أغضبَت مقالةُ الأمس قوماً وسوف تغضب مقالة اليوم قوماً آخرين، فإذا ما انتهيت من هذه المقالات فقد لا يبقى لي صديق. ولكني لم أكتبها لأكسب أصدقاء، إنما كتبتها صادقاً مخلصاً حسبةً لله وللثورة ولشعب سوريا الكريم، فإن أرضيت الله وجلبت بها نفعاً أو صرفت ضراً فكفاني، وإذا أخطأت فأسأت إلى أحد من الناس بغير حق فإني أعتذر إليه وأستغفر الله، وهذا عرضي مباح لمن ظلمته فليقتصّ مني، فلئن أسوّي حسابي في الدنيا خيرٌ وأحب إليّ من أن يؤجَّل قضاؤه إلى الآخرة.
في المقالة السابقة حذّرت من الصحوات التي أخشى على سوريا منها، ورغم أنني ذكرت جبهة من الجبهات العاملة في الميدان باسمها إلا أنني أثنيت على الكتائب التي تستظل بمظلتها وقلت إنهم مجاهدون صادقون فيما أحسب، والله حسيبهم، ولم أطلب منهم إلا أن يفكّوا ارتباطهم بمموّلي الجبهة فحسب. وأريد اليوم أن أنظر إلى الجهة الأخرى: إذا كان أولئك المجاهدون من الأخيار السابقين فكيف يمكن أن يُستعمَلوا في مشروع اقتتال داخلي في أي يوم قادم لا قدّر الله؟
إذا كان لأي اختراق للثورة أن يحصل في سوريا فإنه سيحصل بسبب الأخطاء التي ترتكبها بعض الجماعات المقاتلة، وقد يكون مجرّد رَدّ فعل عليها. هذه الأخطاء بدأت قليلة ولكنها ما تزال تتكاثر ولا نرى جهداً حقيقياً مخلصاً لاحتوائها، فقد حَرُم السكوت عنها وآن أوان الدعوة إلى إصلاحها، ولا بد أن أصرّح في هذه المقالة بالأسماء كما صرحت في المقالة التي قبلها، فإن العلاج يقتضي الصراحة ولا يصلح له التلميح والإيماء. لقد زادت الممارسات السلبية التي يقوم بها مجاهدو جبهة النصرة (وبعض المجموعات “الصغيرة” التي تحمل فكراً قريباً من فكرها ومنهجاً قريباً من منهجها)، زادت في أكثر المناطق التي يسيطرون عليها، وهي ممارسات تزعج الناس في يومهم الحاضر وتخوّفهم من المستقبل، وأخشى -إن لم يُسارَع إلى علاجها- أن تفتح باباً لأعدائنا ليتسللوا منه إلى حربنا كما حصل في العراق في تجربة الصحوات المُرّة الأليمة.
بعض مجاهدي تلك الجماعات يتصرفون مع الناس بوصاية واستعلاء. الاستعلاء بمعنى أنهم خير من الآخرين، فهم على صواب مطلق والآخرون يلتبس خطؤهم بالصواب أو أنهم بعيدون أصلاً عن الصواب، ثم تأتي الوصاية لتبرّر لهم فرض الصواب على الآخرين لأنهم يعلمون ما لا يعلمه الآخرون. إن الاستعلاء كِبْر، والكبر من أكبر الكبائر حتى لو كان في الدين، فمن ظن أنه أحسن ديانة من فلان وأن الله يقبل منه ولا يقبل من غيره فقد تألّى على الله، والتألّي جريمة يعاقب عليها الله بالخسران. أما الوصاية فلا تكون إلا من الكبار على الصغار أو الراشدين على القاصرين، والسوريون الذين قاموا بالثورة وحملوها حتى اليوم ليسوا صغاراً وليسوا قاصرين.
إن تلك الممارسات تحاصر حرية الناس وتعتدي على كرامتهم، وقد زادت حتى ضجّ منها كثيرون. لماذا يا أيها المجاهدون؟ لماذا تنفّرون الناس بالغلظة والوصاية والاستعلاء؟ لماذا تجرحون كرامة الإنسان، وهي أثمن ما يملكه الإنسان بعد الإيمان؟ لقد ثار السوريون على النظام من أجل حريتهم وكرامتهم، فهل تظنون أنهم سيقبلون بأي بديل يحرمهم من حريتهم أو يعتدي على كرامتهم التي ثاروا من أجلها؟ وهل تحتملون ثورتهم إذا ثاروا غداً عليكم ورفضوا المذلة والهوان؟ إن الشعب الذي لم يستطع نظام الاحتلال الأسدي المجرم أن يغلبه لن تغلبه قوة أخرى من قوى الأرض، فدارُوه وارفقوا به أو انتظروا منه ثورة البركان!
* * *
لقد قلت ذات يوم إنني أختلف مع القاعدة في أمور، فهاج عليّ أنصارها وانتقدني بعضهم وسبّني آخرون. لماذا؟ هل أحدٌ أفضلُ من صحابة رسول الله الذين خطّأ بعضُهم بعضاً واستدرك بعضهم على بعض؟ وهل يلزم من محبة إخواننا المسلمين أن نكون نُسَخاً عنهم وأن نقبل كل ما فيهم بلا أدنى خلاف؟ يومَها سألني كثيرون: وما الذي تخالف فيه القاعدة؟ الآن جاء الجواب: لن أذكر اختلافنا في التفصيلات والفروع فإنه لا يؤبَه له ولا ينبغي أن يُشتغَل به، بل سأقتصر على ثلاث مسائل رئيسية أرى أنها هي جوهر الخلاف: واحدة من مسائل العقائد، والثانية من مسائل الأحكام، والثالثة مما يندرج في المناهج والبرامج. وأخشى أنها قد بدأت تتسرب كلها إلى مجاهدي النصرة وبعض الكتائب التي تشاركها في الفكر والمنهج، فانتبهوا إليها وتداركوها قبل أن تستفحل ويستعصي علاجها؛ أصلحوها قبل فوات الأوان.
المسألة الأولى التي أخالفهم فيها هي الجرأة على التكفير، والثانية متعلقة بها، وهي التهاون في الدماء. وأنا مذهبي هو النقيض، فإنني أقول: إذا كان التردد في تكفير الكافر تقصيراً فإن تكفير غير الكافر ذنب عظيم، وإذا كان ترك المذنب تفريطاً فإن قتل البريء جريمة لا تُغتفَر، فلأن ألقى الله مقصّراً أو مفرّطاً خيرٌ لي من أن ألقاه مذنباً بالذنب العظيم ومجرماً بالجرم الفظيع. لقد لبثت أتتبع هذه المسألة منذ سنة أو أكثر، وقد مرّت شهور طويلة بسلام فلم أرَ لها أثراً يُذكَر، لكنها ظهرت أخيراً وبدأت تتفاقم حتى صارت خطراً كبيراً ينبغي الحذر منه والتحذير، فإن التكفير والتهديد بالقتل لم يعودا كلمات منثورة في بعض الصفحات على استحياء، بل صارا لهجة جازمة تتكاثر عدداً وتزداد قوة كل يوم.
لقد تواترت في العالم الحقيقي -في الميدان- وفي العالم الافتراضي -في الصفحات والمنتديات- تهديدات سخيفة يقول أصحابها إنهم سوف يتفرغون لقتال الجيش الحر بعدما يَفرغون من الحرب على النظام، ومنهم من يتوعد جماعات أخرى تخالفهم في الفكر والمنهج، بل إن منهم من يخزّن السلاح ويدّخره لذلك اليوم. ونحن نقول لهم: إن تهديد المسلمين بالقتال والقتل جريمة، أما قتالهم وقتلهم فإنه كبيرة من أكبر الكبائر تبوّئ صاحبَها مقعداً في النار. ونقول لهم: إنّ كل من قاتل على أرض سوريا هو في ذمّة السوريين جميعاً، لن يُسْلموه ولن يخذلوه إن شاء الله، لا فرق بين من يصنَّفون جيشاً حراً ومن يصنَّفون كتائب جهادية، فكلهم إخواننا وفي أعيننا ولن نُسلمهم ولن نسمح بأن يُرفع في وجههم سلاح أو تمتد إليهم يدٌ بعدوان.
إننا نريد من كل من حمل السلاح عهداً ووعداً بأن يستعمله في اثنتين لا ثالثةَ لهما: إسقاط النظام، وحماية المدنيين من خطره اليوم ومن خطر بقاياه وفلوله غداً. أما الاختلاف في الرأي والاختلاف في المنهج فلا يُحسَم بالسلاح أبداً، هذه قاعدة من آكد القواعد وهي الخط الأحمر الذي لن تقبل الثورة ولن يسمح السوريون بتجاوزه في أي يوم إن شاء الله.
* * *
المسألة الثالثة التي أختلف فيها مع القاعدة ومن حمل فكرها ومنهجها تتعلق بالأسلوب والوسائل. ولا أقصد هنا الهدف الذي هو سيادة الدين وتحكيمه في حياة الناس، فإنه هدف يتفق عليه ثلاثة أرباع أهل سوريا، ويشاركهم كاتب هذه السطور بالتأكيد. إنما أقصد الأسلوب الذي يوصل إلى ذلك الهدف، وهو قائم عندهم على الغلبة والإكراه. أما أنا فمذهبي الذي أعلنته غيرَ مرة والذي لا أمَلّ من تكراره: إقناع الناس بالإسلام وليس الإلزام بالإسلام، فإن المُكرِه مستبد، والناس لم يقاتلوا الاستبداد القديم ليأتي استبدادٌ جديد.
وما الاستبداد؟ إنه تحكّم القليل بالكثير. قد يكون القليل واحداً وقد تكون فئة أو جماعة، المهم أن قلّة من الناس تصادر حق المجموع في الرأي وتنتزع منه حرية تقرير المصير، هذا هو الاستبداد. إن الاستبداد مرفوض ولو كان باسم الإسلام. أكرر حتى لا يظن أحد أنني سهوت ولم أدرك ما أقول: حتى لو أراد المستبدّون تطبيق الشريعة بالقوة وحمل سوريا على الإسلام فإن استبدادهم مرفوض، لأن الاستبداد شرّ مَحْض، وهو قد يَلبس عباءة الدين يوماً وينزعها في يوم آخر، فيذهب الدين ويبقى الاستبداد، ولنا في التاريخ عبرة.
إن بعض من يحملون السلاح يظنون أن مشاركتهم في الجهاد تسوّغ لهم التحكم في مصير سوريا والسوريين، فهم يخططون للمستقبل ويتحدثون عن الدولة التي يريدون أن يفرضوها على الناس، فإذا سألتهم: وماذا عن جمهور الناس، أين رأيهم؟ قالوا: مَن وافقَنا قبلناه ومن لم يوافق حاربناه. يتحدثون عن عشرين مليون سوري وكأنهم ليسوا سوى أمّة من الذباب!
ثم إن في سوريا اليوم ألف كتيبة تقاتل النظام، فلو أننا سلّمنا أن للمقاتلين الحق في تحديد شكل الدولة السورية واختيار رئيسها (أو أميرها أو ما شئتم من التسميات)، فكيف سيختارونه؟ من بين أنفسهم؟ سوف يتّقي الله نصفُ ألف فينسحبون من المنافسة ويقتتل نصف الألف الآخرون حتى يظفر أحدهم بالسلطان!
لا يا أيها المجاهدون. ليس مَن حمل السلاح أَولى بالثورة ممّن فجّرها وشارك في نشاطها السلمي. إن مئة ألف مقاتل يحملون السلاح اليوم هم المولود الذي خرج من رحم ثورة شعبية أوقد نارَها ملايين السوريين، وهم كلهم أصحابها ولهم الحق في تحديد مآلاتها وقطف ثمراتها. إذا ظننتم أن السوريين لا يعرفون الصالح فعرّفوهم، ولكن أبداً لا تعاملوهم كأنهم أنعام بلا عقول أو أغنام بلا إرادات.
إن أرض الشام هي أرض الملاحم والبطولات، وإن جيشاً من الدعاة والمصلحين قد آلوا أن يَهَبوها أنفسهم وما يملكون، فشاركوهم في عمارتها بالدعوة والإصلاح ولا تخربوها بقوة السلاح. إن للشام دوراً عظيماً في صناعة مستقبل الأمة، دوراً بشّرت به أحاديث الصادق المصدوق، وهو اليوم جَنين في رحم الأيام وسوف يولَد في يوم يريده الله، ومستقبل الأمة يصنعه الأحرار لا يصنعه العبيد، والاستبداد لا يُنتج الأحرار بل ينتج العبيد، فلا حاجة لنا به بعد اليوم ولن يطيقه السوريون الأحرار مهما كان لونه