لقد مضى زمانٌ خشينا فيه على الثورة أن يقهرها الأعداء، فكنا نترقب وندعو؛ نرجو إذا أمسى المساء أن تصبر ثورتنا إلى الصباح وإذا أصبح الصباح أن تصبر إلى المساء، ونَعُدّ عمرها بالأيام. واليوم صرنا نعدّ ما بقي من عمر النظام بالأيام، فإذا أصبح الصباح ترقبنا سقوطه في المساء، وإذا أمسى المساء ترقبنا سقوطه في الصباح.
اليوم لا نخاف على الثورة من العدو، فلماذا اخترت للمقالة هذا العنوان؟ أيّ خطر يهددنا سوى النظام وحلفاء النظام؟ الجواب في ثنايا التاريخ: انتصر المسلمون في بدر بالطاعة وهُزموا في أُحُد بالمعصية، ثم خضنا بعد بدر وأحد من المعارك ما لا يحصيه العادّون، فلم يتغير القانون من تلك الأيام إلى يومنا الحاضر. لو أن دارساً صبر على دراسة التاريخ فسوف يجد أن المسلمين لم ينتصروا قط لأنهم كانوا أقوى ولا غُلبوا لأنهم كانوا أضعف، إنما تعلق الانتصار دائماً بالصواب وترتبت الهزيمة على الخطأ.
إن الثورة مشروع لجماعة السوريين وليس لبعض أفرادهم، ولقد شارك الشعب كله أو جُلّه في دفع ثمن النصر، فلن نرضى أن تحرمنا منه فئة قليلة وأن تدفعنا إلى الهزيمة بسبب أخطائها وتجاوزاتها. الثورة هي السفينة التي نرجو أن تحملنا جميعاً إلى البر الآمن، فهل ترون أن نسمح لثلّة منّا بخرق جزء من أرضها؟ النبي صلى الله عليه وسلم خَبّرنا أن سكوتَ سائر ركاب السفينة عن الَخْرق ورضاهم به وعدمَ التدخل لوقفه جريمةٌ جماعية يدفع الكل ثمنها، قال: “فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعاً”.
حين تبدأ بالممارسات الخاطئة فئةٌ من الجماعة فتقابلها باقي الفئات بالسكوت والتسليم ويتعطل الفعل الإيجابي ويتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغيب أي حس بالمسؤولية الجماعية، حين يقع ذلك تكون الجماعة كلها في طريقها إلى الهلاك، لأن سنّة الله -التي لا تحابي أحداً ولا تتعطل في أي حال- ستعمل عملها في ذلك المقام وستفعل فعلها في تلك الحال.
روى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم، لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده”. وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تُوُدِّع منهم”.
لو أننا شهدنا خطأ أو ظلماً ثم لجَمَنا الحياءُ أو منعتنا الرهبةُ أن نقول للمخطئ أو نقول للظالم: “أنت مخطئ” أو “أنت ظالم”، فنحن هنا -كما في هذا الحديث العظيم- قد تُوُدِّع منا!
يا أيها الناس: إن السكوت عن الظلم والرضا بالخطأ مما يطوّل المحنة ويسبب الهزيمة، فلا يُبصِرْ أحدٌ منكم الخطأ أمام عينيه ثم يَقُلْ: أنا لا يعنيني! لا ترضوا بالباطل أو تسكتوا عن الخطأ، لا مجاملةً لأحد ولا خجلاً من أحد ولا خوفاً من أحد. وحتى لا أنهى عن إثم ثم أقع فيه، أو أدعو إلى فضيلة بلساني ثم أتنكر لها بعملي، ولكيلا أكون واحداً من الساكتين، قررت أن أنشر سلسلة من المقالات القصيرة بعنوان “الثورة في عين الخطر”، هذه المقدمةُ بين يديها والباقيات تأتي واحدةً كل يوم إن أعانني الله.