كل شر في الوجود يبدأ صغيراً كالنبتة الصغيرة الضعيفة، فإذا لم يُعالَج ويهذَّب في بداياته المبكرة فإنه ينمو ويقوى، كالشجرة تمتد جذورها عميقاً في بطن الأرض وتضرب أغصانها عالياً في جو السماء، فلا تقوى العصبة من الرجال على اقتلاعها، وقد كان يستطيع اقتلاعَها طفلٌ صغير وهي لمّا تزل شتلةً طريّة ضعيفة. من أجل ذلك ينتبه المربّون إلى أخطاء ونقائص الصغار في الطفولة المبكرة، وأيُّما عيب غفلوا عنه وتركوه فإنه سيكبر مع الصغير ويصبح طبعاً غالباً يصعب التخلص منه في الكبر أو يستحيل، ومن أجل ذلك كتبت هذه المقالة.
إن لجيشنا الحر على الثورة فضلاً وعليه ينعقد الأمل في قيادتها إلى النصر بإذن الله. وما الجيش الحر؟ إنه كيان عظيم، أقله من العسكريين المنشقين عن جيش الاحتلال وأكثره من المجاهدين الصادقين من أهل الثورة الأوّلين، من الذين بدؤوا الثورة سلميين ثم حملوا السلاح مضطرين لمّا فرض عليهم نظامُ الاحتلال معركةَ السلاح، فصنعوا الأعاجيب وهم يحملون السلاح كما صنعوها يوم لم يحملوا السلاح، وأدهشوا الدنيا بثباتهم وصبرهم وبطولتهم في الحالتين، وقدّموا لكتّاب المعاجم والموسوعات تعريفاً جديداً لمفردات البطولة والشجاعة والتضحية والإقدام.
ولكن الناس ليسوا كلهم سواء، فما كل من حمل السلاح حمله صادقاً مخلصاً وحمل معه أخلاقه العالية، وليست تخلو جماعات المقاتلين من طلاب دنيا ومال وجاه، من الذين اختلط في نفوسهم حب الآخرة بحب الدنيا، فنازعوا على الرئاسات أو سعوا وراء المغانم والثروات. هؤلاء يسيئون إلى الثورة ويغامرون بمصيرها، كما يسيء إليها آلاف وآلاف من المجرمين والقتلة واللصوص وقطاع الطريق الذين أطلقهم النظام من السجون، أطلقهم وقال لهم: دونكم دنيا الناس فاصنعوا فيها ما كنتم من قبلُ تصنعون، فليس عليكم اليومَ حسابٌ ولا عقاب. فكانت النتيجة أن حمل السلاحَ قومٌ ليسوا من الثورة ولا صلةَ لهم بها من قريب أو بعيد، فسرقوا ممتلكات الآمنين وخطفوا الأحرار من الطرقات وفعلوا الآثام الموبقات.
الذين ينتسبون إلى كلا الفريقين أعداء للثورة وأعداء لسوريا، ليس بينهم وبين قوات النظام فرق، إلا أنهم أسوأ من ناحية من النواحي على الأقل، فإنهم ربما حملوا اسم الجيش الحر وتزيّوا بزيّه فأساؤوا إليه ولوثوا سمعته، فوجب على جماهير الأحرار أن يعلنوا عليهم الثورة أينما وُجدوا، وعلى جيشنا الحر الحقيقي أن يسارع إلى نزع سلاحهم وكفّ أذاهم وشرّهم عن الناس.
إن المجاهدين الصادقين يبذلون نفوسهم دفاعاً عن المدنيين الضعفاء، وهم يحرصون على صيانة أموالهم من العبث وعلى احترام كرامتهم وحماية حريتهم من أي عدوان، وإذا حرروا أملاك الشعب ومؤسساته واسترجعوها من نظام الاحتلال الأسدي فإنهم يوزعون خيراتها على الناس. أما الفاسدون من حَمَلة السلاح فإنهم يعتدون على الناس، وقد يتسلطون عليهم بقوة السلاح فيسلبونهم الأملاك والأموال، وربما اعتدوا أيضاً على الكرامة والحرية واعتقلوا الأبرياء وعذّبوهم في السجون والمعتقلات، ومنهم من يستولي على مؤسسات الدولة وأملاك الأمة فيحولها إلى مشروعات شخصية يَجْني هو خيراتها ويَحْرم منها عامة السوريين.
* * *
ربما يتذكر القراء الكرام الذين تابعوني في هذه السلسلة أنني قدمت لها بمقدمة شرحت فيها سبب كتابتها ونشرها، وأرجو أن تحتملوني وأنا أقتبس في هذا المقام بضعة سطور منها. قلت: إن الثورة مشروع لجماعة السوريين وليس لبعض أفرادهم، ولقد شارك الشعب كله أو جُلّه في دفع ثمن النصر، فلن نرضى أن تحرمنا منه فئة قليلة وأن تدفعنا إلى الهزيمة بسبب أخطائها وتجاوزاتها. الثورة هي السفينة التي نرجو أن تحملنا جميعاً إلى البر الآمن، فهل ترون أن نسمح لثلّة منّا بخرق جزء من أرضها؟ النبي صلى الله عليه وسلم خَبّرنا أن سكوتَ سائر ركاب السفينة عن الَخْرق ورضاهم به وعدمَ التدخل لوقفه جريمةٌ جماعية يدفع الكل ثمنها، قال: “فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعاً”.
هذا ما قلته من قبل، وأزيد عليه اليوم: إننا ربما استهترنا بالخَرْق الصغير لأنه صغير، ولكنه سوف يتسرب منه ماء البحر حتى يبتلع البحرُ السفينةَ ولو بعد حين. وربما خَوّفتنا قوةُ الخارق الذي يخرق أرض السفينة فأحجمنا عن الأخذ على يده، ولو تدبرنا لرأينا أننا قد نضحي -لو نازعناه ومنعناه- بألف واحد منا، ولكننا سننقذ من الغرق ألفَ ألف إنسان.
إن التجاوزات والاعتداءات والأطماع الشخصية لبعض المجموعات المسلحة التي تنسب نفسها إلى الجيش الحر (وما أبعدَ صلتَها بالجيش الحر) تعرّض الثورة كلها للخطر، وفي أقل الأحوال فإنها تؤخر النصر وتزيد المعاناة. لقد عانت الأمة المسلمة طويلاً من استئثار الفئة القليلة المتغلّبة بثروات الأمة ومواردها، وقد ثارت أخيراً لكي تمنع هذا السرطان الخبيث، وتصدّرت سوريا ثورات الأمة، بل تصدرت ثورات الدنيا بالثبات والإصرار . لن يسمح السوريون بعد اليوم بأن يجوع الملايين لكي يأكل ألفُ لص حتى التخمة، ويَعْرى الملايين ليلبس ألف لص الذهبَ والحرير، ويعيش الملايين الشهرَ بألف ليرة ليعيش ألفُ لص اليومَ الواحد بملايين الليرات. إن عصابة من قطاع الطرق تستولي على حقل نفط أو مخزن حبوب ثم تبيعه لحسابها إنما تكرّس ذلك الواقع المرير الذي ثرنا لنغيره، والذي لن نسمح بأن يتكرر بعد اليوم إن شاء الله.
لقد ثار الشعب السوري المقدام على أسوأ أنظمة الإجرام في هذا الزمان، فهل ستعجزه جماعات من اللصوص؟ لن تفعل إن شاء الله. لقد آن الأوان لتنظيف الثورة من الأدران، آن الأوان للثورة على سارقي الثورة الذين يستغلون تضحيات الملايين. وكما اشترك في الثورة الأولى المدنيون مع العسكريين، هؤلاء بالمظاهرات والاعتصامات وأولئك بالبنادق والمدافع، فكذلك تكون الثورة الثانية، باجتماع الطرفين والصبر والإصرار على الحق حتى يعود الحق إلى أهله، وحتى يتحرر الناس من استبداد المستبدين الجدد الذين يستغلون القوة للاعتداء على الضعفاء الآمنين، وحتى تعود ثروات الأمة إلى الأمة ولا تبقى نهباً للناهبين.
* * *
إن الثورة المطلوبة على الفاسدين من أهل السلاح ليست خياراً من خيارات الرفاهية، بل هي من شروط البقاء في معركتنا الفاصلة مع النظام. وللحديث بقية أكملها غداً إن شاء الله.