ربما أخطأت في نشر هذه المقالة تحت عنوان “الثورة في عين الخطر”، ولو أنه كان “مستقبل سوريا في خطر” أو “وحدة سوريا في خطر” لكان أنسب، لأن الثورة ستنجح -بإذن الله- وسوف تتحرر سوريا من الاحتلال الأسدي المجرم الظالم عمّا قريب، ولكن الاستقلال قد يكون منقوصاً بخسارة جزء من الأرض السورية، منطقة الساحل التي يمكن أن تُفصَل في دُوَيلة علوية مستقلة لا قَدّر الله. من أجل ذلك لا بد من عمل، ومن أجل ذلك كتبت هذه المقالة.
لقد بات مؤكداً الآن أن أميركا والقوى الرئيسية في المجتمع الدولي (الغربي تحديداً) ينفقون الوقت الطويل في وضع الخطط وتنفيذ المؤامرات لسرقة الثورة أو إفشالها وتعطيلها عن بلوغ غايتها وتحقيق أهدافها، وهم يفكّرون في كل التفصيلات ويخططون لكل الاحتمالات، فماذا عن مشروع الدويلة العلوية؟ التقيت منذ شهور بصديق ثقة يعمل مع المعارضة، واهتممت بسؤاله عن هذه المسألة فقال: لا تكاد أي جماعة من المعارضة تلتقي مع أي طرف غربي إلا ويُفتَح في اللقاء موضوع الدولة العلوية. إنه احتمال يفكرون به دائماً، وهو موجود “في الخلفية” طول الوقت ولو أنه ليس من الأولويات المختارة حتى الآن.
وماذا عن بقية الأعداء؟ روسيا ستشجع هذا الخيار، ولا بد أنها كانت تفكر بالبقاء في الساحل طويلاً حينما بدأت بتوسيع وتطوير قاعدتها البحرية في طرطوس منذ أيام الثورة المبكرة، ولعلها تجد في دويلة صغيرة تمنحها التسهيلات الكافية بديلاً عن الدولة الكبيرة التي فقدتها. أما إيران -التي أنفقت عشرات المليارات وعشرات السنين في بناء مشروعها الاستعماري على أرض الشام- فإنها ما زالت تقاتل بشراسة منذ أول يوم من أيام الثورة للدفاع عن مشروعها، وسوف تتشبث بكل شبر من أرضنا التي بسطت عليها نفوذها في غفلة منّا وغفلة من الزمن، فإذا خسرَت تسعة أشبار فلن تتخلى عن العاشر.
* * *
قبل أن نفكر في أي حل أو مشروع للإنقاذ فإن علينا معرفة الوضع الميداني العسكري في المنطقة، فما هو يا ترى؟ لحسن الحظ فإنني مطّلع على التفاصيل بشكل جيد، وأستطيع أن أصفها قبل أن أقترح العمل المطلوب.
لا تكاد توجد أي قوة للجيش الحر في مدن الساحل الرئيسية، اللاذقية وبانياس وجبلة وطرطوس، بل يمكننا القول إن تلك المدن تخضع حالياً لاحتلال صارم يشبه احتلال مدينة حماة، ولعل من المناسب أن يؤخر الجيش الحر دخولها حتى الأيام الأخيرة من المعركة.
حالياً تنتشر كتائب الجيش الحر في الساحل في المناطق الجبلية، في جبلَي التركمان والأكراد (وجبل صهيون الذي يعتبره إخواننا في المنطقة جبلاً مستقلاً وأراه أنا امتداداً لجبل الأكراد، ولا مشكلة في التسميات، المهم أن نفهم الواقع ونُخلص في العمل). في تلك الجبال توجد عشرات الكتائب، ربما نحو ستين كتيبة أو سبعين، وهو عدد يزيد وينقص بين وقت وآخر بسبب تشكيل كتائب جديدة أو دمج كتائب قديمة أو حلّها. ولكنه كبير جداً على تلك المنطقة الصغيرة، وهذه هي المشكلة الأولى لأنها تؤدي إلى تشتيت الجهود، لا سيما وأن أعداد المقاتلين في أكثر الكتائب قليلة، ربما نحو خمسين أو ستين بالمتوسط، وقليلاً ما يزيدون على مئة. وقد شهدَت السنة الماضية محاولات متعددة لتوحيد الكتائب وضمّها في كيانات جامعة، وشاهدنا بعض النجاحات الشكلية، ولكن نستطيع القول إن الوضع لم يتغير في نهاية الأمر وبقي التشرذم هو الصفة الغالبة.
المشكلة الثانية هي الحصار والحظر غير المعلَن على توريد الأسلحة لمجاهدي الجبل، فهم من أقل الكتائب حظاً في الحصول على الأسلحة والذخائر، رغم أنهم -نظرياً- من أكثر الكتائب حاجةً إليها. ويزيد المشكلةَ سوءاً أن مجاهدي المنطقة يتعرضون إلى ضغط دائم لتقييد حركتهم حتى لا يشكّلوا خطراً على المناطق السكانية العلوية، وهو ضغط تشترك فيه أطراف خارجية وداخلية. هذه المشكلة نتج عنها شحّ دائم في السلاح، بحيث أستطيع القول إن حصة المقاتل الواحد من السلاح والذخيرة في جبلَي الأكراد والتركمان هي أقل الحصص في كل أنحاء سوريا، وهذا هو السبب (أو أحد الأسباب) في تعثر أكثر من عملية تحرير واسعة بدأت بها الكتائب في الشهور الماضية ثم عجزت عن إكمالها.
وفي هذا المقام يحسن أن أشير إلى محاولة جادّة وخطيرة لاحتواء العمل العسكري في الساحل، فقبل نحو ستة أشهر تعرضت الكتائب هناك إلى إغراءات وضغوطات هائلة، وبطبيعة الحال فإن المال هو العنصر الأساسي الذي يمكن أن تستعمله أي جهة في الضغط والإغراء. ليس لأن المجاهدين يريدون الثراء، وإنما لحاجتهم إلى شراء السلاح والذخيرة والإنفاق على ضرورات الحياة، بالإضافة إلى كفاية أسرهم التي تركوها بلا مُعيل وانصرفوا إلى الجهاد، فمن أين يأتون بما يصرفونه في ذلك كله؟ عندئذ جاءت بعض الجهات فعرضت أن تصرف لكل مقاتل راتباً شهرياً قدره مئتا دولار، بشرط أن يسجل المقاتلون جميعاً أسماءهم الثلاثية ويقدموا معلومات كاملة عن كتائبهم ومواقعهم! واضطر كثيرون إلى الرضوخ، فاستلموا راتبين في شهرين متعاقبين، ثم انقطعت الرواتب وذهب الممولون بالأسماء والمعلومات. مع ذلك لم يستسلم المجاهدون واستمر أكثرهم ثابتين في الميدان برغم الحاجة والحرمان، أثابهم الله على ثباتهم خير الثواب.
المشكلة الثالثة هي الوجود الضعيف أو شبه المعدوم -في منطقة الساحل- للقوى الرئيسية التي تشكل ركيزة الجهاد في سوريا، وهي التجمعات الجهادية الكبرى: الجبهة الإسلامية وجبهة تحرير سوريا وجبهة النصرة (وما يلحق بها من تشكيلات وألوية)، فقد ركزت تلك القوى الجهادية عملها في الشمال بشكل رئيسي ثم في الوسط والشرق وبعض المناطق الأخرى، وأهملت الساحل إهمالاً كلياً أو شبه كلي. لماذا صنعت ذلك؟ لا أدري. من هذه النقطة الأخيرة يبدأ العمل.
* * *
أقترح أن يقسم مشروع الإنقاذ إلى قسمين تُكلَّف بكل منهما جهة محددة. القسم الأول هو مسؤولية الداعمين الذين يُنتظَر منهم تسليح كتائب المنطقة وتمويل عملياتها. الملاحَظ أن أكثر الداعمين صاروا يصرّون مؤخراً على توحيد الجماعات المسلحة قبل دعمها، وهذا اتجاه صالح في العمل ولا بد أن تنشأ عنه ثمرات طيبة لأن الفُرقة مرض قاتل، ولكن ألم يلاحظ الداعمون أمراً مهماً؟ كيف لم ينتبهوا إلى أنهم هم أنفسهم مطالَبون بما يطالِبون به الآخرين؟! أليس الأَولى بهم أن يوحدوا جهودهم وأن ينسّقوا بينهم ليكون عملهم أكثر تركيزاً وفائدة؟
المطلوب من الداعمين أن يدرسوا واقع المنطقة وحاجة كتائبها إلى المال والسلاح، ثم يتفقوا فيما بينهم على توجيه الدعم الكافي لتلك الكتائب، على أن تجتمع في جامعة واحدة، جبهة أو مجلس أو ما شئتم، وأن تكون لها غرفة عمليات مشتركة وهيئة أركان موحدة تدير المعارك إدارة مركزية، وتتولى توزيع المال والسلاح بما يتناسب مع قوة الكتائب وأهمية الجبهات والعمليات.
القسم الثاني من مشروع الحل هو نقل جزء فعال ومؤثر من القوة الجهادية الضاربة إلى المنطقة، بحيث لا يقل العدد الإجمالي للمجاهدين المرابطين في ريف اللاذقية عن مِلاك فرقة نظامية، أي نحو اثني عشر ألفاً. بالطبع لن أتهور فأطلب من لواء الإسلام أن يترك جبهة دمشق ولا من لواء الحق أن يترك حمص، ولكن أستطيع أن أطلب من المجموعات الجهادية الثلاث الكبرى -أحرار الشام وصقور الشام وجبهة النصرة- أن تسحب عدداً من مقاتليها من الشمال والشرق والوسط، فترسل كل منها لواء يضم ألفَين من المجاهدين، فهؤلاء ستة آلاف، ينضم إليهم مثلهم من كتائب المنطقة فنحصل على الفرقة المطلوبة.
فيا إخواني الكرام في النصرة والصقور والأحرار، إني أتوجه إليكم بنداء مخلص عاجل فأقول: هذا ميدان من أهم الميادين وهذه جبهة من أخطر الجبهات، فسارعوا إلى نجدتها قبل فوات الأوان.
* * *
بقيت نقطة أخيرة لا بد من بحثها: هل من المصلحة فتح جبهة الساحل الآن؟ هذه المسألة تحتاج إلى اجتماع العقول واستشارة أهل الرأي، وربما فرضت الموازنات تأخير المعركة حتى لا نفتح جبهة حرب واسعة جديدة مع القوى الدولية. ولكن عدم فتح المعركة لا يعني أبداً عدم الاستعداد لها، فإنها آتية لا شك فيها، وعندما يفقد النظام العاصمة ويصل إلى لحظة الاحتضار سيحاول التشبث بالقطعة الأخيرة التي يأمُل في الاحتفاظ بها وفصلها عن سوريا التي خسرها إلى الأبد.
إن من أخطر الخطر أن نهمل الإعداد والاستعداد وأن ننسى الساحل فيبقى منطقة مكشوفة بلا دفاع، فإننا لو خسرناه -لا قدّر الله- فقد لا نسترجعه بعد ذلك أبداً. يا أيها المجاهدون: أنقذوا الساحل قبل أن يضيع، فإنه إذا ضاع لم يردّه ندم ولم تردّه الدموع.