#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
ليس لدينا وقت للحزن
التاريخ: 6/ شعبان/1437هـ
الموافق: 13/ أيار/2016م
المدة: 27 دقيقة
الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1- وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
2- الجنود المجهولون في الثورة: (الدفاع المدني – المُمرِّضون)
3- الطبيب الشهيد ومقولة (ليس لدينا وقت للحزن)
4- الغَرسُ الربَّاني.
5- وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
6- إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ.
الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
7- المفاتيح الثلاثة لفكر التغيير.
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.
القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين: أمَّا بعد عباد الله:
يقول الله تعالى واصفا عباده المؤمنين وجُندهُ المنصورين:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)) (الشورى:38-39)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ فلا يجزعون ولا يقنَطون بل يعمَلون وينتصِرون وعلى ربهم يتوكَّلون، يثبُتون على طريق الحقِّ وقد عزَّ النصير، يصبرون وقد غدت المؤامرة واضحت المعالم، وتواطأ الكل مع الكافر الظالم، يتوكَّلون ويعملون وقد تغلَّبت لغة المصالح، وغُض الطرف عن المذابِح … يتوكَّلون على الله ويثبتون، بعد أن أصبح القتل مباحًا والعرض مستباحًا…
أولئك هم المؤمنون حقًّا، أولئك هم الصادقون العاقلون، أولئك الذين عرَفوا أنَّ الحوار لا يكون إلا بلُغة المدَافِع، في زمنٍ أُعينَ فيه الظالمُ وليمَ المُدافِع، يثبتون ويتوكلون في زمنٍ أصبح فيه الدين إرهابًا، والانحراف صوابًا، والصمت جوابًا …
في مثل هكذا زمن قد ييأس فيه كثيرٌ من ضعاف الإيمان، وفي مثل هكذا زمن تنكشف الحقائق ليظهر أولئك الشباب ليظهر أولئك الرجالُ المؤمنون حقًا، يظهرُ من صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يظهر الذين ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، يظهرُ من أشرقت نفوسهم بنور الأمل النابع من الثقة بوعد الله – سبحانه وتعالى – لعباده الصالحين (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110].
أولئك الرجال الصادقون هم الذين أنارت الثقة بالله قلوبهم، وملأ الإيمان أركانهم، همُ العاملون الذين فهِموا معنى أنَّ الله محاسبٌ للإنسان على سعيه، وأنَّ لله أقدارًا وسنَّ في الكون سُنَنًا، فتراهم يعملون باذلين قُصارى جهدهم مخلصين في عملهم، دون أن يستعجلوا أمر ربِّهم، يعملون مُخلصين ليُقابلوا ربَّهم وقد قاموا بما عليهم وإن قصَّر الآخرون… أولئك هم العقلاء الذين عرَفوا أنَّ نيل المطالب لا يكون بالتمني، إنَّما تؤخذ الدنيا غِلابًا.
أولئك الرجال الذين يرون الجزع والحَزَن والتشكي شأنًا مِن شؤون النساء، أمورٌ لا تنفع، لا تُصلِحُ حالًا ولا تُغيِّر وضعًا، الجزع والخوف والتشكِّي وبوستات الفيس بوك…كلُّ ذلك لا ينفعُ ولا يُغيِّر، إنَّما النافع أن يسدَّ كلٌ منَّا ثغرًا… والثغورٌ كثيرة، لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن بعضها … فلا يؤتى الإسلامُ مِن قِبلك أخي العزيز.
ثغورٌ منها من يشتهرُ بعض القائمين عليها، ومنها من يسدُّهُ الجنود المجهولون والأبطال الصامتون…
نعم أخي المسلم، ثغورٌ كثيرة عرفت بعضَها أيُّها الإنسان أو جهِلت، يسدُّها عن أمَّة الإسلام جنودٌ مجهولون كأمثال شباب الدفاع المدني الذين شهدنا من بطولاتهم ما تسطَّر به مئات الملاحم … وهم الذين شهدناهم يدخلون الأماكن الخطرة في غمرة القصف، قبل أن يقف حتَّى … تراهم يُغامرون بحياتهم لكي يخرجوا الناس من تحت الأنقاض … ولعلَّنا – والشيء بالشيء يُذكر – ولابدَّ من نسب المعروف لأهله –
لابدَّ أن نذكر وأن نترحم وأن ندعو بالمغفرة والقَبول لذاك الطبيب البطل، الدكتور وسيم معاز الذي كان آخر طبيب أطفالٍ مختصٍّ بحلب، ذاك الطبيب رحمه الله وتقبَّله هو ومن استشهد معه من إخوانه الذين استشهدوا في قصف مشفى القدس في السكري … ذاك الشهيد الجميل، ذهبوا به ليدفنوه وذهب معهم أخوه، (وهو أيضًا طبيبٌ ثابتٌ مرابطٌ مجاهدٌ في حلب)، … ذهب لدفن أخيه، فإذا به يبلَّغ بعد الدفن فورًا بغاراتٍ للنظام تسببت بقدوم حالات إسعافٍ إلى المشفى الذي يعمل فيه فترك عزاء أخيه فور دفنه، وانطلق للمشفى يسدُّ الثغرَ الذي أقامَه الله فيه قائلا للناس: ((ليس لدينا وقتٌ للحزن)) ليس لدينا وقتٌ للحزن فالوقت وقتُ عملٍ وبذلٍ وجهاد، وقتٌ تُثبِتُ فيه جدارتك، وقتٌ تُرضي فيه ربَّك، وقتٌ تكون فيه ممن قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) (الأحزاب:23)
أولئك الرجال أيُّها الأحبَّة لا وقت لديهم للحزن، أولئك الرجال هم الذين يقلبون المحنة منحةً بإذن الله، يقلبونها منحةً بالصبر والعمل والاجتهاد، يعملون ويجتهدون، ولا يكلون ولا يمِلُّون كلٌّ منهم يسدُّ ثغرًا، وهو موقنٌ بأنَّ هذه الثورة وهذا الجهاد لن ينتصرَ إلّا بتكاملِ جهود الجميع على اختلاف أعمالهم ومهامِّهم، فذاك خلف رشاشه، والآخر عند مدفعه، والثالث يَصنَع لهم الذخيرة في ورشته، والرابعٌ يطهوا لهم الطعام في مطبخه، والخامسٌ يؤمِّن احتياجاتهم، والسادسٌ يداوي جرحاهم، والسابعٌ يحلُّ مشاكلهم ويعلِّمهم ليرفع جهلهم، والثامنٌ يَذبُّ عن أعراضِ إخوانه ويُخرس ألسن الطاعنين بهم، والتاسعٌ شيخٌ عجوزٌ أو امرأةٌ مسكينة رفعا الأكفَّ إلى الله داعين متضرِّعين، سائلًا المولى أن ينصر إخوانهم … منظومةٌ متكاملةٌ … منظومةٌ جهاديَّةٌ ربَّانية، أوجد لنفسك فيها مكانًا.
منظومةٌ ليس فيها مكانٌ لمتقاعس، قم أخا الإسلام، جِد لنفسك فيها مكانًا وابذل فيه قُصارى جهدك، فلا وقت لدينا للحزن ولا للبكاء، دع الدموع للنساء وهلمَّ أخا الإسلام لتثبتَ رجولتك ولتكون مفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، فقد أخرج الطبراني بإسنادٍ حسن أنَّ رسول الله – – صلى الله عليه وسلم – – قال : «عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير»
اختر لنفسكَ أيَّ الطريقين تسلك، مفتاحٌ للخير؟ أم مفتاحٌ للشر ينشرُ الفتن ويُمسك عن الصالحات، ويضع العِصيَّ في عجلات العاملين، أولئك العاملون المجاهدون الذين يحبُّهم الله ويحبونه، وفي حديثٍ حسن يقول – صلى الله عليه وسلم – : «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عزَّ وجل سرورٌ تدخله على مسلم أو تكشِف عنه كُربة».
إن لم تحمل السلاح، إن لم تشارك في مواطنِ العزِّ والكرامة، فلا أقلَّ مِن أن تساهم في كشف كربةٍ عن المسلمين، المهم أن تعمل وتجتهد وأن لا تقعد مع القاعدين، المهم أن تكون جزءً من منظومة الجهاد والمجاهدين، أن تكون في المقدِّمة أو في الأطراف أو الساقة لا يهمّ، المهمُّ أن تعمل باذلًا قُصارى جهدك، المهمُّ أن لا يؤتى السلام مِن ثغرك… لتكون مِن هذه الشجرةِ الطيِّبة، لتكون من ذلك الغرس الربَّاني، الذي اختار طريقه بين النصر والشهادة، وعن أبي عِنَبَةَ الخولاني قال: قال – صلى الله عليه وسلم -:
” لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة ” [حديثٌ حسنٌ رواه ابن ماجه وأحمد]
لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، في كلِّ زمانٍ ومكان هناك غرسٌ ربَّاني، هناك شجرةٌ إسلاميَّة، شجرةٌ تقي أمّة الإسلام مِن قيظِ أعدائها وشرورهم، هذا غرس الله، غرسٌ ربَّاني، وأكرم بغرس غرسه الله، غرسٌ سيقوى عوده وستشتدُّ ساقه، وسيعظمُ جِذعه وستمتدُّ فروعه وستنتشر أوراقه، حتى يكون ربيعًا إسلاميًّا خالصًا… وهذا لا يكون إلّا بالصادقين، لا يكون إلّا بأولئك الرجال العاملين، بأولئك الصابرين، بأولئك الذين عرَفوا أن الجهادَ طريقُ البذل والعمل، فالجهاد لا يكون مجرَّد وظيفةً، بل هو بذلٌ وعملٌ واستفراغٌ للوَسعِ والطَّاقة، هذا هو الجهادُ وما سواه وساوسٌ تُرضي الجبان وتصنع الأعذارا.
أولئك الرجال العاملون المؤمنون الذين يسدُون الثغور في منظومة الجهاد، في منظومة المجتمع المؤمن المجاهد، هم الذين يصنعون النَّصر…
والله أيُّها السادة عندما نرى هؤلاء الشباب وهؤلاء الرجال العاملين، عندما نرى الثابتين اليوم في حلب والطائراتُ تُغير كُلَّ ساعةٍ وساعتين، عندما نرى أصحاب كفاءاتٍ قد صمدوا في هذه البلاد ولم يلحقوا دربَ من ولَّى الأدبار… نرى الأمل يلوح في الأفُق، ونرى النَّصر قادما ونرى راياتِ الإسلام خفَّاقةً تلوح في الأفق
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)
والله ما كان لله أن يُضيِع إيمانكم، ولا أن يُضِيعَ صبركم، والله ما كان لله أن يُضيع تضحياتكم، حاشا لله أن يُضِيعَ جهاد المجاهدين، حاشا لله أن يُضيعَ ما بذله المسلمون، إنَّما هو امتحانٌ واختبار وابتلاء ليميز الله الخبيث من الطيب، وليظهر السَّاعون إلى الله حقَّ السعي، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)) (النجم:39-41)
سعيك أيُّها الأخ ستراه أمامك، ستراه يوم: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:95)
في ذلك اليوم لن تُسأل عن سعي جارك، ولا عن سعي أخيك ولا أبيك، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، ستقف بين يدي الديَّان سبحانه فردًا لكي لا تتعذَّر بالنَّاس، ستُسأل عن سعيك أنت، وليس عن سعي واحدٍ آخر … (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105)
المؤمنون يعملون، فلا يكلُّون ولا يمِلُّون ولا ييأسون، يعملون آخذين بالأسباب وقد تعلَّقت قلوبهم بربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب سبحانه، فتفاءلوا من غير تواكل وصبروا من غير قنوت، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87)
فاستعن بالله ولا تعجز، واصنع لنفسك مجدًا في الدنيا والآخرة، ولا تقعد مع النساء والقاعدين، استعن بالله فأنت المسلم المؤمن، والمؤمن لا ييأس ولا يجزع … ولنا برسول الله أسوةٌ وبصحابته قُدوة ففي يوم الأحزاب – ويا له من يوم – يومَ: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب: 10- 11]. زلزلوا فماذا فعلوا؟؟ …استسلموا؟ يئسوا؟؟ قنَطوا؟؟ لا والله أبدًا … بل عمِلوا واجتهدوا وأخذوا بالأسباب فحفروا الخندق، وتوكَّلوا على الله حقَّ التوكُّل … فعلوا كما فعل أحفادهم البارحة في خانطومان كما فعل الأبطال البارحة في حندرات، لم ييأسوا ولم يستسلموا، بل عملوا وأخذوا بالأسباب، فثبَّتهمُ الله ربُّ الأرباب.
أيعقل أيُّها المسلم، أيُعقلُ أيُّها المجاهد؟ ونحن نتحدَّثُ عن الاجتهاد والبذل والعمل، أيُعقلُ أن ترابط أيها أياما وأسابيع بل شهورًا في غير أوقات المعارك، فلا تأخذ بالأسباب، ولا تعطي العمل حقَّه، فلا تحفِرُ ولا تُدشِّمُ كما يجب وعدوك في مقابلك – في غير أوقات المعارك – يعمل جنودُه مواصلين الليل بالنهار يدشِّمون ويحفِرون، يُخندقُون ويُحصِّنون، وأنت تمضي الساعات مرابطا تحتسي الشاي وتنظُر؟!! أين أنت من حسن التوكُّل المُقتضي للعمل، أين أنت من فهم سنن الله الكونية؟! تلك السنن التي لا تحابي أحدا …ولو حابت أحدا لحابت الأنبياء والمرسلين ومن معهم …
أين أنت َمن تركِ بصمةٍ تُذكرُ بها في الدارين بخير، أين أنت من القيامِ بواجِبك، (تقصيرُ الناس ليسَ مبرِّرًا لك كي تُقصِّر وتُخطئ)، تقصير إخوانك ليس مبرِّرًا لك أمام الله تعالى، ولا أمام غيره من المخلوقين، فلن نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّةٍ أنكاثا، فالنصر صبر ساعة والعاقبة للمتقين، ووهاهم أبطالنا يصيغون ورقة حوارهم مع العدوِّ المجرم، ذاك الحوار الذي لا يُجدي إلّا بأقلام المدافع وبحبرٍ بلونِ الدم القاني وما خانطومان ولا حندرات إلا غيضٌ من فيض والقادم أعظم وسنفرح مستبشرين بنصرِ الله (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) حفظنا درسنا وعرَفنا طريقنا فلن نحيد عنه
لا خير في حق إذا لم تحمـه …. حلق الحديد وألسن النيران
من لم يصنه من العداوة سلمه …. صانتـه قوته من العدوان
الوقت وقت سعي والزمن زمن جهاد، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من العاملين المقبولين عنده، فكم من ساعٍ لم يُقبل سعيه، وكم من مجتهدٍ ليس له من اجتهادِهِ إلّا النصب والعناء، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.
أمَّا بعد أيها السادة الكرام:
مفاتيح قُلناها ونقولها نلخِّصُ بها كلامنا… مفاتيح لابدَّ منها للتغيير ولبناء الأمَّة ولصناعة النَّصر:
فالمفتاح الأول: فهو مفتاحُ الثقةِ بوعد الله ونصره للمؤمنين (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)
أمَّا المفتاح الثاني: فهو سعيٌ تبرأ به ذمَّتنا أمام الله تعالى، … فلن نُسأل عن غيرنا بل سيقفُ كلٌّ منَّا فردًا أمام الله سبحانه وتعالى ليسأله عن سعيه … فلن نُسأل عن المقصِّرين .. ولن نُكافأ بمكافأة المحسنين … فآثِر نجاتك ورِفعتك ولا تتعذر بقعود القاعدين.
وأمَّا المفتاح الثالث: وهو الأوَّلُ دائمًا، فهو قلبٌ سليم تعلَّق بالله وأيقن أنَّ النصر مِن عند الله، وأنَّ الفتح به ومنه سبحانه وتعالى. فسعى للأمرِ حقَّ السعي، ولم يتعلَّق قلبه إلا بالله ولم يسأل غير الله:
إنَّ الوقوف على الأبواب حرمـان *** والعجز أن يرجو الإنسانَ إنسانُ
متى تؤمِّـل مخـلوقاً وتقصــُدُه *** إن كــان عندك بالرحمن إيمان
ثق بالذي هو يعـطي ويـمنع ذا *** فـي كل يـوم له في خلقه شان
اللهمَّ بدِّل حالنا إلى خير ما تحبُّ وترضى … إنِّي داعٍ فأمِّنوا
“اللهم أحرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يُرام، واغفر لنا بقدرتك علينا، لا نهلكُ وأنت رجاؤنا، فكم من نعمة أنعمت بها علينا قلّ لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قلّ لك عندها صبرنا، فيا من قلّ عند نعمته شكرنا فلم يحرمنِا، وقلّ عند بليته صبرنا فلم يخذلنا، ورآنا على الخطأ فلم يفضحنا …
يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النِّعمِ التي لا تُحصى عدداً، اللهم بك ندرأ في نحور أعدائنا، ونعوذُ بك مِن شرورهم.
اللهم احفظنا مما غُيِّبنا عنه، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر. يا من لا تضرُّه الذنوب ولا تُنقصثه المغفٍرة نسألك فرجاً وصبراً جميلاً، ورزقاً واسعاً نسألك العافية من جميع البلاء نسألك دوام العافية، نسألك الشكر على العافية، نسألك الغنى عن سؤال الناس وأن تغفر لنا وترحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ….”