المآذن ليست من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها صارت تراثاً إسلامياً عندما كبرت المدن وصار من الضروري أن يقف المؤذن على مرتفع ليصل صوته إلى أبعد مدى ممكن في زمن لم تتوفر فيه مكبّرات الصوت، وحتى مكبّرات الصوت اليوم فهي توضع عالياً ليصل صوتها إلى بعيد في زمن الضجيج أو التلوث الصوتي للبيئة، رغم أن الضجيج علامة على الحياة، في حين قد يكون السكون مؤشراً على الموت.
وعلى مدى التاريخ وفي كل البلدان كانت المآذن مما اعتنى به بناة المساجد، فصارت المآذن معالم تاريخية وأثرية في غاية الأهمية دالّة على حضارات الشعوب، وسِمات الأمم، ومحددة لهوياتها.
لم يكن غريباً أن يحزن الناس على مئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب التي تم تدميرها قبل حوالي عشرة أيام. فقد كانت مَعْلَما رائعا من معالم الحضارة الإسلامية والهندسة المعمارية وفنونها. وقد سبق ذلك إحراق المسجد ومكتبته التاريخية التي تضم العديد من المخطوطات القديمة، رغم أن المسجد الأموي، الذي شيّده الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك سنة 96 هجرية (716م)، يُعَد ضمن الإرث الحضاري العالمي لمنظمة اليونسكو.
نعم لقد أحرقه نقفور فوكاس إمبراطور الروم سنة 962م، فرممه سعد الدولة الحمداني. ثم اعتنى به وزاد في مساحته نور الدين زنكي، ولم يكن سلاطين المماليك أقل اعتناء فقد جعلوا له حارساً يحرسه طيلة اليوم. والمسجد في وضعه الحالي يعود إلى عصر الملك الظاهر بيبرس، ومئذنته الحالية المدمرة تم بناؤها بارتفاع خمسين متراً سنة 472هـ، وجُدّدت سنة 873هـ.
ورغم حزننا على المسجد ومئذنته فإن حزننا على قتل الإنسان ليس له حدود، فسفك دم الإنسان أعظم بكثير من تدمير الآثار وفقدان العمران. نحزن ونتألم لإيماننا بقدسية حياة الإنسان وحصانتها (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، هذا عن نفس واحدة فكيف بمئات الأنفس تُقتل يومياً في سوريا.
فهل نستغرب أن يبكي الشعراء والكتّاب على عشرات الآلاف من القتلى وعلى أطلال سوريا وأطلال مئذنة حلب الشهباء، أقدم مدينة في التاريخ حسب قائمة اليونسكو لاقدم المدن؟ ولقد وقعتُ مؤخراً على قصيدة للشاعر عامر الدبك بعنوان”المتنبي يبحث عن حلب“، إذ إن الشاعر أبا الطيب المتنبي عاش في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، فقال الشاعر على لسان المتنبي:
أتيت أرى الشهباء لكنَّ خيبة *** أطاحت بأحلامي وأدمت صباحيا
فحطت سحابات من الحزن في دمي *** كأنِّي أرى ما لا يُرى في دمائيا
لقد بات فيها كلُّ شيء مشوها *** فقد ضيعوها واستباحوا تراثيا
كأنِّي بها أمست بقايا مدينة *** إلى الموت قد أمسى بها النجم هاويا
طلولٌ وأشباحٌ ووهمٌ مخادعٌ *** وقطاعُ أحلام. كفى الموت شافيا
سأرحل.. لا شعري يعيد مدينتي *** ولا أدمعي تحيي دهورا خواليا
لعلي أرى الشهباء في قبر وحدتي *** فأبعثها.. فالقبر أمسى عزائيا
أضم بقاياها وأحيي رميمها *** وأطلقها بيضاء للحب ثانيا