عندما بدأ التهجير العرقي في مدينة حمص في العام الماضي وجد المجاهدون أنفسهم أمام مشكلة كبيرة، فإن مئات الأسر أمست في العراء بلا مأوى، وفي بعض أحياء المدينة الآمنة بيوتٌ مغلقة ليس فيها ساكنون، فلم يجرؤ أحدٌ منهم على الدخول إلى بيت منها إلا بعدما استفتَوا أهل العلم، فلما علموا عملوا بالفتوى بلا تجاوز ولا عدوان. وأخبرني أخ كريم من بعض كتائب حوران أنهم ربما أرسلوا الواحدَ منهم إلى دمشق، فيجازف بنفسه ويتعرض إلى خطر الموت أو الاعتقال، فقط من أجل فتوى في مسألة من مسائل النوازل لم يعثروا لها على جواب.
هذه أمثلة قليلة فحسب، ولو استقصينا لملأنا من أمثالها مجلدات. أولئك هم المجاهدون حقاً، الذين باعوا الدنيا وما فيها من أجل الآخرة، والذين خرجوا في سبيل الله فلن يُغضبوه بتجاوز حدوده والاعتداء على حرماته. ولكنْ ليس كل الذين حملوا السلاح وشاركوا في حرب التحرير على أنقى قلبٍ وأخلص نيّة، بل إن منهم من ينسى في بعض الأوقات أنه يجاهد في سبيل الله، فربما نسي في تلك اللحظات أخلاقَ المجاهدين. ثم إن بعض الناس من العامّة حملوا السلاح ولم يحملوا أخلاقه، فهم مجاهدون صادقون في ساحات النزال ولكنهم قساة جفاة في تعاملهم مع الناس. إن للقوة فتنة لا بد منها، فإنّ مَن استغنى بقوته مالت به نفسُه إلى الطغيان. أليست هذه هي القاعدة التي قررها خالق الإنسان: {أنْ رآه استغنى}؟ وليس لهذا الميل إلا رادع من داخل النفس، قوة الإيمان، ورادع من خارجها، قوة القانون.
في المقالة السابقة وصفت مشكلة الكتائب الدخيلة على الجهاد وعلى المجاهدين، التي تعتدي على الناس وتنهب أموال الأمة، وتلك المشكلة علاجها ميسور بإذن الله لأن العدو فيها ظاهر مكشوف، أما المشكلة التي أصفها اليوم فإنها أخطر وأصعب، لأنها تتعلق بالأخطاء والتجاوزات التي تصدر عن حَمَلة السلاح الذين هم منا ومعنا في خندق الثورة وهم الشركاء في حرب التحرير والاستقلال، الذين يحملون اسم الجيش الحر ويحاربون العدو حرباً صادقة مخلصة، والذين قَبِلهم الناس لأنهم كذلك وتحالفوا معهم الحلف الوثيق للمضيّ إلى آخر الطريق.
هؤلاء بشر من الناس ولا بد أن يخطئوا كما يخطئ الناس، ومن ظن غير ذلك فقد جانب الصواب، ولكنّ الأعظمَ خطأ من يقول: اتركوا أخطاءهم لا تقوّموها، إن جهادهم يغفر لهم، وما أدراكم لعلهم كأهل بدر الذين اطّلع الله على سابقتهم فغفر لهم؟ أقول لهؤلاء: لقد أخطأتم في الاستشهاد، فإن الخطأ لم يُقبَل من البدريين كما لم يُقبَل من غيرهم. لقد تعقب الله تبارك وتعالى أخطاءهم بالنقد والتقويم، ولكنه عفا عنهم وغفر لهم، ولو أنه ترك الجماعةَ وأخطاءها لأفنت الجماعةُ نفسها بتكرار الأخطاء.
* * *
في سوريا اليومَ حالةٌ معقدة، فقد انهارت الدولة وبقي النظام؛ بقيت الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تحفظ للنظام حياته، في غياب كلي أو جزئي لكل الأجهزة المهمّة الأخرى: الصحة والتعليم والقضاء والإدارة المحلية والصناعة والزراعة والاستيراد والتصدير والطاقة والمياه والاتصالات والمواصلات.
لكن الثورة السورية التي أتقنت الهدم أتقنت البناء كذلك؛ إنها تهدم النظام الفاسد المريض وتبني محله نظاماً صالحاً صحيحاً معافى، فحيثما ذهب المرء في المناطق المحررة وجد الأجهزة البديلة تنبت كما تنبت من الأرض سنابلُ القمح الذهبية لِتَهَب للناس الحياة. السوريون الأحرار ينشئون المخابز والمدارس والمستشفيات، ويديرون المحاكم الشرعية وينظمون الخدمات المحلية، ويرمّمون خطوط الطاقة وأنابيب المياه، ويشقون الطرق ويشغّلون شبكات الاتصالات… إنه عمل عظيم تقوم به جيوش من المخلصين، من الجنود المجهولين الذين لا يكاد يعرفهم الناس ولم يقدروهم حق أقدراهم، ولكن الله لا ينسى عمل المحسنين وثوابه خير وأبقى.
هذا العمل العظيم يحتاج إلى أمرين: تأمين الموارد، وحماية المرافق العامة وفرق العمل. إذا اعتدت جماعات مسلحة على مرافق الدولة أو سيطرت على مواردها واستثمرتها لصالحها فإنها تهدد ذلك المشروع العظيم، وإذا تعرضت الفرق العاملة إلى الحصار والأخطار فإن المشروع سوف يتوقف أيضاً. الخطر الأول يأتي من بعض الجماعات المسلحة العشوائية التي ذكرتها في المقالة الماضية، وهي لا بد لها من تصحيح أخطائها ورد الحقوق إلى أصحابها ولو بالإكراه. الخطر الثاني يأتي من ممارسات سلبية وتجاوزات يقوم بها كثيرون من الذين ينتسبون إلى الجيش الحر ويحملون اسمه، وهي مما لا يصحّ أبداً أن يبقى بلا علاج.
إننا نسمع ونقرأ عن تجاوزات تقوم بها مجموعات مسلحة هنا وهناك، تتراوح بين الاعتداء على الطواقم الطبية كما حصل في درعا مؤخراً، إلى استهداف بعض الناشطين الإعلاميين، وهو أمر تكرر في حلب وغيرها، إلى إعاقة عمل القضاة وأعضاء الإدارات المدنية، وقد وقعت في الشرق والشمال وقائع شتى من هذا القبيل، كما بقيت حادثة الاعتداء المؤلم على دار القضاء بحلب بلا تفسير ولا اعتذار حتى اليوم، رغم المطالبات الكثيرة التي قدمتها جهات ثورية متعددة، وفي ريف دمشق تعاني الهيئة الشرعية من تجاوزات بعض الكتائب، فيكاد يتعرض النظام العظيم المُحكَم الذي أنشأته الهيئة الشرعية في شهورٍ من العمل الدؤوب إلى الانهيار الكامل لا قدّر الله.
إذا فقدت الكوادر الطبية والإعلامية والإدارية الأمان، وإذا تمرد العسكر على القضاء الشرعي لأنهم يملكون القوة، وإذا استباحت بعضُ المجموعات المسلحة مواردَ وثروات البلاد، وإذا استمرت هذه الممارسات السلبية طويلاً، فإن الأثر الذي سينشأ نتيجة لذلك كله لن يقتصر على إضعاف الثورة وتأخير النصر، بل إنه يمكن أن يصل إلى تفكيك التحالف العظيم بين الثورة المسلحة وحاضنتها الشعبية، وقد يهدد الثورة كلها بالإخفاق لا قدّر الله.
* * *
لا بد من توافق سريع بين العسكريين والمدنيين على اقتسام الوظائف وتحديد المسؤوليات. من الضروري أن يتعاون وجهاء القوم والعلماء والدعاة في كل مدينة وناحية مع الهيئات الإغاثية والطبية لترميم أجهزة الدولة المنهارة وإعادتها إلى العمل، ومن الضروري أن تقتصر وظيفة أهل السلاح على حماية الكوادر العاملة والمرافق والأجهزة الجديدة، حتى لا تختلطَ القوة العسكرية بالسلطة المدنية أو تعلوَ قوةُ السلاح على قوة الحق والقانون.
يا أهل السلاح: تذكروا أن الطريق إلى الحرية يحتاج إلى يد تبني ويد تحمل السلاح. تذكروا أن إنشاء وصيانة أجهزة الدولة الحرة الجديدة خطوات ضرورية في الطريق إلى الاستقلال الحقيقي، وأن المطلوب منكم ليس المشاركة في إنشائها وإدارتها بل حمايتها وحماية كوادرها العاملة، فلا يجوز الاعتداء على موارد البلاد وممتلكات الشعب، كما لا يجوز الاعتداء على أملاك أفراد الناس. وليست أملاك الناس مالاً وعقارات فقط، بل إن من أملاكهم الحرية والكرامة، بل إن الكرامة أغلى من المال وأغلى من الجوهر، فلا تعتدوا على حرية إنسان ولا تنتقصوا من كرامة إنسان، واتركوا الأحرار ليتدبروا عمارة وإدارة البلاد ورعاية مصالح العباد.