عندما أعلنت الولايات المتحدة الحرب على جبهة النصرة وقف معها أحرار سوريا وقالوا: “لن نسمح بأن تمتد يدٌ أجنبية بعدوان على من جاء لينصر الحق ويدافع عن المظلومين”. وكنت واحداً من الذين شاركوا في الدفاع عن الجبهة، واجباً عليّ لا تفضلاً مني، فكتبت: “ليعلم العالم أن ن السوريين لم يكونوا يوماً من أهل الغدر والجحود؛ لقد كانت عادتهم الوفاء على الدوام، فلن يبدلوا اليوم عادتهم ولن يقطعوا اليد التي امتدت إليهم لتنقذهم من الشر والطغيان، لا يد النصرة ولا غيرها من الأيادي البيضاء”.
ثم قلت: “لا أقبل ولا يقبل أحد من السوريين الشرفاء أن نخون مَن جاءنا من إخواننا المسلمين ولا أن نجحد فضله وسابقته. كل مجاهد دخل سوريا فهو في ذمة أهلها وجوارهم، لا يصل إليه معتد بسوء ولا يَخْلُص إليه حتى يَخْلص إلى أنفسهم ووالديهم وأولادهم أجمعين. لقد نابذ أحدُ كرام العرب يوماً قوة من قُوى العالم العظمى قياماً بحق الذمة والجوار، ونحن أحفادُ ذلك الشيباني الذي هزم الفرس في ذي قار”.
ذلك كان موقفي وما يزال، ولكني أريد أن أضيف اليومَ إلى ما قلته من قبلُ كلمةً صغيرة: نحن نضع ضيوفنا في أعيننا ولهم علينا حق الشكر والوفاء، ولكن هل رأيتم قَطّ ضيفاً يغيّر بيديه ترتيبَ أثاث البيت الذي استضافه أو يؤجّر الدار بلا إذن ولا توكيل من صاحب الدار؟
سمعت أمس التسجيل المطول للشيخ البغدادي، وسمعه أكثر الناس، ثم سمعنا اليوم التسجيل الذي ردّ به الشيخ الجولاني على البغدادي. بعد ذلك تابعت ردود الفعل في صفحات أنصار النصرة فوجدت حالة عامة من البلبلة والاضطراب، ويبدو أن بيان البغدادي قد سبب صدمة للكثيرين لأنه صدر بلا تنسيق ولا ترتيب مسبق مع جبهة النصرة. ولكني لم أقف عند الخلاف بشأن التنسيق المسبق، بل وقفت عند خلافهم على صاحب الحق في القطع بمصير سوريا: هل هو الظواهري الذي يقيم في أفغانستان، أم البغدادي الذي يقيم في العراق، أم الذين يقيمون على الأرض السورية، الجولاني وجماعة النصرة؟
أمعنت النظر في تلك المعمعة الغريبة فلاحظت غائباً لم يذكره أحد، فأحببت أن أذكّر المختلفين بذلك الغائب الذي كان قبلَ أن يكون الآخرون؛ الغائب الذي نسيه الجميع وهم يتناظرون ويتناقشون في صاحب الحق في تقرير مصير سوريا والسوريين. سأذكّركم بجزء من الحكاية لعله صار قديماً لدرجة أنْ يُنسى حتى كأنه ما كان!
منذ سنوات عاش في الشام طاغية ظنّ أن الفلك قد توقف عن الدوران وأن عرشه قد سُمِّر فيه بمسمار فلا يَحُول ولا يزول. وكيف يَحُول وقد ورثه من أبيه وسيرثه -كما توهم- من بعده الأبناءُ وأبناء الأبناء، فيرثه واحدٌ عن واحدٍ من سلالة القتل والإجرام؟ وكيف يزول وقد أعدّوا لحمايته ما لم تعرف دولةٌ في الدنيا مثلَه ولا نصفه ولا عُشره من الأجهزة الأمنية الوحشية القمعية التي تلاحق الناس في اليقظة والمنام؟
هكذا كان حال أهل سوريا قبل بضعة وعشرين شهراً. ثم أصبح الصباح عليهم ذات يوم فقال بعض شبانهم لبعض: إلى متى السكوت وقد ثار إخواننا في هذا البلد وذاك؟ أنعيش ونموت أذلّةً مستعبَدين كما عاش ومات مِن قبلنا الآباء والأجداد؟ إن هذا لا يكون!
في ذلك اليوم البعيد لم يكن أحدٌ من الفصائل المقاتلة قد وُجد في الدنيا ولا سمع به الناس. في ذلك الجو الكئيب المشحون بالرعب والرهبة خرج إلى الشوارع ألفٌ من المتظاهرين الأبطال وقالوا: “توقف أيها الطاغية عن الطغيان، لقد آن لهدم عرشك الأوان”. لم يقولوها همساً بين أربعة حيطان ولكنهم هتفوا بها بأعلى الصوت حتى تشققت منها الحناجر فبلغت عنان السماء، وبلغ من قوّتها أن أفاق منها شعبٌ أمضى في الرُّقاد نصفَ قرن مستسلماً للذل والهوان والاستعباد، فهتف الهاتفون مع الهاتفين: نعم، لن نسكت بعد اليوم، نموت ولا نعيش يوماً واحداً آخَرَ في الذل والهوان والاستعباد.
كانوا ألفاً أو بضعة آلاف، ثم ما زالوا يزدادون حتى صاروا ألف ألف، ثم خمسة آلاف ألف، ثم بلغوا عشرة ملايين وعشرين. أولئك هم شعب سوريا العظيم الذي استيقظ من رقاد طويل فقام يهز عرش الطغيان، بل قام يهز الدنيا ويُذهلها بأعاجيب الصبر والبطولة والرجولة وكرائم المعجزات.
هؤلاء الملايين هم الذين بدؤوا كل شيء؛ هم مَن أوقد نار الثورة، وهم من حمل مشعلها ومشى به المشوار الطويل، وهم من أبقى المشعل وقّاداً وهم يعيشون في قلب الإعصار، وهم ما يزالون حَمَلة الثورة وحاضنتها إلى اليوم. أين صوتهم؟ أين رأيهم؟ لماذا لا يتذكرهم أحد ولا يذكرهم أحد؟
سأخبركم بخلاصة المسألة: هؤلاء الملايين هم الأحق بأن يقرروا مصيرهم ومصير بلادهم، لا بل إنهم وحدهم أصحاب الحق، لا ولايةَ لأحد عليهم ولا حق لأي كان أن يفرض عليهم ما شاء متى شاء وكيف شاء.
لقد استمعت إلى كلمة أخينا الجولاني ثلاث مرات، وقد سرني أن يعارض شيخَه البغدادي الذي احتكر مصير شعب كامل ولم يسأله الرأي، وأحسن بقوله إن “دولة الإسلام في الشام ستُبنى بسواعد الجميع دون إقصاء أي طرف”، ولو وقف هنا لكان قوله صحيحاً صحة مطلقة، ولكنه قيّد الطرف الذي لا يجوز إقصاؤه بقيود يمكن تسخيرها لإقصاء كثيرين، فقال: “دون إقصاء أي طرف ممّن شاركنا الجهاد والقتال في الشام من الفصائل المجاهدة والشيوخ المعتبَرين من أهل السنة وإخواننا المهاجرين”.
لا يا أيها الفاضل؛ إن مصير أهل سوريا لا يقرره إلا أهل سوريا بجملتهم، ومن جملتهم مجاهدوهم الذين حملوا السلاح وشاركوا في القتال (ومنهم مجاهدو النصرة بالتأكيد)، كما أن من جملتهم الملايين الذين أوقدوا نار الثورة وحملوا حملها الثقيل إلى اليوم، بل يدخل في جملتهم كل من شارك في الثورة ولو بشق كلمة. يدخل في جملتهم الرجال الذين تظاهروا والذين اعتُقلوا والذين عُذّبوا، كما يدخل في جملتهم النساء اللائي حملنَ الحِمْل كاملاً غيرَ منقوص، فشاركنَ في المظاهرات والاعتصامات يوم كانت الثورة مظاهرات واعتصامات، ثم كنّ رديفاً للمجاهدين يوم صارت الثورة جهاداً بالسلاح، واحتملنَ ما يشقّ احتماله على صناديد الرجال.
أما إخواننا المهاجرون -الذين ذكرهم التسجيل- فإنهم مثلي، ضيوفٌ على سوريا وثورتها، من حقهم أن يقدّموا الرأي والنصيحة ولكن دون فرض أو وصاية، فأهل سوريا أعلم بأمرهم وأقدر على تحديد مصيرهم، وإنهم لَيَملكون من الوعي والإدراك والإخلاص ما لو وُزّع على أهل الأمصار لكفاهم بإذن الله.
أجدّد شكري وتقديري لكل من شارك أهل سوريا في هذه المحنة العظيمة. لهؤلاء الصادقين المخلصين كل الحب والوفاء، ومع الحب والوفاء طلب ورجاء: اتركوا الشعب السوري ليحدد مصيره بنفسه، فإنه قد أظهر من النضج والوعي ما يعجّب ويُدهش، ولن يقبل بعد اليوم أن يكون مصيرُه لعبةً لا في أيدي الأصدقاء ولا في أيدي الأعداء.