء والكهرباء، فلم يَنجُ منه إلا الهواء. لم يستسلم المحاصَرون وأبدعوا كل وسيلة تخطر بالبال لإدخال ما يبقيهم أحياء ويعينهم على مواصلة القتال، ولكنهم لم يدفعوا الثمن مالاً، لقد دفعوه أشلاء ودفعوه دماء.
شهور طويلة مضت وهم صامدون. في كل يوم ينقصون واحداً، فإما شهيد يوارونه التراب أو مصاب يضيفونه إلى السابقين من المصابين. صار الجرحى أكثر من الأصحّاء، يملؤون أبنية من عدة طبقات، يموت بعضهم لندرة العلاج وانعدام الدواء، ولا يستطيعون أن يُخرجوا منهم أحداً إلى دنيا الأمان.
هل ألوم نظام الاحتلال الأسدي الفاجر على هذه المأساة؟ لن أفعل، فإنه لم يصنع من الجرائم الموبقات إلا ما كان يُنتظَر منه أن يصنع. وهل كنا نتوقع أن يقذف عاصمة الثورة بالورود والأزهار؟ ولو أني لُمته فبأيّ شيء يفيدنا لَومه؟ لا، بل سأستعير من إبليس كلمة حق أنطقه الله بها يوم الحساب: {لا تلوموني ولوموا أنفسكم}. لوموا أنفسكم لو كنتم تعقلون!
* * *
لقد قلناها همساً أولاً، ثم استعطفنا القلوب واستنهضنا الهمم ثانياً، فلمّا لم يُجْدِ شيء من ذلك لم يبقَ إلا أن نقولها بأعلى الأصوات وبأوضح الكلمات. ليس النظام المجرم هو من نلوم، إنما نلوم إخوة لنا كان يسعهم أن يفكّوا عن حمص الحصار لو صدقوا النية وأرادوا فعلاً أن يفكوا الحصار. نلوم طائفة من أثرياء حمص وطائفة من علماء حمص (لا أقول كل الأثرياء والعلماء)، لهم في حمص وريف حمص كتائب وجماعات، وتحت أيديهم من المال المخبوء في المصارف ما يفكّون به الحصار خمسين مرة ومن السلاح المخزون في المستودعات ما يفكّون به الحصار عشر مرات، فلماذا لا يفعلون؟
لأن القلوب ماتت؛ أماتها الخلاف على الفروع والتنازع على المكاسب والمناصب والنفوذ والزعامات.
أقول لهم ولكل من يستطيع أن يساهم في النجدة وفكّ الحصار: إننا نطالبكم بعقد مؤتمر معجَّل عنوانه “فك الحصار عن حمص”، مؤتمر أفعال لا مؤتمر أقوال، وإننا نمهلكم خمسة أيام بلياليها لنرى ثمرة مؤتمركم، فإذا لم تفعلوا أعلنّا عليكم الحرب، الحرب بسهام الأسحار، فاحتملوها لو كنتم تحتملون، أو ادفعوها عن أنفسكم لو كنتم تَقْدرون!
لن أظلم أحداً ولن أسمّي شخصاً بعينه ولا جماعة، بل سأبتهل إلى الله بأعدل دعاء فحسب: اللهمّ من كان قادراً على نجدة حمص ثم لم يفعل، من كان يستطيع فك الحصار عنها ثم لم يفعل، من كان بيده أن يقصّر معاناة المحاصَرين فيها ثم لم يفعل، اللهمّ فناقشه في الحساب وضاعف له العقاب، اللهم ولا ترحمه في يوم يحتاج فيه العباد إلى رحمتك. قولوا آمين يا أيها القراء الكرام.