الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، أما بعد فقد قرأت بعض الشكوك والاعتراضات التي ترد على ثورة أهل الشام من قبل بعض من ينتسب إلى العلم وأكثر ذلك لا يحتاج إلى رد لأنه شبه ومغالطات، ولكن التذكير واجب وقد رأيت أن أجيب هنا بما ورد من كلام الله تعالى في القرآن الكريم من بيان.
ورأس هذه الشكوك والأوهام الشكوى من القتل والتدمير وعدم توفر الطعام والشراب أي شدائد الحرب، وأن هذه الشدائد تسقط واجب الجهاد وأن القتال لا يجوز لما يؤدي إليه من قتل وخراب.
وهذه الشكوى هي الوهن الذي فسره النبي عليه الصلاة في الحديث عن ثوبان رضي الله تعالى عنه في سنن أبي داود بأنه حب الحياة وكراهية الموت.
وقد نهى الله تعالى عنه أول شيئ إذ قال سبحانه:{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}. قال البغوي: ”هذا حث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد. يقول الله تعالى: {ولا تهنوا} أي لا تضعُفوا ولا تجبُنوا عن جهاد أعدائكم بما [أي بسبب ما] نالكم من القتل والجَرح، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلا”. وروى الطبري عن الزهري في سبب نزول هذه الاية ما يشبه أحوال الناس اليوم. قال: كثر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القتل والجراح حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأس فأنزل الله عز وجل القرآن فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية فقال: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
وما يصيب المسلمين من بلاء وما ينزل بالعامة وقت الجهاد وأيام الحرب من شدة قد أجاب الله تعالى عنه في عدة مواضع من القرآن الكريم، منها الآية السابقة، ومن ذلك قول الله تعالى في آية أخرى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله لا يعلم وأنتم لا تعلمون}. قال ابن كثير: {وهو كرهٌ لكم} أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك فإنه إما أن يُقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} أي لأن القتال يُعقبه النصر والظفر على الأعداء”. وقال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: “فالقتال كريه للنفوس لأنه يحول بين المقاتل وطمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسانَ إلى عداوة من كان صاحبه، ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح. ولكن فيه دفع المذلة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم”. وهو لعمري جوهر ما كان ينادي به عامة الناس “الموت ولا المذلة”.
وبذل الأنفس وذهاب الأموال في الحرب لاشك أنه دون هدم الدين ولذلك شرع الجهاد صيانة للدين مع كل ما في الجهاد من التعرض للموت ومقاساة الأهوال. وقد جاء هذا الميزان بين حق الإيمان وحرمة الوقت في القرآن الكريم إذ يقول تبارك وتعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبير عند الله والفتنةُ أكبر من القتل}.
وكأن معنى الآية يتنزل فيما نحن فيه: يسألون عن بلاد الشام أيجوز هذا القتال الذي يجري فيها؟
والجواب: قل نعم يجوز، ويجوز أن يتسع ويكبر إلى أن يحصل المقصود ويتحقق الدفع، لأن صد المجرمين عن سبيل الله تعالى أكبر، ولأن كفر النصيريين أكبر، ولأن قتل الأبرياء وإخراج الناس وتعذيب الأسرى أكبر. والفتنة عن الدين بالحرب على الإسلام والحكمِ بغير ما أنزل الله والاستهزاءِ بالدين أكبر عند الله.
وفي قوله تعالى بعد ذلك: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} إشارة إلى أن دفع ذلك لا يكون بغير الحرب والقتال لأن الكفار لا يزالون يحاولون ولن يفتأوا يعملون على أن يردوا الناس عن الدين ويصدوا عن سبيل الله، وقوله تعالى {ولايزالون} يفيد الاستمرار والتجدد. وهذا جواب كل من يظن أن نظام الأسد كان يتوقع أن يصلح وأن الأمل بالتغيير من خلال الحوار كان ممكنا وأن حمل الثوار للسلاح قد فوت ذلك، لأن النظام لن ينقطع عن الحرب على أهل السنة، وهو مفوض بذلك من الدول الكبرى منذ أربعين عاما. هذا سوى أن حمل الناس للسلاح إنما كان من باب الضرورة لدفع الصيال وحماية الأنفس. ولكنه تطور بعد ذلك إلى حرب على لاستئصال النظام والقضاء على هذه الفئة المحاربة لله وللرسول.
ومثل هذا الميزان بين المصالح والمفاسد تجد الإشارة إليه أيضا في قول الله تعالى في آية سورة البقرة: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} وفي آية سورة الحج {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}. روى الطبري عن مجاهد في تفسيرها: “ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لهلك أهلها”
أما أن الحرب تقود إلى مزيد من القتل فهذا شأن الحروب إلى أن تضع أوزارها، وقديما قال زهير بن أبي سُلمى قبل الإسلام في وصف الحرب من معلقته:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ُ
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها بعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
والفرق اليوم بين الجاهلية الإسلام أن الحرب اليوم جهاد في سبيل الله وهو فرض من فرائض الإسلام فيه نصرة الدين ورضوان رب العالمين.
وفي القرآن الكريم وصف لأحوال المسلمين وقت غزوة الخندق وما لاقوه من شدائد وذلك في قوله تعالى في سورة فصلت: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجرَ وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. قال البغوي: أي عند ذلك اختُبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلص من المنافق. وقوله سبحانه: {من فوقكم} إشارة إلى الأحزاب ، وقوله: {ومن أسفل منكم} إشارة إلى بني قريظة. وهذا مشابه لأحوال أهل الشام اليوم إذ جاءت الأحزاب من قوات الأسد من فوق وجاءت قوات الشيعة من لبنان والعراق. وقوله تعالى: {وتظنون بالله الظنونا} قال الحسن البصري كما في تفسير ابن كثير: ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يُستأصَلون”
في القرآن دواء لكل مرض، وشفاء لكل علة، ونقع لكل غُلة، وجواب لكل سائل، ورد على كل معترض، وإفحام لكل مجادل. وقد أغنانا الله تعالى عن كل من يثبط بعد أن قتل من قتل من الأبرياء وهدم ما هدم من بيوت الله. ونحمد الله أن هؤلاء المثبطين لم ينضموا إلى الثورة ، وهذا أيضا في القرآن الكريم إذ يقول سبحانه عن المنافقين الذين تخلفوا وقعدوا عن الجهاد في سبيل الله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا وفيكم سماعون لهم} وخبالا: أي اضطرابا في الرأي وفسادا في العمل وضعفا في القتال وضعفا في النظام كما في تفسير المنار. {وفيكم سماعون لهم} أي وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعاف العزم والعقل يكثرون الاستماع لأولئك لما عندهم من الاستعداد لقبول وسووستهم.
وكيف نقرأ قول الله تعالى في سورة آل عمران: {وليعلمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون}. قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {لو نعلم قتالا لاتبعناكم}: “فيه وجهان: الأول أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتتة فلهذا رجعنا، الثاني: أن يكون المعنى: لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله [ابن سلول] كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج. قال الرازي: “واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم”.
وكيف نقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: {وما لكم لا تقاتلونَ في سبيل الله والمستضعفينَ من الرجال والنساءِ والوِلدانِ الذين يقولون ربّنا أخرجْنا من هذه القريةِ الظالمِ أهلُها واجعل لنا من لدنكَ وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}. قال الرازي: اعلم أن المراد إنكاره تعالى لتركهم القتال فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل، المسألة الأولى: قوله {وما لكم لا تقاتلون} يدل على أن الجهاد واجب ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف. فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير”.
وختام الجواب لكل من يشك في الثورة أو يثبط في الجهاد قول الله تعالى في سورة العنكبوت: {ومنْ جاهدَ فإنما يُجاهد لنفسه إن الله لغنيّ عن العالمين}.
ولكل مجاهد يبذل نفسه في سبيل الله تعالى ويعاني شدة الجهاد وأهوال الحرب نقدم قول الله تعالى في سورة التوبة: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصَبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يَغيظُ الكفارَ ولا ينالونَ من عدوّ نيلا إلا كُتبَ لهم به عمل صالح إن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين * ولا ينفقون نفقةً صغيرة ًولا كبيرةً ولا يقطعونَ واديا إلا كُتبَ لهم ليجزيَهم أحسنَ ما كانوا يعملون}.