من أشد التأويلات فسادًا ما يُروى في التاريخ بعد مقتل سيدنا عمارِ بن ياسرٍ رضي الله عنهما: ومن المشهور في سيرته أنه كان من أنصار سيدنا علي رضي الله عنه ، وأنه خرج يقاتل معه في معركة صِفّينَ ، ولكنه قد وجد بعد انتهاء المعركة قتيلا . وقد أخرج البخاري ومسلم حديثا في شأن عمار يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام : “ويحَ عمارٍ تقتله الفئةُ الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”. روي أن معاوية رضي الله عنه قال وقد ذُكر هذا الحديث له: “إنما قتله من أخرجه” . وفي رواية: إنما قتله عليٌ وأصحابه ، جاؤوا به حتى ألقوه تحت رماحنا” .
وقد نقل الإمام المُناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير عند شرح حديث عمار أن سيدنا عليًا رضي الله عنه ردّ قول معاوية – الذي لم يرو عنه أصلا بإسناد صحيح – بضرب المثل بسيدنا حمزةَ بن عبد المطلب: إذ يلزم عليه أن الذي قتل حمزة إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه ، وحاشاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم . ونقل عن ابن دحية أن هذا من باب الإلزام للإفحام، يعني أن يقول المجيب شيئا وهو لا يعتقده لإلزام الخصم وإسكاته . أقول: وهو ما يسمى في آداب البحث والمناظرة بالتنزّل الجدلي ، وهو التسليم بصحة قول الخصم ظاهرا والسيرُ وراءه وإظهارموافقته فيه لبيان ما يستلزمه من الفساد وكشف ما يترتب عليه من المستحيل . وقد قلب سيدنا علي رضي الله عنه بذلك الحجة على معاوية ببيان ما يلزم على هذا الاستدلال الشنيع ، ولا يستغرب ذلك من سيدنا علي كرم الله تعالى وجهه .
ومع أن هذا الحديث في قول معاوية لا يصح وفي أسانيده مقال ، فقد أردت أن أضرب به المثال على منطق سقيم هو منطق البحث عن أضعف المبررات عندما تقوم الأدلة وتنطق البراهين بإدانة المجرم ، فلا يبقى لأنصار المجرم إلا قلب الحقائق واللجوء إلى المغالطات . وهو ما يقع فيه إعلام النظام وذلك متوقع من نظام أفاك سياسته الكذب وديدنه الخداع ، ولكن أن يقع فيه طلبة العلم فهذا ما لا يقبل بحال .
والقصة اليوم أن سيدةً شكت البوطي إلى الله تعالى ، وكتبت تقول في كلام طويل : “ستحكي لك الأراملُ في البرزخ كيف كان النصيري الهالك حافظ الأسد وجنده يقطعون سواعدهن وهن أحياء لأخذ ماعليهن من ذهب وحلي !
أمانة ياشيخ …
ستقابل هناك طفلةً أرق من الندى وأنصعَ من الصباح وأعطر من الياسمين وأنقى من ماء الغمام .. ذبحها جيش الصحابة … في منطقة القبير، كانت تصرخ بجزارها وهو يسوقها كدجاجة للذبح بعد أن ذبح إخوتها أمام ناظريها، كانت تنادي – ياشيخ – بصوت ارتجّ له قلب الليل :
– ياعمو الله يخليك ، الله يخليلك ولادك ، ياعمو مشان الله !
كل الكون بإنسه وجنّه وسماواته السبع والأرضين كان يرتجف لفظاعة المشهد لكن جيش الصحابة لم يسمعوا ياشيخ … كانوا يقهقهون !!
أمانة ياشيخ … أخبرها أنك الشيخ الذي كان يصدر الفرمانات الإلهية والأوامر الجهادية لذبحها علها ترتاح في عليائها ، فقد رحلت وعلى شفتيها المضمومتين كحبتي كرز سؤال تجمّد :
يارب ماذا فعلنا ، يارب لماذا يقتلوننا ؟!!
من يدافع عن البوطي عليه إعداد الجواب أمام الواحد القهار عن هذه الأسئلة وعن ملايين الأسئلة من ملايين السوريين”. انتهى الاقتباس من تعليق لأحد القراء في صفحتي على الفيس بوك .
وهذا كلام يجب أن يُسمع ، ويجب علينا أن نصغيَ له . إنه صوت شعب جريح مكلوم أصيبَ في كل شيئ ، فقدَ كل شيئ ، أصيب في النفس والعِرْض والدين والمال حتى العقل لم يسلم بعض الناس من فقده ، فقد جن كثير من الناس لهول ما رأوه من الجرائم أو ما نزل بهم من العذاب ، بل إن بعض الناس جمعت له هذه المصائب جميعا في جِراب واحد ونزلت عليه ، إن من حق كل واحد من هؤلاء أن يقول ويجب علينا أن نسمع ، ولصاحب الحق مقال ، ولا يجوز للعالم أن يُصمّ الآذان كما لا يجوز للعاقل أن يحرّف الكلام .
لكن الذي لا يمكن أن يسمع ولا محل له من الإعراب ولا مكان له بين كلام العقلاء هو أن يخرج هيّ بنُ بيّ من تلاميذ البوطي مدافعا عنه فيستخف بعقول الناس ويجرح شعور الثكالى والأيتام والمصابين ليلقي باللائمة في موت هذه الصبية وغيرها على الثوار ويعد المسؤول عن قتل من قُتل إنما هم الذين اختاروا الخروج على الإمام . فقد كتب أحد الأغمار معلقا على قصة تلك المرأة: “من يُسأل عن تلك الصبية هو من عصى الشيخ البوطي رحمه الله تعالى وواصل فيما يوصل الى قتلها و قتل غيرها و تدمير البلد كله” . وهو أنموذج من كلام يتكرر على صفحات شبكة المعلومات (الإنترنت) فرأينا أن قد وجب علينا بيان ما يقود إليه ولذلك ابتدأنا بقصة سيدنا عمار رضي الله عنه .
وقراءة هذا الكلام جعلتني أنظر متعجبا متسائلا : ما الذي أنتج هذا الاستدلال ؟
أهو حُمقٌ وصل بصاحبه إلى هذه الدرجة من السخف في التأويل !
أم هو ذهن كليل وعقل مريض انقدح له هذا الدليل !
أم هو الجهل المركب أوصل كاتب تلك الكلمات إلى هذا المستوى من الاستخفاف !
أم عمىً فقد صاحبه معه القدرة على التمييز !
أم تكبر عن الوقوف على الحق حجب صاحبه عن رؤيته !
أم هو الشيطان قد لبّس عليه حتى أراه النهار ليلا والليل نهارا والسواد بياضا والبياض سوادا والباطل حقا والحق باطلا !
ربما اجتمع ذلك كله وزاد عليه التعصب والتقليد بدعوى الحب، وقد روي في الحديث الضعيف: “حبك الشيء يعمي ويُصم” . نعم فالحب للشيخ البوطي غفر الله لنا وله قد أعمى بعض تلاميذه وأصمهم حتى تجاوزوا أستاذهم وسبقوه في العداوة للثورة بمراحل .
إن من أعجب العجب أن يقتلَ جيشُ النظام المجرم وجلاوزتُه وزبانيتُه الأطفالَ والشباب والشيوخ ويغتصبون النساء – وهذا موثق بيد العدو والصديق والقريب والبعيد – ثم يقالَ إن الذي قتل هؤلاء إنما هم الثوار ، وأن المسؤول عن ذلك إنما هو الشعب الذي هب للدفاع عن دمه وعرضه وماله وأرضه ، مع أن النظام اعترف بلسان الرئيس المجرم نفسه بأن الشعب لم يحمل السلاح ابتداء ، وأن الثورة قامت سلما ، ولكن الشعب اضطر إلى حمل السلاح بعد جرائم النظام من قتل للمتظاهرين في الطرقات وإعدام للجرحى في المستشفيات وتعذيب وانتهاك للحرمات .
لقد تعجبت واستغربت وأنا أقرأ جواب هذا الجاهل عن قتل هذه الصبية: “من يُسأل عن تلك الصبية هو من عصى الشيخ البوطي”
لم أصدق أن يصدر هذا من عاقل يسمع الأخبار ويرى الصور ويجتمع بالناس ويعيش في الشام . نرجو من تلاميذ البوطي أن لا يهزؤوا بنا وأن لا يستخفوا بعقولنا بمثل هذه الردود والتأويلات . أتريدون أن تقولوا لنا بأن المسؤول عن كل هذه الجرائم إنما هو الشعب. وأن النظام بريء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف .
النظام هو المجرم ، وهو المسؤول عن كل قتل للناس وتعذيب للسجناء واغتصاب للنساء وهدم للمساجد والبيوت وانتهاك للحرمات وتزوير للحقائق وعبث بالتاريخ . وهو نظام عدو للإسلام اغتصب الحكم زورا ، وحاول القضاء على الإسلام من خلال نشر مبادئ حزب البعث خمسين سنة ، ومن خلال تحويل البلد من بلد إسلامي إلى بلد علماني . نظام قام على القتل والإرهاب وسفك الدماء لم يَرْعَ في إنسان ولا مؤمن ولا عدو ولا موال إلاً ولا ذمة . وصدق الله تعالى إذ يقول في أمثال هؤلاء: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}
ولعل هذا المتنطع يقول إن الشيخ البوطي لم يحث الدولة على قتل الشعب وإنما كان يؤيد الدولة في قتل الخوارج المارقين . وهذا رد فاسد لأن على المفتي أن ينظر عند الفتوى إلى السائل وأحواله ، وكيف يأخذ الجواب ، وماذا يفهم منه ، ولا يجوز له أن يلقي الكلام على عواهنه . جاء رجل إلى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يسأله هل للقاتل من توبة؟ فقال : لا ، ثم جاءه آخر فسأله هل للقاتل من توبة فقال : نعم . وبيّن سبب اختلاف الجواب بقوله : “رأيت في عيني الأول إرادة القتل فزجرته ، ورأيت الثاني قد قتل وجاء يطلب المخرج فلم أقنّطه” . هذا هو الفقه ، فأين منه الدكتور سعيد غفر الله له وهو الذي كان يصر على وصف الجيش بالباسل والمقدام ويثني عليه ، والجيش يقوم بالقتل بلا تمييز ، لا يفرق بين الثوار والسكان ، والكبار والصغار ، والرجال والنساء ، والمكانُ الذي تنطلق منه رصاصة يجب أن يدمر ، والشعبُ كله عدو في المناطق التي تثور على النظام . وقد رأينا هذا في قصف حمص وحلب ومدن غوطة دمشق وقصف المخابز والمشافي والمدارس . أيعقل أن يكون الشعب كله خارجا مارقا ؟ أم يصدق أحد أن النظام يغار على الإسلام ؟
وأحسن الأقوال في د. البوطي بين أهل العلم أنه اجتهد في تأييد النظام فأخطأ ، ولكنه كان خطأ فاحشا جَرّ على أهل السنة الويلات . ونحن نرى أنه اجتهد في موضع لا اجتهاد فيه أصلا ، إذ كانت نصرة الشعب واستنكار الظلم والقتل من أوجب الواجبات ، ولذلك حكمنا في مقالاتنا من قبل بأنه كان آثما في ذلك الاجتهاد ، وأن الاجتهاد الذي يقبل من صاحبه وإن كان خطأ إنما هو في العزلة والصمت لا في تأييد النظام .
واجتهاده في تأييد النظام في قتله للشعب وقمعه للثورة يشبه في الفساد اجتهاد رجل جهل القبلة وبين يديه بعض أهل المكان من العدول ، فذهب يجتهد في تحري القبلة ولم يسأل الناس ولم يطلب العلامات فأخطأ ، فاجتهاده مردود عليه ، ويجب قضاء الصلاة هنا إذ ما فات في الوقت يقضى بعده . ولكن كيف تعود أرواح من مات من الأبرياء باجتهاد في موضع لا يصح الاجتهاد أصلا فيه ، إذ لا اجتهاد في مورد النص ، وقد تضافرت النصوص على وجوب نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وتحريم إعانة الظالم في ظلمه .
ونُـذَكّـر بأننا قد أشرنا إلى فضله ، ونعَيناه بما هو أهله ، صلة لرحم العلم ، وقياما بحق الدين في الذَّبّ عن عرض المسلم فكيف بالعالم، ولسنا من تلامذته (فأنا تلميذ والدي العلامة الشيخ إبراهيم اليعقوبي عليه درست وبه تخرجت ومنه تعلمت الجهر بالحق) وإن كنت أستفيد من الصغير والكبير . وحكمنا له بالشهادة لا لأنه كان على صواب وإنما باعتبار أنه مات فيما يشبه الحرق والهدم بيد عدو للإسلام فهو فقها شهيد آخرة لا شهيد دنيا كمن مات تحت الهدم ، له ثواب الشهيد في الآخرة لا حكمه في الدنيا. وترحمنا عليه لما نراه أنه مات على الإسلام في بيت الله .
لقد تصدينا للرد على الشيخ البوطي رحمه الله بعد انطلاق الثورة عندما رأينا ذلك واجبا ، بل رددنا عليه وخالفناه قبل الثورة في مسائل وفتاوى متعددة ، ولم تمنعنا شهرته ولا تقدمه علينا في السن والعلم من بيان الحق والإشارة إلى الخطأ وكشف الوهم ، فإن العلم مُشاع بين أهله . كما لم يمنعنا هذا كله من الثناء عليه بعد وفاته ونعيه والترحم عليه في وقت يتوجه إليه العشرات من العلماء والدعاة بالنقد بألسنة لاذعة . وقد هَـلَـكَ فِـيـهِ مُـحِـبٌّ غَـالٍ ومُـبْـغِـضٌ قَـالٍ ، الموقف الوسط الحق الذي يجب أن يقف عنده كل منصف عالم هو ما هدانا الله بفضله إليه وحملنا عليه ، فـ{الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا لِهذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الّله .
وأيا كان حاله فإن منطق التبرير للحكام والدفاع عن الظلمة قد مات بموته وذهب بذهابه . وقد أغلق الباب بين العلماء والحكام في بلادنا بلاد الشام ، ولن نقبل من أحد أن يأتي إلينا بالجهل فيصيّره علما ولا بالباطل فيخرجَه حقا. ينبغي أن يعيد موت البوطي إلى العلم رُواءه ، وإلى الفقه بهاءه ، وينبغي أن يكون موته درسا يعيد للخطيب جرأته ، وللمفتي استقامته ، وللواعظ رتبته .
ومن أجمل مواقف العلماء مع الظلمة من الحكام قصة الإمام أبي القاسم خلفِ بن فِـيـرُّه الشاطبي، وهو أحد أعمدة قراءات القرآن الكريم تؤخذ القراءات السبع من طريقه ، وهو صاحب الشاطبية المسماة (حرز الأماني ووجه التهاني) . يُنسب هذا الإمام إلى شاطبة وهي بلد بشرق الأندلس ، وقد خرج منها مهاجرًا في سبيل الله حتى جاء إلى مصرَ ومات فيها – وقد زرت قبره في سفح المقطم بالقاهرة . وسبب خروجه من شاطبة أن أميرها أراد أن يقربه فأبى وخرج . وقد روى الإمام أبو شامة رحمه الله – وهو دفين دمشق – عن علم الدين السخاوي أن سبب انتقال الشاطبي من بلده أنه أريد على الخطابة ، فاحتجّ بالحج وترك بلده ولم يعد إليه ، تورعا مما كانوا يُلزمون به الخطباء من ذكرهم الأمراء بأوصاف لم يرها سائغة . خرج الإمام الشاطبي وأطلق صيحة مدوية بقيت تنادي على كل عالم يقف على باب ظالم فاجر :
قُــل لـلأمـيـر مَـقـالــةً *** مِـن عـالـم فـطـنٍ نـبـيـهْ
إن الـفـقـيـهَ إذا أتَـى *** أبـوابَـكـم لا خـيـرَ فـيـه