من أكبر الأخطار التي تهدد الثورة تهديداً حقيقياً مشروعُ الحوار الذي يقترح الجلوس مع النظام (أو جزء من النظام)، وصولاً إلى تحقيق غاية يصرّ عليها ويدفع إليها المجتمعُ الدولي بقواه المختلفة: “الحل السياسي”. كان ينبغي أن يموت هذا المشروع ويشبع موتاً بعدما رفضته غالبية السوريين الأحرار، ولكنه ما يزال يعالَج في غرف الإنعاش السياسي وتُضَخّ فيه الدماء، وما يزال يُعرَض في المعارض والكرنفالات السياسية باعتباره الحل النموذجي المنشود.
من حقنا أن نتوجس من الحوار لمجرد أن القوى الدولية تريده وتصرّ عليه، فإنها -بشرقها وغربها- لم تأت بخير ولا عرفنا فيها إلا عدواً من أعداء الثورة، وإذا كان بعض أهل الثورة احتاروا بشأن أولئك الأعداء فإنما كانت حيرتهم في التصنيف لا في التعريف: أيّ الأعداء نقدم وأيّهم نؤخر، وأيّهم أشد عداء وأشد خبثاً؟ هذه هي الأسئلة التي يسألها الناس لا سواها. لكننا لن نعتمد على مجرد الموقف الدولي (والغربي خاصة) من الحوار والحل السياسي لكي نحكم عليهما، فإن لنا عقولاً وأفهاماً تحسن التفكير والتدبير والحمد لله.
لو كان من شأن الحوار أن يحقق أهداف الثورة لما ترددنا في الإقدام عليه. وكيف نفعل إذا كان سيخفف معاناة الناس ويقصّر الطريق؟ إنّ رفضَ حل يُنهي المأساة ويُسقط النظام جريمةٌ لا تُغتفَر، ولكن بما أن عقلاء الثورة يرفضون الحوار فإننا ندرك تلقائياً أنه خطر على سوريا وثورتها. لماذا؟ ببساطة: لأن الحوار المقصود يقوم على ركن ركين، وهو التفاوض مع النظام بهدف الوصول إلى حل توافقي يسمح للطرفين بالاشتراك في إدارة الدولة السورية الجديدة!
إن الفكرة الأساسية من هذا المشروع هي أن يجلس طرفان على كرسيين متقابلين وبينهما طاولة الحوار وعليها مشروع الحل السياسي، أحد الطرفين يمثل الثورة (وهو جزء منها) والثاني يمثل النظام (وهو جزء منه). المشروع المطروح على الطاولة يقول: أمامنا حلان للمشكلة، حل سياسي وحل عسكري، وسوف نختار الحل السياسي. لكنْ ثمة مشكلة في بقاء بشار وعصابته المكونة أساساً من قادة الأجهزة الأمنية. حسناً، سوف نقنعه بالرحيل ونضمن سلامته وسلامة عائلته وعصابته ونمنحهم جميعاً حصانة حالية ومستقبلية من الملاحقة الجنائية، حصانة تمتدّ حتى الممات. إذن مَن سيشارك معنا في إدارة البلاد بعد انسحاب الأسد وعصابته من المعركة؟ الجواب حاضر: سوف يكون شركاؤكم في النظام الجديد أشخاصاً من النظام القديم لم يشاركوا في الجريمة ولم تتلطخ أياديهم بالدماء.
عندما يتحدثون عن “أشخاص من النظام” فإنهم لا يقصدون قطعاً أولئك الذين يعملون في أجهزة ومؤسسات الدولة المدنية والخدماتية، بل إننا نفهم بداهة أن المعنيين هم رجال “النظام” الذي يحكم سوريا ويتحكم في كل صغيرة وكبيرة فيها، رجال الطبقات العليا في الأجهزة السياسية والأمنية والعسكرية؛ هؤلاء هم الذين يُراد منا أن نعثر بينهم على شرفاء لم تتلطخ أياديهم بالدم لكي نجلس معهم على طاولة الحوار. وإلا فهل تتوقعون أن يكون المقصود هو كاتب حسابات في وزارة المالية أو مدير تعليم في ناحية من أقصى نواحي البلاد؟
في أكثر المناظرات التي رأيتها طول عمري يبدأ الناس بالحوار قبل تعريف المصطلحات، فيختلفون وهم لا يعرفون على أي شيء يختلفون، لذلك كان علماؤنا يبدؤون المناظرة بما يسمّونه “تحرير المصطلح”، أي تعريفه وتوضيحه، لكي لا يتحول الحوار بينهم إلى “حوار طرشان”، هذا يطلب أمراً وذاك يرفض غيره، وهذا يتحدث من الباب والآخر يردّ عليه من الشبّاك!
ما معنى “لم تتلطخ يده بالدماء”؟ من هنا البدايةُ التي لم يُعِرْها أحدٌ أيّ اهتمام. لو كان المقصود هو المعنى الحرفي فإن أول الذين لم تتلطخ أيديهم بدم السوريين هم بشار الأسد وكبار قادته الأمنيين والعسكريين، فإنهم يمارسون القتل بالوكالة لا بالأصالة، يوجّهون الأوامر ولا يشاركون في تنفيذها. إذن فإن المقصود ليس هو المعنى الحرفي بالتأكيد.
سننتقل إلى المعنى المجازي، وهنا محل خلاف قد يطول: هل الملوث بالدم هو مَن أصدر الأمر باعتقال المتظاهرين وتعذيبهم حتى الموت؟ أم هو الذي اعتقلهم من البيوت والطرقات؟ أم أنه السائق الذي نقلهم إلى مقر التحقيق والعذاب؟ أم السجّان الذي سجن أم المحقق الذي حقّق؟ أم الزبانية الذين عذبوا المعتقلين حتى الموت؟ هل الملوّث بالدم هو من أصدر الأمر بقذف المدنيين الآمنين بالحمم والصواريخ؟ أم هو الذي جهّز البراميل وحمّلها في الطيارات؟ أم هو الطيار الذي طار بها أم معاونه الذي قذفها على رؤوس الناس؟ هل هو قائد كتيبة الصواريخ؟ أم أنهم جميع العناصر والعساكر الذين شغّلوا الصواريخ وأطلقوها، وهم يعلمون أنهم يطلقونها على أرض سورية يقطنها سوريون أبرياء لا على أرض يحتلها اليهود والأعداء؟
إن آلة الإجرام تتكوّن -كأي آلة أخرى في الدنيا- من آلاف القطع والمكوّنات، وإنها ليضطرب أداؤها وتتعطل فاعليتها إذا تعطلت أي قطعة من قطعها أو أصاب بعضَ مكوناتها الضرر، لذلك فإننا نقول إن قطعها ومكوّناتها جميعاً تشترك في المسؤولية عن سلامة وقوة وفاعلية تلك الآلة.
كذلك نقول: إن كل شخص يعمل مع النظام القمعي المجرم هو جزء من آلة القمع والإجرام، وهم جميعاً ملوثون بالدماء. إنهم كالشركاء في الخمر: ملعونٌ شاربُها ملعونٌ غارسُها ملعون عاصرها ملعون حاملها ملعون ساقيها، وملعونٌ بائعها وآكلُ ثمنها والمشتري لها والمشتراة له.
هل يمكن أن نعثر على وطني شريف واحد بقي في معسكر النظام بعد خمسة وعشرين شهراً من القتل والإجرام الذي يجري على عينه وبمشاركة منه صغيرة كانت أو كبيرة؟ لعمري إن شخصاً بهذه المواصفات أكثر خياليةً وخرافيةً من الغول وطائر العنقاء!
إن من المخيّب للأمل أن نعلن انتصار الثورة في المساء ثم نصبح في الصباح التالي لنجد على رأس الدولة والجيش والأجهزة الأمنية رجالاً كنا نراهم في صفوف القتلة والمجرمين! ولكن الخسارة الحقيقية ليست معنوية ولا تقتصر على خيبة الأمل، إنها خسارة حقيقية وإنها نكبة من أعظم النكبات؛ إنها باختصار: فشل الثورة في اقتلاع النظام من الجذور، والرضا بالتعايش مع بعض أجزائه وفلوله وبقاياه. إنها عودة إلى المربع الأول الذي بدأنا منه كل شيء.
كتبت قبل شهرين وأعيد اليوم (وسامحوني على التكرار): إن الجلوس على طاولة الحوار مع أي طرف من أطراف النظام -سواء مَن غرق بدمائنا إلى المرفقين أو اقتصر على الكفين، سواء مَن قتل أو أعان وظاهر القَتَلة والمجرمين- إن الجلوس مع أي من هؤلاء على طاولة المفاوضات هو الخطوة الأولى للدخول في النفق، نفق الحل السياسي الذي اختاره أعداء سوريا والذي يدفعون إليه دفعاً جباراً ويحرصون على إنهاء الثورة من خلاله، وهو أمر لو حصل -لا قدّر الله- فسوف يعيدنا إلى المربع الأول، أو إلى واحد من المربعات المبكرة في أحسن الأحوال، فنرجع إلى بيوتنا (أو إلى ما بقي من بيوتنا) بالجراح ولمّا نكسب شيئاً ولا حققنا غاية، وعلى الثورة وعلى حرية سوريا السلام.
لا يا أيها الناس، لا تسمحوا لهم بالتحكم بكم ولا بالتحكيم بينكم وبين عدوكم. لا تفاوضوا الحرامي على اقتسام الدار. إن التفاوض والحوار أوله مغريات مفرحات وآخره كارثات مبكيات، إنه طريق أوله ورد ونور وآخره شوك ونار.