بقلم: د. أحمد محمد كنعان
نقف اليوم نحن العرب في ساحات “الربيع العربي” أمام مشهد مسرحي ملتبس ، تتداخل فيه الأضواء والظلال وأصوات الممثلين ، حتى ليتعذر على المشاهد أن يدرك ما يريده المخرج من هذا “العمل” الذي لا يقل عبثية عن المسرحية الأشهر للإيرلندي “صموئيل بيكيت” بانتظار جودو “Waiting for Godot” التي تمثل رجلين يرتحلان إلى مكان ما في انتظار الوصول المرتقب لشخص يدعى “جودو” ويجري بينهما حوار غامض مطول هو أشبه بحوار الطرشان ، وتكتمل دائرة العبث بأن تنتهي المسرحية دون أن يأتي “جودو” ، وبالرغم من هذا يصرّ الرجلان على الانتظار ، ويسدل الستار على المشهد الأخير تاركاً المشاهدين غارقين في الحيرة وهم يتساءلون : ما الذي أراده المخرج من كل هذا العبث ؟!
تذكرت هذه المسرحية العابثة التي حضرت عرضها الأول في دمشق في ستينات القرن الماضي وأنا أتفكر في مشاهد “الربيع العربي” الذي جعلنا ننتظر .. وننتظر .. ويطول بنا الانتظار دون أن يأتي الذي ننتظر !
غير أن كل هذا العبث لا يمنعنا من محاولة قراءة المشاهد من جديد وصولاً إلى “ربيعنا العربي” لعلنا ندرك ما الذي يريده المخرج آخر المطاف !؟
المشهد الأول ( وثيقة كامبل ) :
ولن نوغل كثيراً في مسارب التاريخ ، بل نكتفي بقراءة ما جرى خلال قرن مضى ، بادئين من العام 1905 الذي لاحت فيه بوضوح أمارات الضعف الشديد على “الرجل المريض” المتمثل ببقايا الإمبراطورية العثمانية ، ففي ذلك العام نادى رئيس الحكومة البريطانية “هنري كامبل” عدداً من الدول الاستعمارية إلى مؤتمر للاتفاق على الوسائل التي تكفل المحافظة على مصالح الدول الاستعمارية بعد رحيل العثمانيين ، وقد ضم المؤتمر يومذاك ( بريطانيا ، فرنسا ، هولندا ، بلجيكا ، إسبانيا ، إيطاليا ، البرتغال ) واستمرت مناقشات المؤتمر على مدار عامين كاملين وانتهى بوثيقة سرية عرفت باسم “وثيقة كامبل” نسبة إلى صاحب الفكرة ، ملخصها “أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار ، فهو الجسر الذي يصل الشرق بالغرب ، وهو الممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية ، وملتقى طرق العالم ، وهو مهد الديانات والحضارات” والإشكالية في هذا الشريان كما جاء في الوثيقة أنه “يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللسان” وقد أجمع المؤتمرون في ذلك الحين على ضرورة إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة .. جاهلة .. متخلفة !
المشهد الثاني ( اتفاقية سايكس بيكو ) :
بدأ هذا المشهد بعد وقت قصير من المشهد السابق ، وبالتحديد في العام 1916 في أتون الحرب العالمية الأولى التي أجهزت على الخلافة العثمانية ، وفيه جرى تفاهم سري بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا ، وتضمن الاتفاق تحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على هذه المنطقة ، وقد توصلت هذه الأطراف إلى الاتفاقية عبر مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي “فرانسوا جورج بيكو” والجنرال البريطاني “مارك سايكس” وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية ، وبموجبها قسم الهلال الخصيب ، فحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق ، أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي والاتجاه شرقاً لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا ، وتقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتفق عليها بالتشاور بين أطراف الاتفاقية ، ولم يمض عام واحد على هذه الاتفاقية الاستعمارية حتى أصدر وزير الخارجية البريطاني “آرثر جيمس بلفور” الوعد المشؤوم الذي حمل اسمه “وعد بلفور” وفيه تعهدت بريطاينا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، وفي عام 1948 ألغت بريطانيا انتدابها على فلسطين لتمهد الطريق للصهاينة للإعلان عن دولتهم “إسرائيل” ، وبهذا اكتمل المشهد بتقسم المشرق العربي ، وزراعة “السرطان الصهيوني” في قلب الوطن العربي ، لتبدأ أطول مأساة عربية في العصر الحديث .
المشهد الثالث ( ثورة الخميني ) :
ويبدو أن المستعمرين لم يكتفوا بزراعة ذلك السرطان في قلب العالم العربي فعملوا معاً على زراعة سرطان آخر في خاصرته ، كان ذلك في عام 1979 حين فاجأ الزعيم الإيراني “الخميني” العالم بعودته إلى إيران معلناً انتصار ثورته على “الشاه” ، غير أن هذه المفاجأة لم تلبث أن تكشفت عن تواطؤ غير معلن بين الأمريكان والأوروبيين لدعم الخميني وإجبار “الشاه” على الرحيل والانسحاب من المسرح بأسرع مما توقع المشاهدون ، بالرغم من أنه كان رجل أمريكا الأول والأقوى في المنطقة يومذاك ، وقد فاجأ رحيل “الشاه” المباغت جميع المحللين السياسيين ، وتساءل الجميع يومها باستغراب شديد : كيف تتخلى أمريكا عن رجلها الأول والأقوى بهذه البساطة تاركة البلد لحفنة من رجال الدين المتشددين ، لاسيما وأن إيران تحتل موقعاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأمريكية ، وتتقاسم حدوداً طويلة مع “الاتحاد السوفياتي” عدو الولايات المتحدة في “الحرب الباردة” التي كانت في أوجها ذلك الحين ، ناهيك عن أن إيران دولة غنية بالنفط والغاز ، وهي ذات مطامع تاريخية في الخليج العربي الذي يعد كنز أمريكا الأغلى !
وأعجب من هذا أن السفير الأمريكي في إيران يومذاك “ويليام سوليفان” صرح بأن مستشار الأمن القومي الأمريكي “زبيغنيو برزيزينسكي” أكد للشاه مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة تدعمه بالكامل ، وأنها لن تتخلى عنه مهما ساءت الأحوال ، وتقول الوثائق الأمريكية إنه في يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1978 اتصل برزيزينسكي بالشاه شخصياً وأبلغه أن الولايات المتحدة “سوف تدعمه حتى النهاية” واستمر برزيزينسكي والوزير “جيمس شليزنغر” بالتعهد للشاه بأن الولايات المتحدة سوف تسانده عسكرياً مهما كانت النتائج ، واستمر على هذه الحال حتى آخر أيام الثورة عندما كان الشاه يعتبر هالكاً لا محالة !
لكن المفاجئ أكثر أن بعض المسؤولين رفيعي المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية كانوا في الوقت نفسه يصرحون بأن “الشاه” يجب أن يرحل بغض النظر عمن يحل مكانه ، وقد أوحى هذا التناقض في تصريحات الأمريكان أن في جعبتهم “خطة جديدة” بدأت تظهر ملامحها بعد وقت قصير حين نشبت الحرب العراقية الإيرانية ( 1980 ـ 1988 ) ثم الحرب الأهلية الأفغانية عام 1992 التي كان لإيران اليد الطولى في تأجيجها ، ثم في استغلالها أخبث استغلال !
لقد أصبح واضحاً منذ ذلك التاريخ أن الولايات المتحدة سمحت لثورة الخميني بطرد الشاه لتبدأ فصول مسرحية أمريكية جديدة تقوم إيران فيها بدور البطولة ( المؤقتة بطبيعة الحال ) وهذا ما تأكد بصورة واضحة ـ بل فاضحة ـ من خلال تصريح وزير الخارجية الأمريكية الأسبق والأدهى والأخبث “هنري كيسنجر” الذي قال فيه بصراحته الصادمة ووقاحته المعهودة : “لقد بدأت الآن حرب المئة عام بين السنة والشيعة” مستلهماً الفكرة من الحرب الدينية الطاحنة التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا أوائل القرن السابع عشر ، وقد التقط “المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة هذه الفكرة ، وبدؤوا تنفيذها على الفور ضمن ما عرف بنظرية “الفوضى الخلاقة” التي سنأتي على ذكرها لاحقاً ، واستهدفت إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط ، وهذا ما يفسر دخول إيران لاعباً أساسياً في “الربيع العربي” ويؤكد من جهة أخرى أن الولايات المتحدة كانت منذ سبعينات القرن الماضي تهيئ الشرق الأوسط لمرحلة جديدة تعيد فيها ترتيب المنطقة لخدمة مصالحها ، لاسيما بعد انتصارها في “الحرب الباردة” على الاتحاد السوفياتي ، وتفكيكه ، ما جعل الولايات المتحدة تنفرد باللعب على الساحة .. وما تزال !
المشهد الثالث ( نهاية التاريخ وصراع الحضارات ) :
الفصل التالي من المسرحية كان ظهور كتابين في الولايات المتحدة أثارا في حينه موجات من الجدل السياسي الفكري الصاخب في مختلف أنحاء العالم ، لكنه لم يلبث أن خفت دون سابق إنذار ، أما الكتاب الأول فهو ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير ) للأمريكي “فرانسيس فوكوياما” أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي ومدير برنامج التنمية الدولية بجامعة جونز هوبكنز ، الذي كان قد نشر في عام 1989 مقالة في دورية ناشيونال انترست National Interest بعنوان ” نهاية التاريخ” تزامنت مع اللحظات الأخيرة لسقوط الاتحاد السوفياتي ، قال فيها إن نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين ، لتحل محله اللبرالية وقيم الديمقراطية الغربية ، وقد أضاف فوكوياما ووسع وشرح نظريته هذه في كتابه المذكور الذي أصدره عام 1992 وحرَّض فيه الولايات المتحدة على استخدام القوة في ترويجها للديمقراطية ، ولاسيما في الدول الإسلامية ، وقد رأينا تطبيقاً عملياً عاجلاً لهذه النظرية في ترويج الولايات المتحدة للحرب على “الإرهاب الإسلامي” الذي دشنته في حربها على أفغانستان عام 2001 ، ثم في حربها على العراق عام 2003 ، وأخيراً بنظرية “الفوضى الخلاقة” التي استهدفت العالم العربي تحديداً .. وبهذا تكون قد مضت بتطبيق البند الأول والأهم من نظرية فوكوياما !
أما الكتاب الثاني فهو لأستاذ العلوم السياسية “صمويل هنتنجتون” الذي أشعل في عام 1993 جدلاً واسعاً حين نشر في مجلة العلاقات الخارجية Foreign affairs مقالة بعنوان “صراع الحضارات” لم يلبث أن أفاض بشرحها في كتاب أصدره عام 1996 بعنوان “صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي” عرض فيه وجهة نظره بأن صراعات ما بعد “الحرب الباردة” سوف تعود للاشتعال بصورة أوسع وأعنف ، وأنها ستقوم على أسس ثقافية دينية بدلاً من الأسس الإديولوجية التي أشعلت الحرب الباردة ، وسوف تتصادم الحضارة الغربية في الحرب القادمة مع بقايا الحضارات القائمة اليوم ولاسيما منها الحضارتين الإسلامية والصينية ، وحذر هنتنغتون بلؤم من أن الولايات المتحدة سوف تفقد زعامتها للعالم إذا فشلت في فهم هذه الحقائق على حد تعبيره ، وهكذا أثار هنتنغتون ـ لأول مرة في التاريخ الحديث ـ فكرة الصراع الثقافي الديني ، وجعل الثقافة الإسلامية في قمة الأهداف التي ينبغي للولايات المتحدة أن تمنع انتشارها ولو تطلب الأمر استخدام القوة المسلحة ، وبهذا فتح هنتنغتون الباب على مصراعيه لحرب طويلة الأمد مع حضارة عريقة وثقافة متجذرة في ربع سكان العالم ، وكان هذا بداية تطبيق خطط جديدة للولايات المتحدة تستهدف الإسلام بكافة أبعاده ورموزه ، وقد رسخ محللون سياسيون أمريكان في حينه هذا التوجه فوصفوا “صراع الحضارات” بأنه “الأساس النظري لشرعنة عدوان الغرب بقيادة الولايات المتحدة على العالم الإسلامي” ، وهنا تجدر بنا مقارنة طروحات هنتنغتون وتأثيره على صانعي السياسة الأمريكية بالمؤرخ البريطاني “أرنولد توينبي” الذي أكد على الدور المحوري للدين في نشوء الحضارات ، وكأن الرجلين قد تمالآ على تحذير الغرب من “الدين” الذي يهدد الحضارة الغربية ذات النزعة العلمانية ، والتي تشير الدلائل العديدة أنها آيلة إلى السقوط ما لم تقض على “الصحوة الدينية” التي بدأت تطل برأسها في أنحاء عديدة من العالم ، ولاسيما منطقة الشرق الأوسط .. وهذا ينقلنا إلى المشهد التالي من المسرحية !
المشهد الرابع ( الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير ) :
بعد تلك التحضيرات لتنفيذ الأجندة الأمريكية الأوروبية الحافلة بالتآمر بات على “الغرب” أن يخطو الخطوة التالية التي تمثلت بنظرية “الفوضى الخلاقة” وقد تستغرب قارئي العزيز إذا قلنا إن نظرية الفوضى الخلاقة ليست وليدة هذه الأيام ، نظرياً على الأقل ، فقد قال بها قبل خمسة قرون تقريباً الفيلسوف السياسي الإيطالي المحنك “ميكافيللي” الذي ذكر في كتابه “الأمير” أن “الشجاعة تُنتج السلم ، والسلم يُنتج الراحة ، والراحة يتبعها فوضى ، والفوضى تؤدي إلى الخراب ، ومن الفوضى ينشأ النظام” !
والفوضى الخلاقة بتعريف موجز هي “حالة سياسية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة” ، ويعد “مايكل ليدين” العضو البارز في معهد أمريكا إنتربرايزAmerican Enterprise Institute أول من صاغ مصطلح الفوضى الخلاقة Creative chaos بمعناه السياسي الحالي ، وقد عبر عنه في مشروعه الذي طرحه في عام 2003 تحت عنوان “التغيير الكامل في الشرق الأوسط” وأقامه على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لدول المنطقة قاطبة ، وفق رؤية تقوم على الهدم ثم إعادة البناء من جديد ، وكان من الواضح أن “ليدين” اعتمد في أطروحته على الرؤية التي رسم معالمها كل من فوكوياما وهنتنغتون اللذين انتهيا إلى ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة ، منبهين بصورة أساسية إلى خطورة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وأخلاقياً للحضارة الغربية المادية !
بعد ذلك طور نظرية الفوضى الخلاقة البروفيسور “توماس بارنيت” المحاضر في وزارة الدفاع الأمريكية ، وقد قسّم العالم إلى دول “القلب” أو المركز أي أمريكا وحلفائها ، ودول “الثقب” المتمثلة بدول الشرق الوسط المحكومة بالاستبداد ، ويتفشى فيها الفساد والتخلف والنزاعات العرقية والمذهبية ، وقد حذر “بارنيت” إلى أن هذه الدول تمثل مزارع لتفريخ الإرهابيين ( يعني الإسلاميين بطبيعة الحال ! ) ويتوجب على دول القلب ـ حسب بارنيت ـ تدجين هذه المنطقة وإعادة تشكيلها من جديد ، لاسيما وأن العلاقات الدبلوماسية مع أنظمة الحكم في الشرق الأوسط لم تعد مجدية على حد تعبيره ، وأشار إلى أن التهديد الحقيقي يكمن داخل دول المنطقة بسبب العلاقة المتأزمة بين الحكام وشعوبهم ، ما يجعل الشرق الأوسط مرتعاً خصباً للمتطرفين والإرهابيين ، وقد انتهى “بارنيت” إلى أن الفوضى الخلاقة تقتضي تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل ، وليس مجرد احتواء من الخارج ، وختم “بارنيت” أطروحته بتكريس القيادة العالمية للولايات المتحدة فحصر عملية التغيير بها قائلاً : “ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك” !
ويبدو واضحاً من خلال الأحداث التي جرت فيما بعد أن الإدارة الأمريكية قد التقطت هذه الأفكار وتشبثت بها إذ وجدت فيها الخلاص من المشكلات الداخلية المعقدة التي باتت تهدد الحضارة الغربية ، واقتنعت بنظرية الفوضى الخلاقة وبدأت بالفعل تحضير الرأي العام المحلي والعالمي للتجاوب مع الفكرة بذريعة بناء “عالم جديد” يوفر الأمن والازدهار والحرية ، ليس للولايات المتحدة فحسب ، بل للعالم أجمع ، كما روج الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” الأب في كثير من خطبه وتعليقاته حين كان على رأس السلطة !
ويمثل “روبرت ساتلوف” المدير التنفيذي لمؤسسة واشنطن لسياسات الشرق الأوسط Washington for Middle East Policy ذات الصلات الصهيونية الفاضحة أحد أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة ، وهو الذي طالب الولايات المتحدة بالتعامل مع العالم العربي من خلال مقاربة خاصة بكل بلد على حدة ، مؤكداً من طرفه على محاربة الأصولية الإسلامية بلا هوادة ، وقد عزز الباحث الأمريكي “مايكل ماكفيل” هذا التوجه حين صرح بكل صفاقة أن العدو الذي يجب تدميره في المرحلة القادمة بعد كسر شوكة المعسكر الشيوعي هو “الصحوة الإسلامية” !
والظاهر من تتبع الأحداث بعد ذلك أن صناع السياسة الأمريكية باتوا على قناعة تامة أن مفهوم سيادة الدول وشؤونها الداخلية ـ ويعنون منطقة الشرق الأوسط تحديداً ـ لم تعد كذلك عند الأمريكان طالما ارتبط ذلك بالأمن القومي الأمريكي ، ما يعني أن الأوضاع الداخلية في تلك الدول باتت بحاجة إلى تغيير شامل لن يحدث إلا عبر الفوضى الخلاقة التي تبدأ بإزالة الأنظمة البالية وتنتهي بتشكيل أنظمة سياسية جديدة تضمن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة .
وإجابة على بعض الأصوات الغربية التي عارضت نظرية الفوضى الخلاقة بحجة أنها تتناقض مع الديمقراطية التي تعد العنوان الأبرز للحضارة الغربية ، ردت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كونداليزا رايس” قائلة : إن العكس هو الصحيح ، فالفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية المنشودة !
وكانت الولايات المتحدة قد أعدت الكثير من الوسائل الإعلامية والاقتصادية والسياسية لتأجيج الفوضى الخلاقة في المنطقة ، منها الترويج لفكرة الحدود المفتوحة والتجارة الحرة ، والتحريض على تعديل الدساتير الوطنية العتيقة ، والبث الفضائي الموجه إلى المنطقة على مدار الساعة ، وتقديم خدمات التواصل الإلكتروني المجاني عبر الإيميلات والفيسبوك والتويتر ومواقع الإنترنت ، بهدف تشكيل رأي عام مبرمج قابل للاختراق وفقاً للهوى الأمريكي !
هذا ، إلى جانب التواصل الحثيث مع النشطاء والحقوقيين في المنطفة ، ولاسيما منهم المسؤولين الحكوميين والأكاديميين الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا ، إضافة إلى دعم عدد من أطراف المعارضة في بلدان الشرق الأوسط ، إلى غير ذلك من الوسائل التي وفرت قبولاً جماهيرياً واسعاً لوجهة النظر الأمريكية !
ولعل أبرز ما في هذا المشهد إصرار الأمريكان على تشويه صورة الإسلام وربطه بالإرهاب ، والترويج لفكرة حرية الرأي والحرية الشخصية على الطريقة الأمريكية ، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية ، وزعزعة القيم الأخلاقية في المجتمع المسلم ، ما يوحي بعزم الولايات المتحدة التحضير لخلق بيئة آمنة تتواجد فيها دون مساعدة الأنظمة الحاكمة ، وهكذا اكتمل السيناريو الذي جعل المخرج الأمريكي يدير المسرحية ببراعة استلهمها من استديوهات هوليود التي ظلت على مدار قرن كامل تغسل أدمغة العالم وتبرمجها على هواها !
المشهد الخامس ( الربيع العربي ) :
بدأ “الربيع العربي” كما هو معلوم بحادث مأساوي حين أحرق العامل التونسي المسكين “محمد البوعزيزي” نفسه احتجاجاً على الظم الذي حاق به ، وكان هذا الحادث بمثابة الفتيل الذي أشعل “الربيع العربي” إذ تبع ذلك الحادث المؤلم رحيل الرئيس التونسي “زين العابدين بن علي” وامتدت الأحداث بعد ذلك إلى ليبيا ومصر واليمن وسوريا لتلتهب المنطقة برمتها ، وتسفر عن رحيل أربعة رؤساء في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن ، وقد أثار هذا الرحيل المفاجئ أسئلة كثيرة محيرة مفادها : هل كان إحراق “البوعزيزي” نفسه كافياً لإثارة كل هذه الثورات العربية التي اجتاحت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه ؟ وقد أجاب كثير من المحللين السياسيين على هذا السؤال المحرج بالنفي ، فقد قتل قبل هذا المسكين آلاف مؤلفة من المواطنين العرب ، وسجن الآلاف ، وشرد الملايين تحت قهر الأنظمة الاستبدادية الغاشمة التي لا تعرف الرحمة ، دون أن يؤدي ذلك الدمار الهائل إلى ثورة واحدة ، فكيف يؤدي إحراق مواطن نفسه إلى كل هذه الأحداث ويقلب الطاولة على رؤوس الحكام بهذه السرعة وبهذا الجرأة التي لم يتوقعها أحد ؟!
والجواب من جديد أجده في خبر أذيع لمرة واحدة عبر وكالة الأنباء الفرنسية عشية إحراق البوعزيزي نفسه ، يقول الخبر إن أميراً عربياً رفيع المستوى توجه مساء تلك الليلة الملتبسة من باريس إلى تونس العاصمة واصطحب “بن علي” إلى خارج البلاد تاركاً الساحة للأحداث تأخذ مجراها كما أرادت “الفوضى الخلاقة” ، وهكذا كان ، فقد تسارعت الأحداث بعد ذلك ، وشجع خروج “بن علي” المفاجئ بقية الشعوب العربية على الثورة ، ومما يؤسف له أن عدداً غير قليل من شباب الأمة العربية أرادوا تقليد البوعزيزي فأحرقوا أنفسهم ظناً منهم أن ذلك سوف يؤدي إلى نفس النتيجة التي حصلت في تونس ، غافلين أن “وراء الأكمة ما وراءها” وأن الفوضى الخلاقة هي التي أشعلت الفتيل ، وليس البوعزيزي المسكين !
ويذكرنا ترحيل ـ ولا أقول رحيل ـ زين العابدين بترحيل شاه إيران ليستكمل الخميني ثورته المشبوهة ، وتتابع إيران الدور المرسوم لها في إطار الفوضى الخلاقة لتصبح اليوم لاعباً أساسياً في مجريات “الربيع العربي” !
المشهد الختامي :
والآن ، تعالوا نلخص الحكاية ونجمع الخيوط من جديد .. لقد كان واضحاً منذ البداية أن المستعمرين لن يدعوا المنطقة العربية بحالها بعد ترحيل “العثمانيين” عنها ، فقد سارع المستعمرون إلى فرض سيطرتهم على المنطقة ، ضاربين بعرض الحائط كل الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب الذين آزروهم وساعدوهم في الخلاص من العثمانيين ، ولم يكتف المستعمرون بذلك بل عجلوا بتقطيع أوصال المنطقة بجهود الثنائي العكر ( سايكس ـ بيكو ) لإضعافها وضمان عدم وحدتها حتى لا تقوم للعرب قائمة بعد ذلك ، واستكملوا مؤامراتهم بإصدار “وعد بلفور” الذي زرع “السرطان الصهيوني” في قلب العالم العربي ، ثم زراعة “السرطان الإيراني” في الخاصرة ، وأخيراً إشعال فتيل “الفوضى الخلاقة” التي خلطت الأوراق بشدة حتى بدت المنطقة في حالة من العبث الذي يعيد إلى الذاكرة عبثية “بيكيت” ومسرحيته سالفة الذكر !
إن هذه القراءة لحالنا الراهنة نحن العرب ، التي تبدو للوهلة الأولى قراءة سوداوية ، لا تعني الوقوع في اليأس ، فعلى الرغم من استمرار المؤامرات على أرضنا العربية وعلى إسلامنا وعلى وحدة شعبنا العربي ، فهناك اليوم بوادر تغيرات واسعة في خارطة العالم السياسية وفي موازين القوى ، لعل من أبرزها التغييرات التي كشفت عنها ثورات “الربيع العربي” ، إذ بدأ الشعب العربي يستعيد وعيه ، وها هو لأول مرة منذ قرون يحطم جدار الخوف ، ويخرج بصدره العاري يواجه آلة الاستبداد والفساد ، وهو ينادي بأعلى صوته : “لا” ، بعد أن روضوه طوال قرن من الزمان على أن يقول : “نعم” !
وفي المقابل نرى بوادر عديدة على تهاوى المعسكرات المعادية ، فالمعسكر الغربي يعاني اليوم من مشكلات اقتصادية مدمرة ، ناهيك عن مشكلاته الاجتماعية والأخلاقية التي باتت تنخر جسده بعمق ، وليس المعسكر الشرقي بأحس حالاً من ذلك ، ففي الوقت الذي يسير فيه هؤلاء نحو الهاوية نجد الشعب العربي يصحو من سباته ، ويقف في وجه جلاديه في الداخل والخارج ، ويبدأ بتطهير الأرض العربية من بقايا الاستعمار ورموز الفساد والاستبداد ، مفتتحاً القرن الحادي والعشرين بهذا “الربيع العربي” الذي قلب الطاولة على رؤوس مهندسي “الفوضى الخلاقة” ما يوحي بنقلة نوعية سوف تجعل هذا القرن قرن العروبة والإسلام بلا منازع .