قال لي صديق: قبل أكثر من عقد من الزمان وعندما كنت أدرس في الخارج كان زملاؤنا السوريون يشاركون في أي موضوع ثقافي يُطرح للنقاش، كأن أحدهم قد ابتلع أمهات الكتب والموسوعات العلمية والويكيبيديا، حتى إذا فُتح نقاش عن الأسد ونظامه صاروا كأنهم صم بكم. وعندما تنفرد بأحدهم تجده يُخيّل إليه إذا تحدث في ذاك الموضوع أنه لن يرى النور بعد عودته إلى وطنه، فذكّروني بقول الشاعر نزار القباني:
كل الذي أعرفه
أن الذي يقوده الحظ إلى مدينتي
يرحمه الرحمن
فما بالهم في ذلك الزمن؟ وما الذي تغير اليوم؟
قلت: تشخيصك لحالهم السابق سليم، وينطبق عليهم المثل: الملدوغ من الشوربة ينفخ في الزبادي، أو المثل الآخر: الملدوغ من الحيّة يخاف من الحبل. فمن سبق أن دخل أحد من أقاربه السجون السورية بلا تهمة وقبع فيها شطر عمره، ثم خرج وهو لا يدري لماذا دخل، سوى وجود اتهامات لم تثبت، ولو ثبتت لما خرج، فإنه يحسب ألف حساب أن يُكتب تقرير ضده يجعله زائداً على الدنيا كالزائدة الدودية في جسم الإنسان والتي كان الطب القديم يعتقد بأنها ليست ذات فائدة للجسم.
قال: أوَ حصل هذا؟ قلت: لا بد أن تتطلع على رواية (القوقعة… يوميات متلصص) التي تتحدث عن شخص مسيحي درس الإخراج السينمائي في فرنسا، ولم يكن له توجهات سوى توجهاته الفنية، ولما عاد كان قد سبقه تقرير من أحد زملائه الوشاة الكذابين، فأخذوه من المطار وبقي ثلاثة عشر عاماً في سجن تدمر سيء السمعة، وأعتى سجون العالم قسوة، ثم خرج في أواخر تسعينيات القرن الماضي دون أن يعرف تهمته، فكتب عن الأهوال التي رآها، وما ذاقه من أنواع العذاب النفسي والجسدي والجنسي. لكن صدمته كانت كبيرة حيث وجد نفسه يخرج من سجن صغير إلى سجن كبير، وفوجئ بأن والديه اللذين كانا ينتظرانه في المطار قبل ثلاثة عشر عاماً قد توفيا فلم يرهما.
الرواية تحكي عذاباته وعذابات من حوله من المسلمين المتدينين الذين اتهم بأنه منهم. وتتحدث عن التعذيب الذي لم يتوقف إلى لحظة خروجه من ذاك السجن الصحراوي اللعين، والذي كان الموت يهددهم فيه كل لحظة من خلال المحاكمات الميدانية وحفلات الإعدام التي تمكّن هو من التلصص عليها من ثقب في الجدار.
إن كمية ما تصوره الرواية من وحشية يتعرض لها السجناء لا يستوعبها عقل، فالجَرَب في السجن كفيل بأن يقتل الإنسان، ووقوع السجان على فأر يعني مصدر سعادة له لأنه سيقوم بإطعامه لأحد السجناء، والأب الشيخ الكبير يُعدم أمامه أولاده الشباب الثلاثة دون أي رأفة لعواطفه. وما هذه إلا أمثلة بسيطة لما حفلت به الرواية من تفاصيل جهنم.
قال صديقي: فما الذي جعل الناس الآن يخرجون في المظاهرات ويطالبون الطاغية بالرحيل؟ قلت: لقد كسروا حاجز الخوف، وهم يعلمون أنه لا تراجع أبداً، لأن التراجع يعني عودة تلك الأيام السوداء.
قال صديقي: مهلاً، فما الذي يجعلنا نصدّق ما جاء في هذه الرواية؟ قلت: معك حق، والتحقق مطلوب، لكن تلك الرواية ليست الوحيدة، فاقرأ إن شئت كتاب (تدمر: شاهد ومشهود)، ورواية (يسمعون حسيسها)، وكتاب (من تدمر إلى هارفارد) وكتاب (بالخلاص يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية)، ومقالات ميشيل كيلو في الشرق الأوسط… لكن إن أردت ألا تنام الليل، فاقرأ كتاب (خمس دقائق فقط: تسع سنوات في سجون سورية) الذي كتبته إحدى النساء عن تعذيبها وتعذيب بنات جنسها. فهذه الكاتبة أبيدت أسرتها كاملاً مع مَن أبيد في مدينة حماه، ونجت هي فقط لأنها كانت في السجن. ولا أدري كيف يحتفي العالم، اليوم الجمعة وأنا أكتب هذه المقالة، بيوم المرأة العالمي، ومازالت السجون ملآى بالنساء.