كنت أود أن أكتب: احذروا وصول الصحوات إلى سوريا. ولكني مضطر أن أكتب: احذروا الصحوات، لقد وصلت إلى سوريا!
وما “الصحوات”؟ عندما أنهكَت فصائلُ المجاهدين في العراق جيشَ الاحتلال الأميركي وعجز عن القضاء عليها لجأ إلى خطة بديلة، فبدلاً من أن يحاربها أوقع بينها فدفع بعضَها إلى حرب بعض، فقتل المسلمون المسلمين وخرج الأعداء سالمين غانمين! بدأت الخطة الخبيثة في منطقة الأنبار، حيث جَنّد الأميركيون عشرين ألفاً من مقاتلي العشائر السنّية ودفعوها إلى محاربة القاعدة، ثم نشروا التجربة في سائر مناطق السنّة، فزاد عدد مقاتلي الصحوات على مئة ألف، واستمر الجيش الأميركي في دفع رواتبهم وتمويل عملياتهم لمدة ثلاث سنوات، حتى إذا تمّت المهمة التي أُنشئت الصحوات من أجلها اشترك الجيش الأميركي مع المليشيات الشيعية في ضربها وتفتيتها وملاحقة قادتها، فلمّا لم تبقَ لأهل السنة قوّة ذات شأن سلّم الأميركيون العراق للشيعة وولّوا منسحبين.
* * *
هل نجح أعداؤنا في إدخال الصحوات إلى سوريا؟ للأسف: نعم. لقد بدؤوا بتجربة محدودة في الشرق، في بعض مناطق دير الزور، ونفذوها حتى الآن بنجاح يدعونا إلى القلق، بل إلى الاستنفار ودق أجراس الخطر. ولكن لماذا في تلك المنطقة تحديداً؟ أكان اختيارها عشوائياً أم كان اختياراً مقصوداً؟ لا أظن إلاّ أنه كان مقصوداً تماماً، لأن مؤامرة الصحوات لا يمكن تنفيذها إلا وسط حاضنة مناسبة، وأفضل الحواضن هي البيئة العشائرية كما ظهر في تجربة العراق. أليست صحوات العراق قد وُلدت قبل سبع سنوات على الطرف الآخر من الحدود؟
إن هذه المؤامرة الخبيثة تحتاج إلى ثلاثة عناصر، أولها البيئة الحاضنة، والثاني هو علماء السوء الذين يبررون قتال المسلمين ويُفتون في الدماء، وتحتاج أخيراً إلى الكثير من المال. فأما الحاضنة فقد وجدوها في البيئة العشائرية التي يسهل تجييشها وتحريكها بسبب ترابطها الوثيق، وأما المال فإنه في أيدي أعدائنا كثير، وهم مستعدون لإنفاق مئات الملايين في سبيل خططهم الخبيثة ولا يبالون. بقي العنصر الثالث: علماء السوء. هذا هو أخطر جزء في الموضوع.
ينشط الآن في مناطق الثورة قومٌ يزعمون الانتساب إلى المدرسة السلفية، وهم كذّابون في تلك النسبة لأن السلف بَراء منهم ومن أفعالهم القبيحة (وها هم السلفيون الصادقون يتصدّرون الجهاد في أرض الشام). أولئك الكذابون يَدّعون أنهم من تلاميذ الشيخ الألباني ويتحدثون باسمه لأنه مات فلا يستطيع مجادلتهم وكشف أكاذيبهم، فهو كان له رأي في الخروج على الطواغيت، ولكنه لم يكن له أبداً رأي في قتال المسلمين المجاهدين الذين يقاتلون الطواغيت. هؤلاء الذين خدعوا العامة فزَوّروا نسبتهم إلى فكر الألباني ومنهجه لبثوا دهراً يخذّلون المجاهدين ويصفون ثورتنا العظيمة بأبشع الصفات، فهي عندهم فتنة والمشاركة فيها حرام، ذلك يومَ كانت ثورةً سلميّة لم تُطلَق فيها طلقة، فما بالكم وقد صارت ثورة المدفع والدبابة؟ إن المشاركة فيها -في ميزانهم الأعوج- كفر بَواح صَراح!
هؤلاء أنفسهم، ليس أحدٌ غيرَهم، انقلبوا اليوم فصاروا مقاتلين! كيف؟ بدؤوا ينثرون المال ويشترون الكتائب والألوية، ثم شكلوا “جبهة” كبيرة منحوها اسماً غريباً ليست فيه كلمة قتال ولا جهاد ولا تحرير، فإنهم يمقتون الجهاد حتى في التسميات! ثم بدؤوا حربهم المقدَّسة، ضدّ من؟ ضد إخوانهم المجاهدين لا ضد نظام الاحتلال الأسدي المجرم. فاليوم يهدّدون ويطارِدون ويَطردون، وغداً يحاربون ويقاتِلون ويَقتلون!
* * *
هؤلاء القوم يتحركون اليوم تحت مظلة “جبهة الأصالة والتنمية”، ولكنهم قد يغيّرون الاسم أو يبتدعون غيره غداً إذا كُشف أمرهم، فما أسهلَ تغيير الأسماء! حتى لو غيروا أسماءهم فإن عليكم أن تعرفوهم بأفعالهم وأن تَحْذروهم وتحذّروا منهم. ستجدون عندهم دائماً أموالاً كثيرة، والناس كلهم يحتاجون إلى المال، المقاتلون من أجل السلاح والمدنيون من أجل الغذاء. سوف يمنحون المال مقابل مواقف عدائية حاسمة من تلك الكتيبة أو ذلك الفصيل، والمبررات موجودة دائماً: إنهم متعصبون أو متشددون أو تكفيريون… أو ما شئتم من الصفات.
على أنني أنبّه إلى أمر مهم: أنا لا أشكك أبداً بالكتائب المجاهدة التي انضوت تحت الجبهة (لواء أهل الأثر وغيره)، فهؤلاء كانوا موجودين على الأرض وجاهدوا أفضل الجهاد قبل أن تظهر الجبهة إلى الوجود، ثم جاء بعض مدّعي العلم ومعهم الكثير من المال فاشتروا الكتائب وجمعوها في كيان أطلقوا عليه اسم جبهة الأصالة والتنمية. إنني أحترم سابقتهم وجهادهم، ولكني أحذّرهم من المؤامرة وأدعوهم إلى فك الارتباط بمموّلي وقادة جبهة الأصالة فحسب، وليستمروا في جهادهم المبارك، جزاهم الله عن الأمة والثورة خير الجزاء.
لقد أسست “صحوات سوريا” لنفسها قاعدة في المنطقة الشرقية وبدأت بالانتشار في بقية المناطق، في الوسط والشمال، بل إني سمعت -ولم أحقق- أنها وصلت إلى ريف دمشق الغربي فاشترت كتيبة صغيرة في الزبداني. المهم أن قاعدتها ما تزال ضعيفة وأن انتشارها محدود، ولكنّ غفلتنا عنها يمكن أن تزيدها قوة وانتشاراً، ولذلك كتبت ونشرت هذه المقالة. ليس لأنشر الخوف والقلق بل لأنشر الوعي والمعرفة. إن الوعي الشعبي هو الضمانة الوحيدة -بأمر الله- لسلامة الثورة، وهي ضمانة أوثق وأعلى من قوة السلاح، لذلك ترون أنني أخاطب جمهور الناس أكثر بكثير مما أخاطب أهل السياسة أو أهل السلاح.
أنتم -يا أيها الناس- تستطيعون أن تُفشلوا كل المؤامرات بالوعي وبالاعتماد على الله. انتبهوا من علماء السوء الذين وصفتهم لكم آنفاً، واعلموا أنهم جزء من المؤامرة وأنهم جنود في جيش أعداء الأمة. احذروا المال الذي يشتري الضمائر والأرواح. انشروا الوعي، ومن علم فليُعلم من لم يعلم، فإن الذين يمكن أن يصبحوا جنوداً في “صحوات سوريا” -لا قدّر الله- هم إخواننا وأولادنا وجيراننا وأصدقاؤنا، فحصّنوهم بالوعي والعلم حتى لا يقعوا في أشراك أعداء الثورة. ولأن الوقاية خير من العلاج فإنني لا أقصر تحذيري على العامة، وإنما أطالب أيضاً الكتائب المقاتلة بحسن السيرة والرفق بالناس واحترام حرية وكرامة الإنسان، فإنهم إذا لم يفعلوا صنعوا بأيديهم مدخلاً لأعدائنا يدخلون منه علينا. ولكني لن أسترسل في هذه الموضوع الآن لأن له حلقة أخرى ستأتي إن شاء الله.
* * *
إن مؤامرة الصحوات واحدة من أسوأ المؤامرات التي يمكن أن تتعرض سوريا إليها، لأنها ستضرب قوى الثورة بعضَها ببعض فتنكسر شوكتها جميعاً (لا قدّر الله)، ومن ثَمّ يصبح المسرح جاهزاً لقوى الاستعمار الغربية لتفرض على سوريا الحل الذي تريد، والذي سيكون من أهم أجزائه المحافظة على الهيكل الأساسي لنظام الاحتلال الذي سلّطوه علينا منذ نصف قرن، وإجهاض الثورة قبل أن تحقق أهدافها.
هل ستنجح هذه المؤامرة؟ إن هذا لا يكون بإذن الله وفي سوريا وعي ودين، وفيها رجال يميزون الخير من الشر، ويكتشفون الخطأ وهو صغير فيعالجونه من فوره، ولا يتعامَون عنه حتى يستعظم وتستطير نارُه فتأكل العباد وتحرق البلاد.