إنهم أثرياء الحرب الذين تخجل الوحوش من أفعالهم، لأن الوحوش تتوحش من أجل البقاء، وهؤلاء يتوحشون من أجل الثراء والمزيد من الثراء، فيتاجرون بآلام الناس ويتاجرون بالدموع والدماء.
إنهم خطر كبير على الثورة لأنهم يَحْرمون جمهور الثورة من القدرة على الصمود. لقد عصفَت المحنةُ بالناس واشتدت ضراوتها وطال أمدها، فحيثما ذهب المرء في طول البلاد وعرضها وجد لاجئين ووجد جائعين ووجد مرضى ومشردين، وهؤلاء لا بد لهم من مأوى ولا بد لهم من طعام وعلاج، فإذا أُغلقت في وجوههم الأبواب وضَنّ عليهم بالمأوى أصحابُ الدور وبالمال أهلُ المال كادوا يعجزون عن الصمود والاحتمال.
ومَن هؤلاء الناس؟ إنهم القاعدة التي تحمل الثورة والحاضنة التي تحضنها، وإن فيهم أهالي شهداء الثورة ومعتقَليها الذين غيّبتهم اللحودُ والمعتقَلات، وإنهم لأمانة في أعناق الأحرار، بل إن فيهم عائلات المجاهدين الذين التحقوا بساحات الجهاد وتركوا أولادهم وزوجاتهم لله ولأصحاب المروءات.
كيف يمكن أن يعيش الناس الذين فقدوا الأموال والأملاك وشُرّدوا في البلاد إذا صارت معاناتهم وعذاباتهم هي البضاعة التي يتاجر بها أبالسةٌ يتزيّون بأزياء التجار؟ كيف يعيشون إذا عجزوا عن دفع إيجار الدار، وإذا حُرم رضيعهم من الحليب وقُطع عن مريضهم الدواء؟
كل من يزيد معاناة الناس ويستغل حاجتهم فإنه عدو للثورة، وسوف يحاسِب الشعبُ السوري أعداء ثورته جميعاً عاجلاً أو آجلاً، فيا من تتاجرون بدماء السوريين وآلامهم: استعدوا ليوم حساب قريب أو توبوا قبل فوات الأوان.
من أعداء الثورة مالكو العقارات الذين ضاعفوا الإيجارات أضعافاً مضاعفات، وقد كان الناس يشكون ارتفاع الإيجارات ويكادون يعجزون عن احتمالها قبل أن يرفعها أولئك الجشعون القساة، فكيف يحتملونها اليوم مضعَّفَةً وقد انقطع الدخل وغاب المُعيل وتآكلت المدّخرات؟ ومنهم بائعو الطعام الذين يُخفون بضائعهم ويحتكرونها ليرفعوا أثمانها ويستغلّوا قلة المتوفر منها في الأسواق، فتبيت الأغذية في مستودعاتهم بلا آكلين ويبيت آلاف الجائعين بلا طعام. ماذا نصنع مع أولئك الوحوش من الفريقين؟ أنا لست قاضياً ولا مفتياً، ومن حسن حظهم أني لست كذلك، فلو أنني مُنحت حق الحكم عليهم لأمرت أن يقيّد الواحد منهم إلى شجرة أو عمود كهرباء، ثم يبقى في العراء سبعة أيام بلا غطاء ولا غذاء ليعرف معنى الجوع والبرد والتشرد في العراء.
ومنهم من ألّف الجمعيات الوهمية فجمع المال باسم المنكوبين من السوريين ثم استأثر به فلم يوصل منه شيئاً، أو أوصل بعضه واستولى على بعض. ومنهم من دُفعت إليه المعونات العينية وحُمّل أمانةَ التوصيل فسطا عليها وراح يبيعها للمحتاجين بأغلى الأثمان. هؤلاء وهؤلاء جَنَوا على الثورة جنايتين، الأولى حين حرموا المحتاجين من الإعانات وزادوا عليهم ثقل المأساة، والثانية حين أفقدوا المانحين والمتبرعين الثقةَ بمؤسسات الثورة الإغاثية فحرموها من خير كثير. من أجل ذلك ينبغي أن يلاحقهم الشرفاء وأن يفضحوا خياناتهم للناس، وكما أجرموا جريمتين فأرجو أن يحاسبهم الله حسابين، ومن نجا منهم من حساب الدنيا فلن ينجو من حساب الآخرة بإذن الله.
ومنهم من لا يبالي أن يأكل بالباطل أموال اليتامى والأيامى من أولاد وزوجات الشهداء. لو علمتُ أن واحداً صنع ذلك أو اثنين لهان الخطب، وإنه لخطب عظيم، ولكني ما أزال تصلني رسائل وشكاوى تواترت فيها أخبار هذه الجرائم الفظيعة. لو أن أولئك المعتدين قرؤوا القرآن لعلموا أن الذي يأكل مال اليتيم إنما يأكل في بطنه النار، ذلك لو أن الميت الذي ترك أولئك الأيتام مات حتف أنفه، فكيف وقد مات شهيداً في ميدان المعركة الأغر؟ ماذا يأكل في بطونهم من يأكلون حقوق زوجات وأولاد الشهداء؟ هل أعتدي لو دعوت عليهم؟ اللهمّ من أكل أموال الضَعَفة المساكين من بنات وأبناء الشهداء وزوجاتهم فاحرقه بنارين، نار الدنيا ونار الآخرة، واجعله عبرة للمعتبرين.
كيف تسمح لبعض الناس قلوبُهم وضمائرهم بأن يتاجروا بعذابات أولئك المعذبين وآلامهم ودموعهم من أجل المال والمزيد من المال؟ وددت أن أذكّرهم بالله وبيوم الحساب الذي سيقفون فيه بين يديه، ولكني لم أعتقد أن أحداً يؤمن بآخرة وحساب يمكن أن يفعل تلك القبائح التي يعملون. وددت أن أخاطب قلوبهم وضمائرهم، ولكني نظرت فرأيت أنهم بلا ضمائر وبلا قلوب. وإلا فكيف تطرق بابَك يا من فقدت المروءة والشرف ويا من فقدت الإحساس والضمير، كيف تطرق بابَك المرأةُ الضعيفة تحمل بيدٍ رضيعاً وتجر بالأخرى صغيراً ووراءها ثلاث بُنَيّات، فتنهرها وتردّها أو تُغلي عليها الإيجار أضعافاً مضاعفات، وهي لا تملك نصف أصل الإيجار ولا ربعه ولا ربع الربع؟ لو أن يهودياً طرقَت هذه المرأة بابه لرقّ قلبه، ولكنكم -يا تجّار الآلام- أسوأ من اليهود، أقسم بالله إنكم أسوأ من اليهود الذين نضرب بهم بالجشع والسوء الأمثال!
يا ألأم اللئام ويا ذئاباً في أثواب البشر، كيف تطيب نفوسكم أن تستغلوا ضعف الضعفاء وحاجة المحتاجين من اللاجئين الفارّين من المدن التي دمرها القصف وأكلتها النار؟ إنكم عار على سوريا، لا بل إنكم عار على بني الإنسان، فليس إنساناً من يستغل حاجة أخيه الإنسان في مثل هذا المقام، ليس إنساناً من يضاعف بلاء الناس من أجل المال. لا بارك الله في درهم يربحه تاجر جَشِعٌ من أولئك الضّعَفَة المساكين ولا دينار، بل أسأل الله أن يخسف به الأرض كما خسفها بقارون، حتى يطّلع عليه الناس فيقولَ قائلُهم: وَيْ كأنّه لا يفلح الظالمون!
إذا كان أحد من هؤلاء اللئام في المناطق المحررة فإن على من يعرفهم أن يشكوهم إلى القضاء أو من يمثّله من هيئات شرعية وإدارات محلية، وعلى القضاء أن يعقد له محاكمة علنية وأن يُصدر في حقه الحكم الشرعي. وأحسب أن الشرع يوجب -في حالات الاضطرار التي تتعلق بالموت والحياة- أن تصادَر العينُ التي يحبس صاحبُها نفعَها عن الناس والبضاعةُ التي يحتكرها من دونهم وهم بأشد الحاجة إليها ولا بديل لهم عنها. أقول هذا اجتهاداً وليس حكماً، فإن هذه المسألة الدقيقة لا يفتي فيها إلا أهل العلم الثقات، فابحثوها وأخبرونا بحكم الشرع فيها يا أيها العلماء.
أما إذا كان المعتدي في المناطق المحتلة التي ما تزال تحت سيطرة النظام فإن على الجماعة التي تعيش معه أن تضغط عليه لتصحيح موقفه، والجماعة المقصودة تشمل وجهاء الحي وكبار العائلة، بل وتشمل إخوته وأولاده وزوجته إن كانوا مخالفين لمنهجه وعمله. فإذا أصرّ بعد ذلك كله فليس لنا إلا أن نَشُنّ عليه حرباً نفسية ومعنوية بالنبذ والمقاطعة.
إن التاجر الآثم الذي يتاجر بآلام الناس من حقه أن يُعرَف ويُشهَر في الناس، فيُقاطَع ويُنبَذ اليوم قبل سقوط النظام ويقاطَع ويُنبَذ غداً بعد نجاح الثورة؛ لا محل لمثله بين الشرفاء، فلا تعاملوه -يا أيها الشرفاء- اليوم ولا تسامحوه في مقبلات الأيام.